صفحات الرأينجيب جورج عوض

“الربيع العربي” والحرية التي لم تصر ساحة عامة/ نجيب جورج عوض

 

 

في صيف العام 2011، أنهيت تأليف كتاب بالانكليزية عن الثورات الشعبية، التي خلقت فكرة «الربيع العربي« (صدر الكتاب كواحد من سلسلة الدراسات المشرقية التي يحررها البروفسور مارتن تامكة، أستاذ الدراسات المسيحية والدينية المشرقية في جامعة غوتنغن، في ألمانيا). اخترت لكتابي كعنوان رئيسي «والحرية صارت ساحة عامة«. لا يخفى على الباحث في اللاهوتيات أنني، أنا الباحث اللاهوتي الأكاديمي المحترف، قد استوحيت العنوان المذكور من آية من مقدمة الإنجيل اليوحناوي «والكلمة صارت جسداً«. لم يكن غرضي من هذا الاستيحاء أن أصبغ كتابي بصبغة دينية (وإن كان يتحدث عن ظهور الدين في العالم العربي في جزئه الثالث)، ولا أن أعمِّد محتواه التحليلي السياسي والسوسيولوجي بماء لاهوتي صرف. رأيت في العبارة الإنجيلية تعبيراً لغوياً بليغاً عما أردت أن أنقله في عنوان كتابي من فهم وقراءة، بل وتمن، تتعلق بمراقبتي للثورات العظيمة والتاريخية، التي قلبت العالم العربي رأساً على عقب، وأدخلته التاريخ البشري المعاصر والمعاش لأول مرة منذ ما يقارب ثلاثة أرباع القرن.

«والحرية صارت ساحة عامة«. هكذا قرأت ثورات العالم العربي في مصر وتونس وليبيا واليمن وقتها. رأيت أفراد ومواطني المجتمعين الأهلي والمدني في تلك البلدان تحاول أن تمارس دورها المواطني والمدني العام لأول مرة في تاريخ وجودي على هذه البسيطة. رأيت الناس تمارس أفعال المشاركة والتغيير والتعبير والنقد والرقابة والتمرد والتحكم والتصويب والخلق والتقرير: كلها أفعال وممارسات تعبيرية عن جانب الحرية، المكوِّن والبنيوي في طبيعتنا البشرية، ولكن الأساسي والقاعدي في تركيبة ماهيتنا المواطنية والاجتماعية أيضاً. كل تلك الأفعال كانت إعلانا شعبيا عاما عن عودة المواطن العربي للتصالح مع انسانيته، في جوهرها الأساس، القائم على فكرة أن الكائن البشري لا يختلف فقط عن باقي الكائنات الحية بوعيه العقلي، بل أيضاً بوعيه لوجود فكرة الحرية وتوقه الفطري لتلك الحرية. ولأن هذا الإعلان عن التصالح مع مكونة الحرية اقترن بالأفعال السابقة الذكر، رأيت أن الثورات في العالم العربي كانت مساحة لتحول تلك الحرية إلى حالة «الساحة العامة« لا الى اي شيء آخر.

ولكن، ماهي «الساحة العامة« مفهوماً؟ في الفكر السياسي والسوسيولوجي، لا تعني «ساحة عامة« مجرد حيز مكاني أو جغرافي ما يتواجد فيه أفراد مجتمع ما ليمارسوا أفعال حياتية معينة. مفهوم «ساحة عامة« له معنى أعمق وأكثر قاعدية من هذا. «الساحة العامة« هو المصطلح المعبِّر عن فضاء وجودي معرفي وقيمي، فردي وشعبي الأبعاد، يقوم فيه المواطنون، المنتمون للمجتمعين المدني والأهلي، بالرقابة على التزام جميع مكونات المجتمع المذكور، من أفراد ومؤسسات، من هيئات حكومية ومدنية، عامة وخاصة، سلطوية وجماهيرية، بالقيم والدساتير والمبادئ والممارسات والتعاقدات المؤسسة والمكونة للهوية الديموقراطية، بعناصرها السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية والاجتماعية، للبلد المعني. الساحة العامة، إذاً، ليست مجرد المكان الذي تمارس فيه الديموقراطية بكل عناصرها. بل هي الفضاء الذي يراقب فيه أفراد المجتمعين الأهلي والمدني تلك الممارسة ويقومونها وينقدونها ويتحاورون حولها، ويغيرون ويحاسبون من يسيء استخدام تلك الديموقراطية أو يشوه معاييرها أو يحاول تدجينها أو تسخيفها أو توظيفها أو كبتها أو اختزالها. من هذا المنطلق، لم أرَ في الثورات العربية مجرد فعل ممارسة ديموقراطية يقتصر على استعادة حق الشعوب بانتخاب ممثيلهم في السلطة (كما يصر الكثير من الأطراف في العالم العربي اليوم على أقناعنا بأن الديموقراطية تقتصر على هذا)، بل عملية استعادة للعلاقة الجوهرية فكرة الحرية في الكيان البشري وعملية تحويل تلك الحرية إلى قاعدة لعودة الناس إلى ممارسة دورها المدني والأهلي في حراسة الديموقراطية، ومراقبة ممارستها، وعيشها، كفعل يومي متعدد الأوجه، أي عودة الناس إلى العيش كساحة عامة.

إلا أن السنوات اللاحقة لعام 2011، وبعد مرور ثلاث سنوات على نشر كتابي المذكور، تبين لي كمراقب متمعن في السياق العربي السوسيولوجي العام، تجعلني اليوم أقول بمرارة أن عملية صيرورة الحرية ساحة عامة قد توقفت، ولهذا لم تنجح الثورات العربية في صنع ربيع، لأنَّ الناس لم يُسمح لهم بأن يتابعوا عملية السير في خط تحويل تصالحهم مع الحرية من مجرد «وعي فكري جواني« إلى حالة «ساحة ممارسة عامة«.

في تونس ومصر، حيث ولدت ثورات الحلم بالربيع العربي، بدأت الثورة بممارسة حقيقية وجريئة ومبشرة جداً لدور الرقابة على الديموقراطية بشموليتها ونقد وتغيير ومحاسبة ومناهضة ما كان من شأنه الإساءة لها أو الهيمنة عليها أو قمعها. إلا أن من تولى مسؤولية السلطة، خاصة في مصر، وقدم نفسه كممثل لدور المجتمعين المدني والأهلي كساحة عامة، عمل على اختزال الساحة العامة نفسها إلى مجرد أداة، في أجندة ممارسة جزء واحد وحيد من الديموقراطية ينحصر بالعمل الانتخابي الصرف، نافياً عن الساحة العامة طبيعتها كفضاء مدني أهلي مهمته الرقابة والنقد والتقييم والمحاسبة، لا مجرد الممارسة. ومهمته القيام بتلك الأمور على كافة مستويات الديموقراطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والاجتماعية، لا الاقتراعية المتعلقة بتقاسم السلطة فقط. واليوم، وبعد ثورة الساحة العامة المصرية نفسها على من اختزلها ايديولوجياً وسلطوياً، باسم الثورة دون سواها، يبدو أن هناك محاولة مضادة ولكن مشابهة للاستمرار في اختزال مفهوم «الساحة العامة« إلى مجرد تحويل المجتمعين الأهلي والمدني إلى أدوات رقابة على الحرية باسم «أولوية الأمن والاستقرار« وأدوات رقابة على الساحة العامة نفسها، بصفتها مصدر خطر على الديموقراطية، بدل أن تكون الساحة العامة هي أداة الرقابة الضامنة لوجود الديموقراطية وسواد معاييرها.

في ليبيا واليمن لا يختلف الأمر كثيراً عن مصر وتونس. فالحرية التي دفعت أفراد المجتمعين الأهلي والمدني إلى التحول إلى ساحة عامة، هي نفسها التي باتت اليوم المبرر الأول لانشغال أفراد هذين المجتمعين المدني والأهلي برقابة بعضهم البعض ومناهضة بعضهم البعض والانقلاب على بعضهم البعض، بدل التوحد معاً على القيام بعمل مراقبة ونقد وتقويم وجود الديموقراطية الشمولية، وممارستها بكافة أنماطها في قلب الوطن الليبي أو اليمني. باتت الحرية قاعدة للهيمنة والتسلط، بعد أن كانت في عهد نظام القذافي ونظام عبدالله صالح العدو الأول والأخطر ضد الهيمنة والتسلط. وباتت الساحة العامة فضاء صراع وتنافس وتشرذم، يفرغ المواطنة والانتماء لكيان أهلي ومدني واحد من مضمونهما.

أما في سوريا فالمأساة أكثر سوءاً، والنتائج اكثر سوداوية وتعقيداً، مع أن البداية كانت الأكثر نصاعة وتميزاً. بدأت الثورة السورية كتعبير أمثل وأنصع، بل وأشجع، عن تصالح الإنسان العربي مع خصلة الحرية البنيوية في كينونته البشرية. وبشرت سنتها الأولى بنموذج تحول تلك الحرية إلى ساحة عامة، يمكن وصفه بأنه النموذج الأعمق والأكثر جدية في حيثياته وطبيعته. فالشعب السوري بمكونيه المدني والأهلي حاول أن يعيش على الأرض عملية تصالحه مع طبيعته البشرية الحرة وحاول أن يصيرها ساحة عامة تمارس النقد والرقابة والتقييم والتغيير وإعادة خلق الديموقراطية بكل مستوياتها. وهو كان الأكثر شجاعة وبطولية وفدائية في العالم العربي برمته، في محاولته هذه، لأنه مارسها في وجه نظام استبدادي لم يعرف التاريخ المعاصر له مثيلاً في القمع والعنف والدموية والوحشية والفساد واللاإنسانية والشر. نظام أثبتت السنوات الأخيرة أن لا مثيل له في أي بلد عربي أو عالمي آخر في العداء للديموقراطية والحقد عليها، وفي احتراف عملية النفي الممنهج والمبرمج للطبيعة البشرية عن الإنسان وخنق كينونتها الحرة. لم يعمل النظام المذكور فقط على قمع محاولة الشعب السوري الثورية المدنية والأهلية، بل عمل على تدمير كل ما يمكن أن تحتاج إليه فكرة «الساحة العامة« في الحاضر في المستقبل من بنية تحتية (مكانية وجماهيرية ولوجستية واقتصادية وعمرانية ومادية ومدينية ووطنية وأخلاقية ومؤسساتية)، تتطلبها تلك الأخيرة، كي توجد وتُمارس. حقق النظام هذا بأن قاد البلد إلى حرب شعواء مدمرة، هتكت وقطعت أوصال المجتمع المدني والأهلي قبل أن تدمر وتقطع أوصال البلد جغرافياً وديموغرافياً وشعبياً وإنسانياً. ومؤخراً، قام النظام بتسخيف فكرة «الساحة العامة« والاستهزاء بها كلياً، بأن أصر على إجراء ممارسة ديموقراطية وحرة في الشكل، تتمثل بانتخابات رئاسية في بلد قامت حرب مدمرة ساحقة ماحقة فيه ضد الحرية والديموقراطية قبل، بل ودون، أي شيء آخر. قام النظام بتحقير الديموقراطية والاستهزاء بها وجعلها مجرد أضحوكة سمجة في عقول الناس حين فرض على المجتمعين المدني والأهلي «خدمة« امتهانه للديموقراطية كما يفهمها هو. وحين سمح لأكثر الناس لاأهلية ولاكفاءة ولاشعبية ولاحيثية ولاقيمة بالترشح للانتخابات المزعومة أمام رأس السلطة الحالي. كل هذا كيما يجعل أفراد المجتمعين الأهلي والمدني دون سواهم ينقمون على مجرد التفكير بالحرية، ويرعوون عن محاولة تحويلها إلى ساحة عامة، لا بل ويتناسون تماماً دورهم الرقابي والنقدي والتقييمي والتغييري في ما يتعلق بالديموقراطية من أساسه.

فشلت الثورات، للأسف الشديد، حتى هذه اللحظة، في إنتاج الربيع المنشود في العالم العربي، لأنها لم تتابع عملية صيرورة الحرية ساحة عامة. تم إيقاف عملية تحول المواطنين من أدوات في أجندة ممارسة مسبقة الصنع إلى أفراد مدنيين وأهليين فاعلين يقومون بدورهم الحقيقي في الرقابة على الممارسات ونقدها وتقييمها وتغييرها وخلقها من جديد. أجهضت فكرة «الساحة العامة« من أساسها، ربما لأن العالم العربي مازال يحاول أن يتعرف للمرة الأولى على هذا المفهوم بحد ذاته، ومازال بالكاد يدرك أن الديموقراطية ذات مستويات وأبعاد وتأثير وحضور وتداعيات أكثر شمولية وتنوعا وامتدادا أفقيا مما يتخيل ومما يعتقد أنه يمارس حالياً. لا شك بأن القمع والعنف والفساد والوحشية التي تم بها التعامل من قبل الأنظمة البائدة (كما في سوريا) ويتم بها التعامل من قبل الأنطمة الانتقالية (كما في تونس وليبيا وحتى مصر، برأيي) مع عملية صيرورة الحرية ساحة عامة في بلدان حلم الربيع العربي قد وقفت وتقف حائلاً ملموساً ضد تلك الصيرورة، وعرقلت وتعرقل مسيرتها الطبيعية. ولكن، تحول الحرية إلى ساحة عامة في العالم العربي، يقتضي التخلص من البيئة الخصبة لنمو بذور العنف والفساد والطغيان والذهنية اللاديموقراطية التي مازالت تعشش في زوايا عقل الإنسان العربي وإرثه السوسيو- ثقافي. تلك الأنظمة القمعية والعنفية والفاسدة والوحشية لم تسقط على العالم العربي من الفضاء ولم تُستورَد من كوكب آخر، إن لم نقل من بلد آخر. علينا أن نسال أنفسنا بجدية: ما الذي يجعل القوى الثورية (المحلية) المعارضة للأنظمة المذكورة تجتر الأخطاء والممارسات والذهنيات والاستراتيجيات والمحظورات ذاتها التي ثارت على الأنظمة المذكورة وحاربتها بكل الوسائل بسببها؟ وما الذي يجعل المعارض والمعارضة يتحولان إلى نسخة ممسوخة مشوهة عن ما ثارا عليه حين يتبوآن موقع هذا الأخير؟ الجواب يكمن في حقيقة البيئة الخصبة التي ذكرتها.

في إنجيل يوحنا، الكلمة التي صارت جسداً «حلت بيننا ورأينا مجدها مجداً«. في العالم العربي الثائر، لم تحل الساحة العامة بيننا بعد ولم نختبر كما يجب حضورها الواقعي وقيمتها البنيوية والتأسيسية بعد. لن تحل «الحرية التي تصير ساحة عامة« بيننا ما لم يتم التعاطي مع السؤال المذكور في الأعلى على مستوى وطني ومدني وأهلي، جاد وحقيقي وشجاع. ما لم يتم ذلك، لن تتمكن الحرية في العالم العربي من التحول إلى ساحة عامة وستبقى الثورات العربية بعيدة عن أي ربيع، وعاجزة عن إقناع أبناء المجتمعات العربية بأن الآتي مختلف إيجابياً على أقل تقدير، إن لم يكن أفضل وأكمل، وأنَّ ممارستهم لدورهم كساحة عامة أمر ذو قيمة وجودية عظمى لهم كبشر قبل أن يكونوا مواطنين. هل ستصير الثورات العربية ربيعا؟ هل ستنتصر حرية المواطنين العرب على كل من يقف ضد صيرورة حريتهم ساحة عامة؟ هل ستحل الساحة العامة بيننا ونرى «مجدها مجداً«؟ أحلم بذلك وأرجوه!

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى