صفحات المستقبل

الرحلة المجنونة،المخاطرة الأخيرة/ نور كلزي

 

 

لم تكن الأعوام الخمسة السابقة بسهلة، فالحياة لا تعود إلى سابق عهدها حين تخسر منزلك وأصدقاءك، وفوق كل شيء تفقد الوطن. والتحول من مواطن إلى لاجئ يحدث تدريجياً. بيد أني لم أدرك ذلك فورا، إذ كنت أتنقل كثيراً داخل سوريا وفي تركيا أيضا.

غادرت منزلي في منتصف 2012 ولم أعد إليه حتى الآن. ولم يفقدني التنقل في سوريا الإحساس وكأنني في المنزل، حتى عندما كنت أبتعد عنه، إذ بقيت ضمن حدود الانتماء. أما في تركيا فمصطلح الضيوف السوريين كان يوهمني بأنني لست لاجئة، فأنا في الحقيقة لست فخورة بكوني لاجئة. ولم يكن اتخاذ قرار المغادرة سهلا، بيد أن الطريق إلى أوروبا أصبح أسهل من الطريق إلى داخل سوريا.

سبع دول قبل الاستقرار

أفتح الخريطة: سبع دول “فقط” تفصلني عن الاستقرار الذي أبحث عنه. ليس هذا فحسب، بل يجب توفير مبلغ من المال ليس بالقليل أيضا، لكني كنت أقول لنفسي: لا يهم. ألفا دولار أمريكي فقط هو مبلغ شراء حياة بعد كل هذا الموت.

لم أكن أفكر في الغرق عندما انتظرت على الشاطئ في نقطة التهريب. ولم أفكر به عندما كدسنا المهربون في القارب المطاطي وتركونا نهيم بين الأمواج. كنت فقط أراقب الوقت بينما امتلأ القارب بالمياه وصرخات النساء والأطفال من الأمواج التي وجدت طريقها إلينا، نحن الركاب. قام الرجال بتقديم القرابين للبحر. تخلوا عّما تبقى من مقتنياتهم، التي جمعوها على مر السنين لتكمل معهم المشوار في حياة جديدة من أجل النجاة. نصف ساعة فقط يجب ألا نغرق. علينا أن نحافظ على التوازن لنصف ساعة فقط حتى نصل، لكن كم كان الوقت يمر طويلا. ساعتان ونصف مضت وكأنها الأبدية.

ارتمينا جميعا على الشواطئ اليونانية. ثمة من بكى من شدة الفرح غير مصدق أنه لايزال على قيد الحياة، آخرون كانوا يضحكون بطريقة هيستيرية لأنهم تغلبوا على الموت. فالسوري يصارع الموت مئات المرات ولكنه يجد طريقه للحياة في نهاية المطاف.

كنت أعلم أن الرحلة قد بدأت للتو ولكني لم أدرك مدى المشقة التي كانت تنتظرني حتى أصل إلى هدفي. لم أفكر بشيء في تلك اللحظة، كنت سعيدة لأن أخطر جزء من الرحلة قد أصبح خلفي.

يوم الحساب

اصطف البشر على الحدود في مشهد وكأنه من مشاهد يوم الحساب. من بلد إلى بلد، رجال ونساء وأطفال وشيوخ يسيرون في رحلة البحث عن الأمل في حياة جديدة. تم حشرنا في القطارات في المساحات التي كانت متوفرة؛ في الممرات الضيقة بين الكابينات. وحتى في المناطق التي تفصل قاطرة عن أخرى كنت تجد أكواما من الأجساد البشرية ارتمت وافترشت الأرض من التعب والإرهاق.

وفي كل نقطة حدودية انتشرت قوافل المساعدات من ملابس وبطانيات. كان المتطوعون يقدمون لنا الشاي الساخن أيضا. ولكن في صربيا لم يكن هناك الكثير من المتطوعين ولم تكن الشرطة تنظم شيئا. كان علينا أن نقف في العراء في صفوف تحت المطر. لا أولوية للنساء أو للأطفال أو المسنين. بعض العائلات قضت ثلاثة أيام في الانتظار قبل أن تنطلق إلى الوجهة القادمة.

تنقلنا عبر البلاد قاطعين عرضها بالقطارات، وعند الحدود يصرخ الشرطي “ون لاين” أي صف واحد ويكررها موضحا المعنى باستخدام يديه. مشيا على الأقدام كنا نقطع الحدود الفاصلة تحت المطر والغيوم “ون لاين، ون لاين”.

وفي هنغاريا اضطررنا للغوص في مستنقع وحل قرب هضبة وقفت عليها سيارة الشرطة مراقبة عن بعد كيف كانت عجوز تتكأ على عكازها الزهري في محاولة قطع كل هذه الأميال. وفي أحد الطوابير تشاركنا قصص الرعب والنجاة عن الرحلات البحرية في القارب المطاطي. لم يعد البحر يحمل نفس المعنى والصورة لكل من قطعه. أصبحنا نكره البحر ونكره الرمال لما تركته من آثار في الذاكرة. لم أشعر حينها كما أشعر الآن عندما أفكر في الرحلة. على الطريق يسيطر عليك هاجس الوصول، فأنت لا تفكر إلا في المرحلة القادمة، البلد التالي، والقطار الذي سيحملك عبر أراضيه. أنت لا تشعر بالتعب إلا بعد الوصول.

الكاميرا والموت والثورة

عندما حملت الكاميرا في بداية الثورة السورية لم أكن اكترث للموت. كان دافع إيصال الصورة للعالم الخارجي كافيا لي. أربع سنوات كنت أرافق الكاميرا والموت في كل خطواتي حتى جاءت اللحظة الفاصلة في عام 2015 عندما كثر الموت ولم يعد له معنى . لماذا أموت ما دام موتي لن يغير أي شيء؟ سؤال ظل يراودني في كل مرة أحاول فيها إيجاد طريقي إلى داخل سوريا.

فعندما نتخذ قرار السفر، نبحث نحن اللاجئين عن وطن جديد، فوطننا لم تعد فيه فرصة للحياة، أصبح الموت يتقاسمه ببساطة. وغريزة البقاء هي التي دفعت أعدادا كبيرة من الناس للقيام بهذه الرحلة المجنونة، بهذه المخاطرة الأخيرة.

ألمانيا وبيروقراطية الأوراق

وها أنا ذا في ألمانيا منذ ستة أشهر، ومازلت أتنقل من مكان إلى آخر. وعندما وصلت لم أكن أدرك صعوبة العيش في الفراغ القانوني، فقد صدمتني بيروقراطية الأوراق. قطعة صغيرة من الورق تمنحني الآن حرية التحرك والتنقل والبحث عن العمل. التخبط وقلة التنظيم في بلد التنظيم وأكوام الأوراق على مكاتب الموظفين توضح حجم الضغط على الحكومة الألمانية. “يجب عليك أن تتحلي بالصبر فأعداد اللاجئين في ألمانيا كبيرة”. كان هذا هو الجواب الذي أسمعه لأي سؤال أطرحه.

أسكن الآن في مكان ناءٍ على أطراف ألمانيا وفي صالة رياضية. فأنا من سكان الصندوق رقم تسعة. تطاردني أصوات الطائرات والقصف في اللاوعي لتكشف عن نفسها أثناء النوم. وجدت نفسي في سوريا أختبئ مع كاميرتي وراء حائط المدرسة من الطائرة الحربية التي كانت تقصف الشارع المجاور وتعود أدراجها وليسقط البرميل المتفجر على المدرسة وأرى سوادا لأستفيق.

سيظل جزء من ذاتي يلومني لأنني على قيد الحياة بينما لايزال الأطفال يموتون من الجوع والقصف والبراميل المتفجرة. ففي 2016 ، وبعد خمس سنوات على انطلاق الثورة، ما زال العالم ينظر إلينا كأرقام. لقد كنا أعدادا من الجثث ولكننا أصبحنا الآن أعدادا من اللاجئين.

 

نور كلزي من مواليد 1988 حلب سوريا. حاصلة على إجازة في الأدب الإنكليزي من جامعة حلب. مع بدء الثورة السورية أصبحت مصورة صحفية توثق الأحداث في سوريا لوكالة رويترز للأنباء. وفي 2013 حازت على جائزة الشجاعة للصحفيات.

 

حقوق النشر: معهد غوته، فكر وفن حزيران / يونيو 2016

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى