صفحات الثقافة

الراء الفاصلة/ تميم هنيدي

 

 

قد يكون الموضوع جافاً بعض الشيء، مملاً، مستهلكاً، شبيهاً بحكايا الروايات التجارية. فمَن لم يكتب عن الحب بعد؟ لكنّ الراء الفاصلة (بين الحب والحرب) هي تلك التي نتأرجح على حبلها منذ خمس سنوات تقريباً، نحن جيل الحرب الذي أعيد تصميمه بقدرات جديدة وميزات تؤهله لأن يمضي قدماً دونما ارتعاش أو رهبة أمام أي شيء كان في السابق سبباً كافياً لأن يفقده وعيه؛ كمشاهدة عددٍ من الرؤوس المقطوعة المعلقة بعناية على حائط أحد الشوارع مثلاً. نحن هؤلاء، مثقلة قلوبنا بكلّ أنواع الألم. ما زلنا نُدخل الحبّ عنوةً الى أبشع دهاليز الحرب، نُبقيه ملتصقاً بقاع أرواحنا حتى نغدو كالمجانين، في دنيا غير الدنيا.

لم تكن فاتن قد أتمّت آنذاك حولها الثاني والعشرين، حين دخلت جامعةُ حلب لبَّ الحوادث السورية وتصدّرت العناوين. اختلف كثيرون حينها في ما إذا كان الذي يحدث في حرم الجامعة تمهيداً لدخول الشهباء في الإنتفاضة التي انطلقت شرارتها العام 2011 أم لا. كان بين الناس من نَعَتَ المتظاهرين حينها بالمخرّبين الساعين إلى الزجّ بحلب في دوامة الحراك السوري. واعتقد آخرون أن ما يحدث هو مشاركة طبيعية من طلاب الجامعة أسوةً بما كان يحدث في العديد من المحافظات المجاورة. أما فاتن فلم يعنها كلّ هذا، هي التي وُلدت في بيتٍ مسيحيٍّ محافظ لم تحمل جدرانُه سوى صور طفولتها وأختها التي تكبرها بعامين. مرّ على شفاه فاتن حبيبان فقط، أو هكذا قالت. أولهما منار الذي لا يزال حتى اللحظة يُكمل خدمته الإلزامية على جبهةٍ ما في صفوف الجيش السوري. والآخر قد يكون الشخص الأعثر حظاً في العالم. درسَ عماد المعلوماتية في جامعة حلب حتى السنة الرابعة حين تُوفي والده إثر حادثٍ مؤلم بحيث رحل عن هذا العالم تاركاً لعماد وأخويه الكثير من الفراغ بالإضافة الى مكتبٍ (خاسر) لتأجير السيارات، يشاركهم فيه عمّه الذي بدأ أولى محاولات الاستحواذ عليه بعد الدفن بأسبوعٍ واحد. تفرّغ عماد لتركة أبيه تفرغاً كاملاً، ولم يكن يترك المكتب إلا لرؤية فاتن، الحبيبة البعيدة التي تسكن شقةً تعلو شقّته بثلاثة طوابق، وتبعد عن فراشه مسافةً كافيةً لإبقاء عائلتيهما بمنأىً من أي اشتباكٍ اجتماعيٍ لا تُحمد عقباه. فمنذ عامها السابع عشر، لم تجرؤ فاتن أن تعترف حتى لأختها بتفاصيل الحب الذي يجري في عروقها ليستقرّ كل لحظة في قلب ذاك القابع تحت منزلها بثلاثة طوابق. كانا يخرجان بسريّةٍ تامة، كمن يداعب موتاً مرتقباً. حين بدأ الوضع الأمني يضطرب في حلب، قرر أبو سامر أخذ بناته وزوجته انتقالاً إلى منزلٍ آخر أكثر أمناً. أمضى عماد ثلاث ساعات يودّع فاتن عبر الهاتف، كما أمطرها بالوعود التي عادةً يتحامق الرجال ويلقونها على مسامع حبيباتهم. بالطبع، قال تلك الوعود بيقينٍ تام، من دون أن يعلم أنه في صباح اليوم التالي، وبينما يراقبها تصعد سيارة الرحيل من خلال نافذة مطبخه المطلة على الشارع، ستكون تلك المرة الأخيرة التي يرى فيها شعرها الطويل يشقّ طريقه بين كلّ ذاك الموت!

بعد خمسة أشهر باع عماد حصّته في المكتب إلى عمّه، وركب طريق المجهول نحو الحدود التركية مع مَن بقي من عائلته، بعد مقتل أخيه الأصغر حسام برصاصة قنّاص لم يخطئ موقع القلب بشعرةٍ واحدة. أما فاتن، التي كان عماد غذاء روحها، فبدأت تتعرّف إلى أولويات جديدة في الحياة: كالماء والكهرباء والبقاء على قيد الحياة!

وصل عماد أخيراً الى أوروبا بعد رحلةٍ كادت أن تودي بحياته مرتين. استقرّ وعائلته في فرنسا بعدما باءت كلّ محاولات وصولهم إلى أسوج بالفشل. وصل أخيراً الى القارة العجوز التي تُعتبر المقبرة الكبرى للسوريين الأحياء في العالم. ها هو حيث أراد أن يكون منذ صغره، لكنه لم يكن يوماً يتخيل أن تكون أوروبا قاتمةً إلى هذا الحد. كان يحلم بأن يصبح موظفاً في شركةٍ كبيرة تضمّ ألوف الموظفين الذين يلتزمون الدوام وأوقات الاستراحة، أراد راتباً عالياً يكفيه ليموّل محلّ الزهور الذي حلُمَت به فاتن منذ سنوات. لكنه لم يكن يرغب بأن يصل أوروبا مزاحماً عشرات الجثث في البحر، وملايين الحاسدين. كما لم يرغب يوماً بأن يصحب عائلته معه. فقد أرادهم – بكامل عددهم – في حلب.

لم يتعلم عماد الفرنسية، لكنّه كان يترجم لأمّه شتائم سائقي التاكسي على أنها عبارات ترحيب بالسوريين، كما كان يصحبها معه الى المقاهي التي يجتمع فيها المهاجرون العرب كلما شعرَتْ بضيق الصدر. أما هو، فكان كلما ضاق صدره ينظر الى خصلتَيّ الشعر الأسود اللتين أهدته إياهما فاتن في عيده الخامس والعشرين، فيختنق شوقاً. لقد عشق شعرها إلى درجةِ أنه حاول عدّ خصلهِ مرةً وهي نائمة. صبغه مراتٍ عدة، كانت الأخيرة منها سبباً لخسارة الكثير من شعرها بعدما أكثر من المعجون رغبةً بجعل اللون داكناً أكثر. في هذه الأثناء، كانت فاتن في أكثر مدن العالم ظلاماً كانت – بابتسامتها وجنون شعرها وملابسها العفوية، وحذائها الصغير وأساورها الغجرية التي تصنعها حين تعجز عن النوم من صوت القذائف- ملقاةً بوجهٍ مشوّه ويدٍ مبتورة، طريحة فراشٍ داكن اللون من دمائها. لم تكن تسمع شيئاً جرّاءَ كلّ الجنون الذي كان يجري في الحي حينها، تحملق عيناها بالغرباء الذين يقفزون فوقها كالمجانين، يسألونها عن بيتها واسم أبيها. بعضهم يرجوها أن تنطق الشهادة، ويصرخ آخرون في وجهها بكلامٍ غير مفهوم. وحدهُ كهلٌ نحيلُ الجسد يجلس القرفصاء بجانب جسدها، كان يُمسّد شعرها الأسود، ويبتسم لها بدفء كأنه يرى روحها تعبر سبيل الجسد نحو الخلاص. لكنّ فاتن لم تبدُ كأنها تتألم، كانت تموت وحسب.

محاطاً بالخذلان والوحدة كما صوت زحف الموت الثقيل، يتوسط بعضَ البراميل الملونة وعشرات الصور، كان منار يدخّن واحدةً من آخر سيجارتين بحوزته وينتظر التغطية الخليوية أكثر من النصر. منار الذي عاد الهواء إلى رئتيه مجدداً مذ علمَ برحيل عماد تاركاً خلفه حبيبةَ الطفولة وشريكة القُبل المسروقة من سطوح عمارات السريان في حلب. انتظر منار وقتاً طويلاً وثقيلاً حتى وصله سربٌ من الرسائل، كانت إحداها من عماد، غريم الأمس، هذا الذي تصله أخبار الموت عبر الـ”فايسبوك”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى