صفحات العالم

الردع السوري زمن الاحادية القطبية


هاني الروسان

ما لم يقله المستشارون السياسيون والعسكريون والامنيون لرئيسهم هو ان اساليب الردع الكلاسيكية في اللعبة الدولية قد انهارت مع انهيار جدار برلين، ان لم يكن قبل ذلك بقليل، وان اخر المجربين الذي ذهب ضحية تجربته كان جاره على الحدود الشرقية، هذا اذا اسقطنا من حساباتنا التسريبات الردعية التي كان يلجأ اليها العقيد القذافي بين الفينة والاخرى، وفي الحالتين انهار النظام هناك، وفيهما قتل الرئيس، والاهم ُفككت الدوله وان باسلوبين مختلفين.

صحيح أن مفهوم الردع لم يسقط بسقوط الاتحاد السوفياتي، غير انه لم يعد محاولة طرف ما ثني طرف آخر عن الإتيان بفعل يراه الطرف الأول ضارا به، بل بات مدلوله يرتبط بمفهوم التركيع. وقد نوّعت الولايات المتحدة الأميركية من أساليبها في تأمين الردع الكافي، بدءا من الردع النووي مرورا بالإذعان التطويعي فركوب الموجة.

وتشير الدراسات الحديثة الى ان غياب المنافس الموازي في القوة والقدرة، للقوة العظمى مهد لولادة مستوى جديد من الردع، يقوم أساسا على اختبار النوايا والتشكيك بها لاعطاء القوة العظمى حرية كبيرة في التحرك عبر حروب غير متماثلة وغير متكافئة ضد ما تسمى بالتهديدات المواجهة لتلك القوة، التي الغت الحدود الفاصلة بين الدفاع والهجوم, بحيث لا يمكن التمييز في سلوكها بين ما يمكن اعتباره دفاعا او هجوما.

اذا كان كل ذلك قد غاب عن ذهن صانع القرار السوري – وهو افتراض لدواعي استواء الحجة – فهل سيكون قد غاب من ذاكرة الرئيس الشاب تجربة الرئيس صدام الذي تبنى تكتيكا ردعيا من بعدين الاول هو الاصرار المكثف على ظهور العراق بمظهر القوة القادرة على مجابهة القدرات العسكرية لقوات التحالف الدولي، والثاني التوسع في استخدام سياسة الغموض لجهة امتلاك قدرات عسكرية غير تقليدية، هذا بالاضافة الى ما صدر عن الرئيس صدام من تصريحات نارية نحو اسرائيل لجعلها رهينة عراقية، وذلك للحيلولة دون اقدام قوات التحالف الدولي على مهاجمة القوات العراقية واخراجها من الكويت.

كذلك فقد استخدمت القيادة العراقية تصورا استراتيجيا في ادارتها للازمة في حال المواجهة الفعلية، يجمع بين العقيدي المقدس والقومي، اذ قبيل اندلاع الحرب توسطت عبارة لا اله الا الله العلم العراقي لحسابات داخلية – شعية بالاساس – واقليمية وعمد الرئيس صدام شخصيا للتهديد بان اول صاروخ سيسقط على بغداد فان صداه سيتردد في تل ابيب، لتفعيل البعد القومي في تلك المواجهة.

ان ما قاله الرئيس الاسد في مقابلة اجرتها معه صحيفة ديلي تلغراف البريطانية من “إن سورية تعتبر الآن محور المنطقة، وهي خط الصدع في الشرق الاوسط، وإن من شأن تدخل الغرب فيها ان يحدث زلزالا يحرق منطقة الشرق الاوسط برمتها. يدلل على ان الرئيس لم يقرأ بشكل صحيح الخارطة الاقليمية ازاء ما تعتبره شعوب المنطقة انه يلزمها بالوقوف الى جانبه في اية مواجهة محتملة.

والانكى من كل ذلك ان بشار الاسد لم يدرك بعد ان أي ضربة قد تتلقها سوريا في هذه الظروف قد تؤدي الى تقويض سلطة الاقلية التي لا تحظي بود الشعب السوري، على الرغم من كثافة الشعارت التي تتحدث عن الوحدة الوطنية، حيث تشي الشعارات الاخرى الموجهة لحزب البعث بالذات بما يلوح من تمثلات ما، من قبل اصحابها الى طبيعة القوة الحقيقية التي تسند بقاء النظام.

قد يصدق المرء ما تذهب اليه بعض الاراء من ان النظام السوري لم يستشعر بعد مخاطر الحراك الشعبي، او انه لم يأخذ على محمل الجد ما تعنيه دعوة المعارضة الى اسقاط النظام بكل رموزه، وجعل الباب مفتوحا لمقاربة تدخل دولي ما بزعم حماية المدنيين السوريين. ولكن تلك لا تتجاوز كونها قراءة من بين عدة قراءات اخرى لتوصيف حالة نظام الاسد.

فالتوسع في استخدام الردع على المستويين الدبلوماسي والسياسي من قبل النظام، يعبر بقوة عن حالة النزق والضيق التي بات عليها والعجز عن مواجهة احتمالات ان يتسع نطاق الازمة كما اشار الى ذلك الرئيس الاسد نفسه عندما توقع ان تتزايد حدة الضغوط الدولية عليه في الفترة المقبلة، كما انه يدفع لاعادة خلط الامور وان على مستويات ادنى لها علاقة بحسابات النظام الداخلية بدرجة اولى وبعض الحسابات الاقليمية بدرجة ثانية.

فمن بين ما يثير قلق النظام ان استمرارية الحراك الشعبي وتزايد زخمه واستعصائه على الاخضاع رغم الاستخدام المفرط للقوة ضده وعجزه عن طرح مشروع حل باستثناء الحل الامني مع كثير من الكلام عن اصلاح، لا يمس جوهر النظام ولا يستجيب لمطالب هذا الحراك الى جانب تصاعد حدة الانتقادات الدولية، ما يثير قلق النظام هي المسافة التي بدأ ت حليفته الاقليمية بوضعها بينها وبينه، حيث لوحظ في الاونه الاخيرة السعي الايراني للاتصال بقوى المعارضة السورية لتأمين استمرار نفوذها الاقليمي في المنطقة بعيدا عن مصير النظام نفسه.

فالمعروف ان الدعم الايراني للنظام السوري، ارتبط باستراتيجية اقليمية لطهران ُتموضع دمشق كقاعدة انطلاق لها داخل المنطقة وتضعها في نفس الوقت على نقطة تماس مباشر بمصالح الولايات المتحدة عبر الاقتراب من اسرائيل عن طريق حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين، علاوة على تماسها بها في العراق وافغانستان لانتزاع اعتراف امريكي بهذا الدور يدور الاختلاف حول حجمه ومداه بصورة اساسية.

ومما لا شك فيه ان ارتباك النظام في سوريا أو انهياره سوف يلحق ضررا بالغا بالاستراتيجية الاقليمية الايرانية، وهو ما حتم على ايران الدخول على خط الازمة بقوة، وهو دخول عرف عدة اوجه بدأ بنصح النظام وحضه على القيام بخطوات تساعد على تجاوز الازمة. ومع فشل النظام بذلك بدأت طهران في البحث عن احتمالات ما بعد انهيار النظام، وهو موضوع كثر الحديث عنه في الاوساط الايرانية خلال الفترة المنصرمة وسط تكتم شديد، حيث لا يرغب الايرانيون بالمزيد من الإربكات لحلفائهم في دمشق، لكنهم في الوقت نفسه لا يريدون أن يكونوا، هم واستراتيجيتهم أو جزء منها، في مهب الريح.

وفي خطوة نوعية صعد الرئيس الايراني من حدة انتقاداته للنظام السوري، حيث ُنقل عنه خلال مقابلة اجرتها معه محطة الـ CNN قوله انه يدين عمليات القتل والمجازر في سورية. وقد جاءت تصريحات نجاد التي تعد الأقوى حتى الآن التي تصدرعن مسؤول إيراني ضد نظام الأسد في وقت تواصل فيه الولايات المتحدة وحلفائها جهودهم لتضييق الخناق على سوريا، والتلويح بعمل عسكري المح له عضو مجلس الشيوخ الأميركي جون ماكين الذي نقلت عنه وكالة (AFP ) قوله في جلسة بعنوان “أولويات السياسة الخارجية الأميركية” في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد مؤخرا في الأردن: “الآن وبعد أن تم الانتهاء من العمليات العسكرية في ليبيا، سوف سيكون هناك تركيز من جديد على ما يمكن أن يؤخذ بعين الاعتبار من خيارات عسكرية عملية لحماية أرواح المدنيين في سورية”.

كما ان ما يثير قلق النظام السوري ايضا احساسه المتزليد باحتمال انهيار احد اهم مكونات فلسفة بقاءه القائمة على الاستثمار الفاعل للجغرافيا السورية ونجاحة المنقطع النظير في جعل الامن الوطني السوري احد مكونات الامن الوطني لمعظم دول الجوار، وهوما قد يدفع النظام لاستخدام هذه الورقة قبل ان تستنفذ الاحداث الجارية فاعليتها، او هكذا هو على الاقل يفكر وهو التفسير الاكثر ترجيحا لفهم خطاب الردع للرئيس السوري.

ومن الناحية النظرية قد لا تبدو اية مبالغة في تفسير ان الاسد بتلويحه خلط الاوراق في المنطقة انما يدفع لاذكاء نيران الخلافات الداخلية في اكثرمن بلد الى السطح كما يبدو من مؤشرات الخلاف في اروقة جماعات الضغط الامريكية حيث يجري تصنيع عدد من قرارات السياسة الخارجية بشأن خيارات السياسة الامريكية نحو الازمة السورية.

فالمعروف ان السياسة الخارجية السورية التي ارسى قواعدها الاسد الاب طيلة ثلاثين عاما من حكمه قامت على توسيع دائرة النفوذ الإقليمي السوري عبر تطوير النزعة التدخلية في شؤون دول الجوار، وتأكيد القوة والهيمنة، وفرض المواقف وألافكار على تلك الدول عبر التدخل القوي السياسي والعسكري، في الشؤون الداخلية لتلك البلدان، لكسب مواقع نفوذ تشكل ارضية صلبة للدفاع عن المصالح السورية التي تستوجت دائما منع الآطراف الأخرى من اللعب بالساحة الداخلية، ونقل الصراع الى الخارج عبر تكثيف الضغوط على تلك الاطراف، مباشرة أو من خلال الحلفاء.

وعلى الرغم مما وجه لتلك الاستراتيجية من انتقادات حول محدودية نتائجها الا انها لعبت دورا حاسما في بقاء النظام، وهي تخضع اليوم لانتقادات جديدة ترتكز على استحالة قدرتها على تأمين بقاء النظام، لانها تعود بالاساس لحقبة الثنائية القطبية، وانها تؤمن للولايات المتحدة ما قد يعتبر حجة لوضع سوريا في مسار الازمة التي تريدها كقوة تخريب اقليمية، مما يستدعي من الرئيس السوري الخروج من دائرة التكرار واعادة النظر في وسائله للردع ان امكن له ذلك طبعا وفقا لمتغيرات مفهوم الردع في حقبة الاحادية القطبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى