صفحات الثقافة

الرسامون طيور تتسلق شجرة على سلالم من خشب


فنّ الكاريكاتور السوري.. إياك أن ترسم الواقع

سامر محمد إسماعيل

يقول الفنان فارس قره بيت معلقاً: «الصحافة السورية غير مؤمنة بفن الكاريكاتور على الإطلاق، فمن أكثر من عشرين عاماً نلاحظ عدم الإيمان بهذا النوع من الفن، مع أنه قبل هذه الفترة كان هناك احترام للمساحات التي يشغلها رسام الكاريكاتور في الجرائد المحلية، فيما بعد بدأت هذه المساحة تضمحل مع انخفاض سوية رؤساء تحرير الجرائد الرسمية» تشرين – الثورة – البعث» وظهور طبقة من الرسامين الدخلاء الذين تناسبوا طرداً مع مستوى إدارات تلك الصحف». هذا بدوره أبعد أسماء معروفة ومحترمة من الشغل على صفحات الجريدة السورية مثل علي فرزات وعبد الهادي شماع وحميد قاروط وعبد الله بصمه جي وعصام حسن، وبالتالي تراجع هذا الفن في الحياة الثقافية السورية ليصبح وجوده وعدمه سيان إلا أن صاحب رأس المال عندما يقوم بافتتاح جريدة في لبنان مثلاً يدفع أجوراً خيالية للرسام اللبناني تصل إلى آلاف الدولارات، أما عندما يقوم بأخذ ترخيص لجريدة محلية في سورية؛ فإنه يلجأ إلى أسوأ رسامي الكاريكاتور الموجودين في البلد. هذا ما لا يستطيع الفنان قره بيت أن يجد له أي تفسير منطقي حتى الآن، فما الذي يفسر أن رسام الكاريكاتور المصري يتقاضى أجراً جيداً فيما حق الرسام السوري مهضوم في بلده وخارج بلده؟ المشكلة باعتقادي تكمن في هذه النظرة السطحية للفنون والتي لمستها منذ أن كنتُ في الجامعة، بدليل تخلي العديد من رؤساء التحرير في الجرائد السورية عن هذا الفن، في حين كان من الأهمية بمكان الحفاظ على مساحة الكاريكاتور كمساحة استثنائية لحرية التعبير والرأي، فمع مرور سوريا بأكثر من حدث سياسي وتاريخي هام منذ العام 2001 وحادثة انهيار برجي التجارة في نيويورك وسقوط بغداد 2003 واغتيال الحريري في 2005 واندلاع الأزمة السورية مع منتصف آذار 2011 كان الإعلام المحلي غائباً عن الوعي، في حين كان صحافيو الإعلام اللبناني يخطون خطوات هامة في مواكبة الحدث والتعليق عليه، جميعنا يذكر الامتياز الذي حصل عليه الفنان علي فرزات عبر حصوله على ترخيص جريدة «الدومري» هذا المشروع الذي ضمّ الكثير من رسامي الكاريكاتور السوريين، في حين عندما قرر كل من فارس قره بيت وعبد الهادي شماع أخذ ترخيص لمجلة كاريكاتور في سورية لم يحصلا عليه حتى الآن، مع أنه عندما تراجع أسماء كتّاب «الدومري» سترى أن جلُّهم اليوم هم من المعارضة التي تقيم خارج البلد، وعلى رأسهم المدعو رضوان زيادة الذي يقيم في واشنطن».

«نحن جزء لا يتجزأ من الإعلام السوري، يقول الفنان عبد الهادي شماع – وما بذلناه من جهد شخصي هو ما ساهم طيلة هذه السنوات بانتشار هذه السمعة الطيبة عن فناني الكاريكاتور السوريين الذين تبوأوا الصدارة بين الرسامين العرب، وقد عملنا بسبب ظروف سياسية معينة لتأسيس أول رابطة لرسامي الكاريكاتور العام 1977 لكن اتحاد الصحافيين السوريين لم يعطنا حتى غرفة لنلتقي فيها، ولم يخصص لنا ولو خط هاتف، أذكر أننا كنا آنذاك مجموعة من خيرة الفنانين الذين رفضوا اتفاقية كامب ديفيد، لكن ما الذي حدث آنذاك؟ أخذوا لنا صورة جماعية تذكارية ثم قالوا لنا: هيا إلى بيوتكم»..

اكتفى بعدها الرسامون السوريون بالجهد الشخصي، قانعين بأقدم صورة لرسم كاريكاتوري جسّد صورة لطائر يصعد الشجرة على سلم خشبي. هكذا هي حال الرسامين السوريين، طيور تصعد الشجرة على سلالم من خشب، فرغم وجود الأجنحة إلا أنها (تصعد) سلالم الصحافة المحلية وروتينها القاسي: «اعتزل الشماع اليوم رسم الكاريكاتور السياسي مع أنه حقق الكثير من الرسوم عن ياسر عرفات والسادات وسواهم من القادة العرب، إلا أنه لم يستطع أن يرسم مدير عام واحد في بلده..!».

الفنان عبد الله بصمه جي: يستغرب علاقة رؤساء الجرائد الحكومية برسامي الكاريكاتور قائلاً: «جميعنا يتذكر حتى الآن عندما تم تعيين قاسم ياغي رئيساً لتحرير جريدة الثورة، أول شيء قام بفعله كان إقالة فارس قره بيت من الجريدة، ورغم تعاقب أكثر من ستة رؤساء تحرير بعد قاسم ياغي إلا أن جريدة الثورة حتى الآن لا يوجد فيها سوى رسام كاريكاتور واحد. إذاً هي علاقة تنكيل، فما الذي يفسّر هذا العداء بين رؤساء التحرير ورسامي الكاريكاتور؟ هذا ما لم أفهمه حتى اليوم، ربما لأن العديد من رؤساء التحرير تعرض للتنكيل والمساءلة والطرد بسبب رسوم وافق على نشرها في جريدته». جريدة «بلدنا» أقفلتها السلطات العام 2007 لمدة شهر، فالمطلوب في الصحف السورية هي «رسوم تروج للكاريكاتور الترفيهي، الدعائي، وليس للرسوم التي تعلق على أزمة تهم المواطن العادي»، يضيف بصمه جي: «لنأخذ جريدة بلدنا على سبيل المثال، والتي أوقفت رسامها الشاب علاء رستم عن العمل بعد تقديمه رسماً انتقادياً لانتخابات مجلس الشعب، وما تعرضت له الجريدة آنذاك من إيقاف لصدروها ورقياً لمدة شهر. ماذا حدث بعد ذلك استمرت (بلدنا) في تقديم الكاريكاتور على صفحاتها، لكن أي كاريكاتور؟ إنه كاريكاتور مفرّغ من محتواه».

السياسي والاجتماعي

رسام الكاريكاتور يكون لديه أحياناً كثيرة فهم شخصي قد يقترب من سياسة الجريدة التي يعمل فيها، أو يبتعد، لكن قد يتجاوز رسم الكاريكاتور المحلي في أحيان كثيرة مسائل عديدة كغلاء الأسعار والمازوت وما إلى ذلك، ليصبح الكاريكاتور المحلي وجهاً لوجه مع التعبير عن صراع على السلطة، أو صراع على الثروة، وهنا يقع رسام الكاريكاتور أمام تحدٍ حقيقي، فإما أن يخون زاويته الممنوحة له فيخسر بالتالي عمله، أو أن يبقى على رسم مشاكل الخبز وارتفاع الأسعار ومخالفات البناء فيخون ضميره. إلا أن رأي الفنان حميد قاروط يقول: «هناك نظرية تقول إن الكاريكاتور يجب أن يتناول الحدث الأهم، وخاصة الأحداث السياسية الراهنة، بينما القضايا الاجتماعية قضايا مزمنة يرجع إليها الرسام في أي وقت من الأوقات». وهذا ما لا يؤيده الفنان عبد الهادي الشماع: «هذا يعود إلى عشرين سنة مضت يوم كان في كل جريدة لا يوجد إلا رسام كاريكاتور واحد، أما اليوم فهناك رسام لكل قسم من أقسام الجريدة، هناك رسامون للقسم الرياضي غيرهم في الاقتصادي والمحلي والسياسي، والاجتماعي والخدمي، فإما أن تقدم وجهة نظرك الشخصية؛ أو أن تنفذ ما تطلبه منك الجريدة التي تعمل لمصلحتها، فالدوري الرياضي اليوم معطل بقرار سياسي وليس لأسباب رياضية.. هنا كيف سيتناول رسام الكاريكاتور هذه الواقعة؟ طبعاً من جانبها السياسي، وليس الرياضي»..

الكاريكاتور السوري مازال يعيش في أيام زمان، فهو إما أن يشتم أمريكا أو يشتم إسرائيل عبر رسوم يتم اجترار خطوطها وأفكارها، فرغم أن وسائل الاتصال بلغت مرحلة عالية في نقل الخبر ونشره والتعليق عليه، إلا أن البعض ما زال يصرّ على أن يبقى الكاريكاتور في المتحف، وبالتالي كل من يرسم اليوم في الصحف السورية سيشعر بأنه مفلس إبداعياً لكونه استهلك جميع الأفكار الممكنة، خذ هذا الغياب المريب لمساحة الكاريكاتور من جرائد الثورة والبعث، فيما قدّمت صحيفة تشرين مؤخراً صفحة خاصة بالكاريكاتور تحت عنوان «فشة خلق» نشاهد عليها رسوماً مسخية لوزراء دولة وشخصيات من المعارضة على حدٍ سواء، لتبقى هذه الرسوم بعيدة عن المجابهة الحقيقية مع واقع الأزمة الخانقة التي تعصف بالبلاد منذ أكثر من 18 شهراً، يعلق الفنان حميد قاروط: «هناك الكثير من الناس الذين يتابعون الكاريكاتور يومياً، لكن من لا يشاهد الكاريكاتور هم المسؤولون المتمترسون خلف طاولاتهم».

«إذا وقفت على كورنيش بيروت وصرخت بملء صوتك: يا… بيير صادق. سيلتفت إليك العشرات الذين يريدون معرفة الشخص الذي يسأل عن رسامهم المفضل»- يسرد عبد الهادي شماع مثاله بروح من المرح، وذلك يعود برأيه إلى «الإعلام اللبناني الذي يحترم نفسه، ويحترم قراءه.

لا علاقة بالواقع

المطلوب في الإعلام السوري اليوم هو أن تقدم رسوماً ذهنية فنتازية، يعلق الفنان عبد الله بصمه جي: «إياك أن ترسم أي شيء له علاقة بما يجري على أرض الواقع، فأين المنابر التي تقدم لك الفرصة لنشر ما تود رسمه؟ لا يوجد، ولذلك لجأ العديد من الرسامين السوريين لصحافة الخارج».

عصام حسن فنان الكاريكاتور القادم من بحر اللاذقية يعلق قائلاً: «أرى أن الكاريكاتور السوري جيد وله حضور فني عالي الجودة، وهو ليس أقل من غيره في البلدان العربية؛ فهناك العديد من فناني الكاريكاتور السوريين يمتلكون حضورهم الخاص، وخطوطهم وأفكارهم اللافتة، لكن المشكلة برأيي هي في العقلية السياسية التي تدير البلد من الصحافة إلى الاتصالات حتى نصل إلى وسائل النقل، إلى كل شيء، هناك نوع من الجمود في مختلف مستويات الحياة السورية لا سيما بعد الثورة، الكاريكاتور جزء من هذا الجمود، واختفاؤه تقريباً من جرائدنا يعبّر عنه بطريقة أو بأخرى، هذا ما أنتجته عقلية الحزب الواحد من أنماط تفكير متشابهة، حزب واحد.. يعني مدير واحد.. رسام كاريكاتور واحد أيضاً، وكذلك مدير مدرسة واحد، فكم سمعت من كثير ممن قدمت لهم رسومي جملة: (يا أخي هذا الكاريكاتور سيسبب لنا مشكلة) في حين ما هي الصحافة؟ ما هي مهمتها في النهاية؟ أن تصطدم، أن تُجابه، أن تواجه الخطأ وتشير إليه، يضيف حسن: «لا أن تجتنب الخطأ وتجمّله وتخفي بشاعته، وكذلك الكاريكاتور الذي يُعدّ من أهم أدوات الصحافة الحرة، لكونه الوسيلة التعبيرية الأمضى لفضح الظلم وكشف تزوير الحقيقة». وهنا يتساءل حسن: «هل المطلوب من رسام الكاريكاتور أن يقدم رسوماً تمر في الجريدة مرور الكرام؟ أم المطلوب من هذا الكاريكاتور أن يقوم بفعل المواجهة والكشف والإشارة.

حتى الآن لا توجد في سورية إلى هذا اليوم رابطة أو جمعية أو منتدى لرسامي الكاريكاتور، فتجربة رابطة الكاريكاتوريين العرب التي ضمت أسماء كبيرة وقتها كيوسف عبدلكي وجورج البهجوري وغيرهم ولدت ميتة للأسف، وذلك كما يعزوها عصام حسن «لغياب الحياة السياسية التعددية، وهيمنة الاتجاه الفكري الواحد على غيره من الاتجاهات والتيارات، مما أدى بدوره إلى اجتهادات شخصية أدّت إلى لمعان أسماء سورية في الخارج.

رغم وجود أكثر من ثمانين مطبوعة سورية إلا أنهم جميعاً لم يطالبوا بنا، يعلق عبد الهادي شماع: «الصحف الخليجية كالحياة والشرق الأوسط تتنافس على استقطاب أكبر عدد من رسامي الكاريكاتور الذين غالباً ما تأتي رسومهم مرافقة لصفحات الرأي، هذه النوعية من الصفحات التي لا نراها في جرائدنا المحلية على الرغم من جماهيريتها لقطاع كبير من القراء، أما في الصحف السورية فيتباهون بعدم وجود الرسامين، بل أكثر من ذلك ينكلون بك شر تنكيل كي تهرب وتطفش منهم!».

لجان لمراقبة الرسوم

الكاريكاتور ليس المشكلة، المشكلة الأساس في الصحافة، يقول عصام حسن: «عندما تشتغل كرسام مع إحدى الصحف المحلية تقوم بإرسال رسومك عبر البريد الإلكتروني، لتتفاجأ أن رسومك لم تنشر إلا بعد اجتماع لجان مكونة من عشرات الأعضاء الذين يقومون بدراستها وتحليلها وتمحيصها للتأكد من خلوّها التام من أية توريات أو ملامسات سياسية، المشكلة أنه لا يوجد لدينا حتى الآن عقلية إعلامية احترافية، أذكر عندما عملت لمدة شهرين في جريدة تشرين رفضوا لي ما لا يقل عن خمسين رسماً، بالمقابل عندما عملتُ في الإمارات العربية لمدة أحد عشر عاماً لا أذكر أنه تم رفض أي رسم قمت بتقديمه هناك!».

لكن: لماذا يعمل فنان الكاريكاتور السوري خارج وطنه، ولا يعمل في صحف بلاده، يجيب الشماع: الصحافة السيئة لا تنتج رسوم كاريكاتور جيدة فيقول بصمه جي: «في جرائدنا من يعمل في إخراج الصحيفة وليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بفن الإخراج، بل غالباً ما يكون تنفيعة يعمل بسبب المحسوبيات التي نقلته بين ليلة وضحاها من قسم الأرشيف أو المرأب إلى قسم الإخراج، وهنا الطامة الكبرى فإخراج الجريدة ليس من سقط المتاع، بل هو أهم خطوات صناعة الجريدة على الإطلاق، وهذا ما ساهم لسنوات طويلة في تراكم أنصاف الصحافيين في الجرائد السورية وهمّش بدوره موقع الكاريكاتور إلى أن ألغاه تقريباً من جرائدنا السورية.

الصحافة المحلية تعامل رسام الكاريكاتور كموظف وليس كفنان أو كمبدع يتدخل الفنان ياسين خليل: «حسب رؤية رئيس التحرير أو غيره من أمناء ومديري التحرير في الجريدة يجب أن تعمل، هذا ما لمسته طوال شغلي في الجريدة الرسمية، ففي أحيان كثيرة وبعد أن تنهي رسمتك يفاجئك رئيس التحرير برفضها، ناسفاً كل ما قدمته من جهد للوصول إلى صياغة تقارب سياسة الجريدة التي تعمل لمصلحتها، إن هذا يعكس استهتاراً بجهدك وبفنك، فيما تعاملك الصحف في الخارج كفنان يصر الجميع في الصحافة السورية على معاملتك كموظف». (دمشق)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى