صفحات الناس

الربيع العربي كما رسمته ملامح شبان أربعة/ كنان قوجه

 

 

 

يصعب تجاهل المقارنة بين حادثة حرق البوعزيزي لنفسه حياً كحدث مؤسّس لما عُرف بـ «الربيع العربي»، وبين حادثة حرق تنظيم «داعش» للطيار الأردني معاذ الكساسبة، كمشهدية تعبّر عما آل إليه هذا الربيع. ولكن على رغم ما تثيره المشهديتان من شهوة للمقارنة، تبقى المقاربة بين الشخصيتين ضعيفة.

فالبوعزيزي قبل حرق نفسه، كان يعيش على هامش الحياة، يعاني الفقر والبطالة، شأنه في ذلك شأن السواد الأعظم من أبناء الشعوب العربية، وكان يحاول كسب قوت يومه بجرّه عربة خضار. ولما منعته السلطة، ممثَلة بشرطية، حتى عن هذا العمل البائس بصفعة على الوجه، ردّ عليها بإحراق نفسه، ليكون بذلك الشرارة التي أشعلت التظاهرات في تونس، وأدت إلى تنحي الرئيس زين العابدين بن علي، وانتقال التظاهرات إلى بعض الدول العربية الأخرى.

وعلى عكسه، ينتمي الطيار الأردني معاذ الكساسبة إلى فئة أقرب إلى متن الحياة من هامشها. فهو ملازم أول طيار في سلاح الجو في الجيش الأردني، ما يعني أنه أقرب الى الشرطية التي صفعت البوعزيزي منه الى البوعزيزي نفسه.

الشابان من مواليد الثمانينات، احترقا عن عمر السادسة والعشرين عاماً.

في المقابل، هناك شابان آخران تبدو المقــــاربة بينهما منطقية أكثر. الشابان مصــريان، وهما وائل غنيم وإســـلام يكن.

يمكن القول إن وائل غنيم يعدّ نموذجاً للشاب العربي الناجح، فقد كان يشغل منصب المدير الإقليمي لشركة «غوغل»، والمسؤول عن تسويق منتجاتها في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وكان يقيم في «فيلا» في مدينة دبي. أسس غنيم صفحة «كلنا خالد سعيد» على «فايسبوك»، التي لعبت دوراً بارزاً في التحريض على نظام الرئيس حسني مبارك، ودعت الى التظاهرات التي أدت في النهاية إلى إسقاطه.

برز للإعلام عندما طالب رفاقه من شباب ميدان التحرير بإطلاق سراحه، بعد أن اعتقلته السلطات المصرية في بداية الثورة المصرية، وأصبح بعد ذاك نجماً إعلامياً ورمزاً لثورة الشباب المصري، قبل أن يخفت بريقه مع اكتساح الإخوان المسلمين للمشهد الإنتخابي في مصر، ومن ثم كان انقلاب السيسي عليهم لتعود الساحة السياسية حكراً على القطبين الدائمين، العسكر والإسلام السياسي.

وفي الوقت الذي انتهت فيه ظاهرة وائل غنيم، وساد الإحباط العام بين الشباب المصري لمآلات الثورة المصرية، كانت الحرب السورية تستعر، وتتنامى فيها ظاهرة التنظيمات الجهادية السلفية، وأبرزها «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) الذي استقطب شباباً مسلماً، عربياً وغربياً، عبر دوافع مركّبة، فظهر اسم إسلام يكن.

ففي إحدى الصور القادمة من مدينة الرقة، عاصمة الخلافة الداعشية، تعرّف بعض المصريين على صورة لشاب وسيم يضع نظارات طبية، ويمتطي الحصان شاهراً سيفه، ويصرخ في حشد من الناس حوله. شاب كان جارهم في حي هيليوبوليس الراقي في منطقة مصر الجديدة في القاهرة، وهو إبن ذكر وحيد مع شقيقتين لتاجر مصري، تخرّج في البداية من مدرسة مختلطة، ثم من كلية الحقوق في جامعة عين شمس. كان يهوى رياضة كمال الأجسام والموسيقى، ولم يُعرف عنه أي اهتمام سياسي.

ومع تسليط الإعلام الضوء على إسلام، تبين أنه غيّر اسمه إلى «أبي سلمة يكن»، وأنه كان ينشر صوراً للجثث والرقاب المقطوعة في حسابه على تويتر، ويتوعد بتمكين الله لدولة الخلافة في مصر. وبالبحث في كيفية التحول الذي طرأ عليه، نلاحظ أن هذا التغيير حدث بالآلية التقليدية لهذا النوع من التبدلات: من حضور الدروس الدينية بداية، إلى إطلاق اللحية ولبس الجلباب القصير، وصولاً إلى السفر إلى تركيا ومنها إلى سورية، ثم الانضمام إلى تنظيم داعش للجهاد في صفوفه. وقد سرت إشاعات عن مقتل إسلام يكن في المعارك التي خاضها التنظيم ضد الأكراد في مدينة كوباني، ولكن مقتله لم يؤكد رسمياً بعد.

إذاً لدينا هنا أربعة شباب من مواليد الثمانينات: تونسي أحرق نفسه حياً فكــــان شرارة ثورات شبابية، مصري برز كنجم لهذه الثورات، مصري آخر قادته هذه التحولات إلى السفر للجهاد مع تنظيـــم سلفي في بلد لم يزره من قبل، وأردنــي طيار أُسقطت طائرته ليقبض عليه أفراد هذا التظيم ويحرقونه حياً.

بين النارين: نار البوعزيزي المؤسِسة، ونار الكساسبة كحالة راهنة، امتدت خمس سنوات انتخبت تونس خلالها الباجي قائد السبسي البالغ من العمر 88 سنة، وفي مصر أُفرج عن الرئيس المخلوع حسني مبارك بعد تبرئته من كافة التهم التي نسبت إليه، وتحولت سورية ميدانا لحروب طاحنة.

بين النارين تحول الربيع العربي خريفاً محزناً.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى