راتب شعبوصفحات مميزة

الراية البيضاء/ راتب شعبو

إلى علي الشهابي المفقود في سجون المخابرات السورية

يخرج من سوريا اليوم جيل من السوريين طالما حلم بتغيير سوريا؛ الجيل الذي تفتح وعيه السياسي في الربع الأخير من القرن العشرين، بعدما استولى على السلطة في سوريا ضابط اسمه حافظ الاسد، خبر جيداً تركيبة السلطة التي انقلب عليها من الداخل، حيث كان يشغل منصب وزير الدفاع فيها، كما خبر جيّداً فنون الانقلابات العسكرية التي وسمت تاريخ سوريا بعد الاستقلال، بما يكفيه لإثبات ما قاله بعدما قاد انقلابه الخاص: “لا انقلاب من بعدي”. وأثبت مهارته في تحويل سوريا تدريجياً إلى مزرعة مملوكة ومستباحة لأهل السلطة، وصولاً إلى التوريث.

كرّس هؤلاء السوريون الذين يخرجون من بلدهم اليوم واحداً تلو الآخر، شبابهم في خدمة تغيير حلموا به. لا يهمّ أن يكون ما حلموا به منطقياً أم لا، قابلاً للتحقق أم لا. لا يهمّ أن يكون شكل الحكم الذي حلموا به أرقى أم لا. لا يهمّ أكانوا في حلمهم وسعيهم نصّيين ودوغمائيين ومتطرفين أم لا. ما يهمّ، أنهم طالبوا بحقّ، في أن يكون لهم موقف مغاير. عملوا على أن تكون في سوريا مساحة كافية لرأي آخر، كائناً ما كان. طالبوا بأن يمارسوا حقهم الدستوري في بلدهم، وأصرّوا عليه. ما يهمّ أن نشاطهم الذي استهلك أعمارهم وراحة بالهم وأمن عائلاتهم، كان يسعى بشكل غير مباشر لتكريس مفهوم الحق، حق الفرد والجماعة في المخالفة والاعتراض. ما يهمّ أن سحق هؤلاء الناس والمثابرة على ملاحقتهم وجعلهم عبرة لكل من تسوّل له نفسه السير في طريق المعارضة، هو ما مهّد السبيل إلى الخراب الذي تشهده سوريا اليوم.

تعرّض هؤلاء “الحالمون” لصنوف شتّى من الاضطهاد السياسي، وحين نقول الاضطهاد السياسي في بلد مثل “سوريا الأسد”، فإن هذا يشمل كل شيء، بما في ذلك الحرمان من لقمة العيش ومن الوظيفة ومن التعليم ومن السفر وحتى من إمكان البيع على بسطة في الشارع. بعض هؤلاء “الحالمين” قضى في هذا السبيل، تحت التعذيب أو تحت وطأة المرض المهمل في السجون. البعض أنجته المصادفة من الاعتقال فعاش سنوات بهويات مزوّرة يمارس نشاطه السياسي متخفياً عن أعين المخابرات ومخبريها، هذا يعني بعيداً من أهله الذين يصبحون تحت مجهر المراقبة الأمنية بحثاً عن خيط يوصل أجهزة المخابرات إلى ابنهم “المطلوب”. في حالات غير قليلة، تعرض بعض أهل المطلوب للاعتقال كرهينة حتى يسلّم المطلوب نفسه. وفي معظم الحالات كان ينتهي المطاف بالمطلوب إلى أن يقع في الاعتقال بعد فترة تخفٍّ طويلة أو قصيرة لينضمّ إلى رفاقه في “الداخل”. البعض التهم السجنُ جلَّ أعمارهم ووسم تاريخهم الشخصي وتاريخ عائلاتهم بما يشبه العاهة الدائمة. صار السجن حياة موازية في سوريا، حتى أن السجن بات مسقط رأس سوريين لأن أمهاتهم اعتُقلن وهنّ حوامل، ثم وضعنهم في السجن. وقد تكون مأساة هؤلاء النسوة اللواتي أنجبن في السجن، أقلّ ألماً من مأساة الأم التي تُعتقَل بعد فترة وجيزة من ولادتها فتبتعد عن وليدها. على الأقلّ تبقى أمّ “وليد السجن” في جوار ابنها. دائماً هناك شقاء أشقى. وصار في الحياة السورية حياة هاربة ومتخفية ونائية؛ حياة عائلات تشكلت في ظروف التخفي والملاحقة الأمنية؛ أطفال ولدوا ونشأوا في ظروف التخفي، معرّضين في كل لحظة للتشتت، باعتقال الأب أو الأم أو كليهما. في ترقب هذا المصير والهروب منه، يتشتتون في التنقل الدائم من بيت إلى بيت ومن منطقة إلى أخرى، كما تفرض وتقتضي شروط التخفي.

على خلاف الصورة التي طالما حاول النظام السوري تصديرها عن “معارضته”، لم يكن هؤلاء يحملون السلاح في نضالهم، فهم كانوا سلميين بشكل تام، ولا سلاح لهم سوى القلم والمطبعة البدائية: سوى القول والتعبير. ولم يكونوا ذوي خطاب طائفي أو إسلامي مغلق. لم تكن لهم ارتباطات خارجية مع دول تمدّهم بمال أو دعم من أي نوع. كانوا ببساطة رعايا يطمحون الى المواطنة، وكان في هذا سرّ الوحشية التي قوبلوا بها من النظام الأسدي “الأبدي”.

بعد سنوات طويلة من الحلم والمحاولة ومطاولة الأمل، وبعدما ازدهر حلمهم في ربيع 2011 وشعروا بأن بلدهم على أبواب التحرر من “الحكم الأبدي”، وجد هؤلاء نفسهم في عجز تامّ أمام بلدهم الذي راح يذوي أمام أعينهم، مرةً على يد نظام مستبدّ مبدأه الوحيد الاستمرار في الحكم ولو على حساب العقل والضمير، ولو على حساب يُتم الأطفال ودمهم، ولو على حساب سلامة سوريا الوطن. ومرةً ثانية، على يد تنظيمات إسلامية ذُهانية مريضة بالانغلاق على فكرة تمثيل الله على الأرض وممارسة “صلاحياته” بطريقة لا تقلّ وحشية عن النظام. ومرةً ثالثة على يد تحالف تقوده أميركا التي تفتح بفعل هذا الصراع الأعمى حساباً جديداً للتدخل المباشر الدائم في سوريا؛ تدخل مباشر بأمد مفتوح يقدّر وزير الدفاع الأميركي السابق أنه قد يستغرق ثلاثين عاماً.

ثلاثة مخالب متكاملة في وظيفتها، ومتحالفة في صراعها، تمزق سوريا وتضيّق الدائرة إلى حد الاختناق على هؤلاء “الحالمين” الذين تمثل عداوتهم القاسم المشترك لهذه المخالب الثلاثة. يخرج هؤلاء “الحالمون” من سوريا كمن يرفع الراية البيضاء بعدما رفعوا طويلاً “الراية الحمراء”. إن في خروجهم ما يشبه خروج الروح من الجسد.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى