صفحات العالم

الربيع العربي ضحية الحرب الباردة المستعادة/ مطاع صفدي

 

 

 

عندما يسير عالم اليوم بخطى حثيثة نحو أجواء حرب باردة جديدة يغدو المحرك الرئيسي للصراع لها، هو التهافت بين القوى الكبرى على مناطق النفوذ، على مواقعها الإستراتيجية وثرواتها، ومن ثم على اكتساب مواقفها السياسية لجانب هذا القطب الكبير أو سواه. وغني عن البيان أن القارةالعربية والإسلامية هي المالكة منذ القديم لأهم وأخطر هذه المواقع وهي كانت ولا تزال تعج بتلك الشبكيات المعقدة لمختلف عوامل القوة الطبيعية والبشرية، التي شكلت بؤر الجذب والإغراء لمطامع الاستبداد والإستغلال من قبل أباطرة الماضي والحاضر خصوصاً.

نقول هذا وعالمنا العربي يتخبط في لُجج دمائه، بما لا يعرفه في أظلم عصور أفوله الحضاري. لم تكد أقطاره تتحرر من الإستعمار التقليدي، حتى انزلق أهمها إلى خارطة أخرى، إذ تحولت دُولُه المستقلة حديثاً إلى مناطق نفوذ متوزعة ما بين قطبيْ القوى العالمية الكبرى المسيطرة كونياً طيلة النصف الثاني من القرن العشرين. وهما معسكرالشيوعية والرأسمالية، أو الإتحاد السوفييتي، وأمريكا والغرب الأوروبي. فليس ثمة حدث سياسي أو اجتماعي، بل ثقافي كذلك. داهم واحداً أو أكثر من الأقطار الرئيسية خلال هذه المرحلة، لم يكن على صلة ما بظل دولي. لم يكن ثمة حقل عمومي في تلك الأقطار المتميزة متروكاً لذاته، ليُنبتَ أزهاره إلا وحلّت عليه لعنة أشواكه المضمرة في هوامشه. لم يكن»الأجنبي» مجرد لفظ عابر بين القيل والقال. كاد يكون «الأجنبي» هو الوجه الخلفي للوطني، للأهلي. هل كانت الحرب الباردة التي غطت أكثر من ثلثي المساحة العالمية، لِتتحقق، لِتُزعزع طبقات الأرض حيثما تحلّ وتنتشر، هل كانت لِتدوم زهاء نصف قرن وهي تهدد الإنسانية بالفناء النووي الكلي، لو لم يكن هناك عالم آخر مختلف هو العالم الثالث الذي امتصت حروبُه التحريرية صراعاتِ النفوذ الدولي والتنافس المحموم على مراكزه الإستراتيجية، عودة أجواء الحرب الباردة إلى العلاقات الدولية خلال هذا العقد الثاني من القرن الحالي الواحد والعشرين سوف تتحمل أعباءها المباشرة ما كان يعرف بأقاليم العالم الثالث. والقارة العربية الإسلامية ستوفر لهذه الحرب ساحاتها الرئيسية بحيث لن يمكن أن يُفهم أي حدث عمومي كبير يجتاح بلداً أو إقليماً من هذه القارة، دون اكتشاف خلفيته الكامنة في شبكية هذه الحرب الكونية الجديدة، المستحدثة بإرادة قطبيها ماضياً وحاضراً، وهماالشرق الروسي والغرب الأوربي الأمريكي. فما زال الهدف المركزي لكليهما هو السيادة المطلقة الأحادية على مصائر العالم. وهي نوع السيادة الإمبراطورية التي لا تقبل أية شراكة من بعض أندادها، كمالا تتسامح مع أي تمرد من قبل أحد من أتباعها.

أما قارة العرب والإسلام فهي التي تتمتع بمصطلح المركز المعلَّى، لأنها واقعة جغرافياً وبشرياً في نقطة التصالب القصوى، المهدِّدة والمنذرِة بانقسام مشروع الإمبراطورية الكونية القائمة والقادمة ما بين جناحي العدوين المزمنين؛ الروسي والأمريكي، هذه اللوحة الجيوستراتيجية لا يمكن التغاضي عن مؤثراتها ككل في مجريات أقاليمها. وأحداثنا العربية الرهيبة ما بين الأمس القريب واليوم، تلعب أدوار الشهادة المباشرة على فاعلية هذا التأثير وجديتها الصارمة.. وذلك كما يلي: لقد اقترب الميلاد العلني للحرب الباردة الجديدة مع انفجار دورة صراع كبرى بين بوتين وأوباما حيال معضلة السؤال عمن يمتلك ناصية «الربيع العربي»، فبعد أن فوجئ القطبان باندلاع الشرارات الأولى الناجحة للربيع، وتحوله السريع إلى ظاهرة قيادية شاملة واعدة بأخطر الإنقلابات البنيوية، التي كانت شبه مستحيلة طيلة عقود مظلمة من تاريخ النهضة العربية المعاصرة، كانت أمريكا سباقة إلى المبادرة، إلى التغلغل في أدغال الحدث العربي غيرالمتوقع؛ بدلاً من مكافحته والتصدي له وجهاً لوجه. فإنها أدركت بسرعة أن سر هذا الربيع هو قدرته العظمى على تحريك الكتل الجماهيرية الكبرى وتفجير مكامن الغضب الجماعي في بناها العقائدية العميقة. فمن يسيطر على مفاتيح هذه القدرة يمكنه أن يستخدم طاقتها كيفما يشاء، ولأي هدف. فبدلاً أن يكون الهدم وسيلة للبناء، يصير غاية في ذاته، ويوظف في خدمة أي مخطط مهما كان شيطانياً، وإن انتحل لذاته خصائصَ الملائكة أو الأنبياء، ومع ذلك فقد قيل في بعض محافل صناعة القرارات الغربية العليا، أن أمريكا لم تلتقط هذا السر إلا بعد أن تلاحقت ثلاث أو أربع ثورات ربيعية خلال أشهر قليلة التي انفجرت أحداثها دون أن تأخذ إذناً مسبقاً من أمريكا أو سواها، وكانت الصدمة الكبرى لدى أهل الغرب (والصهاينة في كل مكان) خصوصاً، هوسقوط العهد الفرعوني في مصر. ولذلك خضعت ثورة يناير في القاهرة إلى أخطر أدوات التخريب السري والعلني. ولم تصل إلى شبه عتبة الأمان النسبي حاضراً إلا عبر أصعب المخاضات الدموية، بالاستعادة ثانية لِصيغة دولة الأمن العريقة وعُنْفها الفرعوني المتأصل.

وأما عندما اندفعت رياح الربيع إلى عمق المشرق مع اندلاع الثورة السورية، فقد انتقلت أجهزة موسكو بكل خبراتها إلى حماية نظام دمشق. لن تكون روسيا بوتين متساهلة مع ضياع سوريا، الجوهرة الثانية بعد مصر، وذلك إبان العصر الذهبي للتحالفات العربية مع الاتحاد السوفييتي السابق، زهاءَ نَصف قرن قبل انهيار نظامه الشيوعي، واستمرت بعده إلى حد ما. حتى قبل الانشقاق الأوكراني في عمق أوروبا؛ هكذا تبلورت على عجل خطوط أولية لخارطة المعسكرين التقليديين والمعاصرين معاً، للحرب الباردة المستعادة، حتى كاد المعسكر الموسكوفي المشرقي أن يسعد حقاً بإنبناء هيكله جغرافياً وعسكرياً أمنياً. فقد صدّقت إيران أن حدودها الغربية لامست ساحل البحر الأبيض المتوسط وأن هذه المساحة الهائلة الممتدة من ذلك البحر ولبنان إلى كل سوريا، ومن ثم إلى العراق، قد شكلت الأرضية الحضارية الخصبة لولادة المشروع الكسروي إقليمياً، حليفاً وشريكاً مكرساً للمشروع القيصري الروسي الذي غطى وسوف يغطي المشرق الأوروبي من أوراسيا حتى عمق آسيا الوسطى.

في هذه اللحظة العجيبة من تحولات العالم (الباروكي المختلط) للواقع الدولي اليوم، ليس هناك معسكر سوفييتي لاشتراكية عالمية تضم شعوباً فقيرة ومكافحة لنيل خبزها وحريتها كما كانت حاله ماضياً، لكنه معسكرٌ قيصري هائل لأنظمة حكمٍ، هي أقرب إلى فاشية الفئويات الحاكمة المستبدة، والمدعية لعقائد قروسطية مؤسطرة. فليس الانقسام الثنائي المعدّ لإنسانية مضطهدة معذبة، هو لصالح معسكر للعدالة والحرية وضداً على معسكر للطغيان والإستغلال. مثل هذه الثنائية المستحدثة تعصف بولادتها رياح العنف المطلق والمجنون وغير المسبوق منذ أيامها الأولى؛ كأنها تحديثٌ مشؤوم لعصر ما قبل الإنساني والحضاري. لعصر مصبوب من الرصاص الخالص، يكفّن أجساداً كلسية خاوية من أرواحها. لكنه يؤمن بالعنف الجامع وحده ما بين وسائله وغاياته في جنس من رصاص مطلق، معقود لأشباه المفاهيم والقيم العقيمة إلا من التبريرات المغلوطة والمبتذلة.

أما المعسكر الثاني فلا حاجة إلى إعادة بنائه، هو قائم منذ قيام الطغيان الاستعماري الحاكم على أكثر من نصف العالم حتى اليوم. لكن الإختراع الجديد المنعش لمذهبه الآفل، فهو الموكول إلى الرئاسة السمراء،الأولى في»البيت الأبيض». هنالك رئيس ممشوق القامة، يحكمه رأس سياسي أكاديمي، مأخوذ بمهمة نادرة في تاريخ الأباطرة، وهي تصفية أعظم إمبراطورية انتهى إليها تاريخ الإنسانية. له تجاربه العجيبة المتحركة تحت هذا الهدف الإعجازي. وقد اختار بلاد العرب كحقول مستباحة مقدماً لأفكاره ومشاريعه؛ يعتبر نفسه أنه صاحب الإكتشاف الأهم في مواجهة الربيع العربي الذي يبشر بربيع شامل لمضطهدي الأرض جميعاً. إنه القابض على سر ثوراته. فبدلاً من المواجهة المكشوفة مع أحداث كل ثورة وتكبد تكاليفها الباهظة، ينبغي القبض على مفتاحها المختفي وراء مفاجأتها، ولقد نجحت المحاولات الأولى في اقتناص ذلك المفتاح السري. كانت سوريا الضحية النموذجية للتجريب (العبقري). كان له عنوان واحد هو: كيف يمكن تحويل أعداء الثورات المكشوفين والمستورين، بالقوة أو بالفعل، إلى زُمَرِ من القتلة المحترفين، متعايشين ليلاً نهاراً مع معاشر الثوار الحقيقيين. هؤلاء هم الموكول إليهم قلب كل قائم إلى خراب ينعي خراباً سابقاً، أو ممهداً لآخر قادماً لامحالة..

لعلّ أوباما يدرك الحكمة القائلة أخيراً، وهي أن الدبلوماسية الخاطئة أسوأ من الحروب المدمرة.. التي يهرب منها دائماً كما يدعي.

 

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى