صفحات الناس

الرقة تحت رحمة “داعش”/طارق أحمد

تعيش الرقة اليوم حالة من الخوف والغضب. فالمدينة التي تحررت قبل أشهر، لا تزال تواجه “عقاب” النظام، بما في ذلك الغارة التي استهدفت احدى المدارس وأوقعت عشرات القتلى. لكن للخوف والغضب في الرقة، سبباً آخر عنوانه ممارسات الدولة الاسلامية في العراق والشام  “داعش”.

 المرة الأولى التي سمع فيها أبناء مدينة الرقة عن الدولة الاسلامية في العراق والشام، كانت في شهر أيار/ مايو من هذا العام، حين اقدم التنظيم على إعدام شخصين قال إنهم  ضباط “نصيرية”. يومها خُتم بيان الإعدام باسم الدولة الاسلامية في العراق والشام.

 لم يبالِ الشارع كثيراً بالتنظيم وعناصره في بداية الأمر، كونهم كانوا مختفين في مقراتهم ولا يظهرون إلا نادراً وهم يرتدون أقنعة سوداء. لكن اللامبالاة لم تدم طويلاً، بدأ تنظيم “داعش” يزداد نفوذاً، مدعوماً بعدد عناصره الذي يتراوح بين الألفين إلى ثلاثة الاف مقاتل معظمهم من تونس والعراق والخليج وآخرين محليين، وسرعان ما ظهر الصراع بينه وبين الكتائب التابعة للجيش الحر.

 شرع التنظيم بتصفية كتائب الفاروق، أولى الكتائب المساهمة في تحرير الرقة، ثم اتجه إلى ألوية “أحفاد الرسول”، حيث اتخذ الصراع شكلاً دموياً، انتهى بتفجير سيارة مفخخة راح ضحيتها العشرات بينهم مدنيون. على الإثر، خرجت تظاهرات في الرقة تدعو لوقف القتال والسماح بإسعاف الجرحى، فرد مقاتلو “داعش” على المتظاهرين بإطلاق الرصاص وقذائف “الأر بي جي”.

 بعدها انتقل التنظيم لمواجهة الكتائب الصغيرة، من لم يبايع كان مصيره الخطف أو القتل، كما حدث مع قائد لواء الناصر صلاح الدين “أبو يزن”، وقبله قائد لواء أمناء الرقة “أبو طيف”.

 مع تزايد نفوذها، أصبح حديث الشارع الرقي يتمحور حول نشأة “داعش” وارتباطها  بالنظام السوري.  “أبو بكر البغدادي (زعيم التنظيم) هو قاسم سليماني (قائد فيلق القدس” في الحرس الثوري)”، يقسم عجوز واقف في سوق للخضرة، ثم يلتفت للتأكد من أن أحداً منهم لم يسمعه، يكمل كلاماً مبهماً ويمضي بسرعة.

 نفور الناس من “داعش” لم يتصاعد فقط بسبب خلافات التنظيم مع باقي الكتائب المسلحة. فالتنظيم بات يتدخل في حياة الناس العاديين، يخطف النشطاء، الصحافيين وحتى يتهم بأنه المسؤول عن اختطاف الأب باولو.

 في احدى المرات، اقتحم عناصر “داعش” معهد تدريس لغات، وجهوا بنادقهم نحو الطلاب مطالبين الجميع بعدم الاختلاط، والبنات بفرض الحجاب.

 أما المقاهي لم تسلم منهم، باغتوا الناس المتواجدين فيها وحاولوا منع الأراكيل والدخان. وحذروا أصحاب المقاهي، البعض استجاب لكن الكثيرين لم يستجيبوا. تجد أحدهم يشعل سيجارته بالقرب منهم بنظرة تحدٍ.

 يقول أحمد، الشاب الذي اعتقل على أيديهم بعد احتجاجه على سرقة احدى الدوائر الحكومية، “ضربوني وشتموني وفعلوا بي ما فعله الأمن العسكري سابقاً، إنهم هم أنفسهم ولكن بلحىً طويلة”.

 آخر ممارسات عناصر التنظيم، كانت اقتحام كنيسة سيدة البشارة، وقاموا على إثرها بكسر الصليب ومن ثم الخروج. قام بعض السكان بإعادة الصليب إلى مكانه في الوقت الذي ازداد فيه احتقان الشارع ضد هذه الممارسات، فطبيعة تدين أهل الرقة هو تدين قروي بسيط، في حين أن أفكار الحركات السلفية لا تلقى رواجاً  كبيراً بين أهله.

عناصر “داعش” لم يبالوا بل ضاعفوا استفزازهم. في اليوم التالي قاموا بالدخول إلى الكنيسة مجدداً وحرقوها ثم انتقلوا إلى كنيسة الشهداء في وسط البلد وقاموا بإنزال الصليب والجرس، ورفعوا راية تنظيم القاعدة مكانهما. كانوا خمسة رجال مسلحين؛ ثلاثة من تونس واثنان من الرقة. تجمع حولهم  عدد من النشطاء المستنكرين لما حدث، ودارت بينهم مناقشة سريعة.

 النشطاء ذكّروا عناصر “داعش” بالعهدة العمرية (العهد الذي كتبه الخليفة عمر بن الخطاب حين فتح مدينة القدس والذي يقضي بألا تمس الكنائس ولا الصلبان وللمسيحيين مطلق الحرية الدينية). وأعرب النشطاء عن اعتقادهم أن عناصر التنظيم “أولى الناس بحماية الكنائس كونهم يتبعون نهج الخلفاء الراشدين”.

 عند هذه النقطة، أجاب تونسي رفع القناع عن وجهه، أن المسيحيين ” يعتبرون أهل ذمة ولهم عهود وحماية  لو كان هناك خليفة اما أنه لا خليفة فلا عهد لهم ولا ذمة”!

 النقاش لم يتوقف عند هذا الحد، وجه أحد النشطاء الحديث لعناصر “داعش” قائلاً: “هناك على بعد كيلومترين فقط يوجد شيء اسمه الفرقة 17 (التابعة للنظام)، حرروها واحرقوا بيتي اذا شئتم”. أجابه الشاب التونسي من جديد “نخاف عليكم من انتقام النظام” !

 لم يتمكن النشطاء من الوصول لأي نتيجة فانتهى الحوار. بعدها أبعد مسلحو “داعش” المتجمهرين أمام الكنيسة ثم قاموا بحرق الكتب واللوحات داخل الكنيسة واتصلوا بالدفاع المدني لإطفاء الحريق ثم انصرفوا .

 سليم، شاب يعمل في مركز إعلامي في المدينة، عقب وهو يرى الدخان يتصاعد من داخل الكنيسة، قائلاً : “ما هؤلاء بثوار ولا بمتدينين. هم عصبة إجرام . أناس اتخذوا الإجرام ديناً”. وأضاف “سرقة وبيع ممتلكات الدوائر حكومية وخطف ناشطين. إنهم مجرمون فقط”.

 أما  أبو قتيبة، وهو مسلح في تنظيم إسلامي (كتائب حذيفة بن اليمان) وقف متفرجاً على مشهد احراق الكنيسة. التف بعض الناشطين حوله، فبادرهم بالقول “أنا ضد هذا العمل، ولكن هل الحل بأن نقتتل ونترك بشار (الرئيس السوري)”. وختم حديثه قائلاً “حسبي الله ونعم الوكيل”، فيما خرجت تظاهرة على إثر ذلك، تندد بهذا التصرف.

وهو ما دفع مسلحي “داعش” للانسحاب  بهدوء ثم عادوا بثلاث سيارات، صوروا التظاهرة  نعتوا المشاركين فيها بـ”الصليبين الكفرة”. انتهت التظاهرة وتراجع معظم الشباب إلى الرصيف المقابل وهم يراقبون بحزن سيارة الإطفاء وهي ترمي مياهها على نيران الحقد وعجز الجميع عن التحرك لوقف ما يجري.

 الكتائب الموجودة (أحرار الشام، جبهة النصرة، وكتائب أخرى صغيرة) تكن لعناصر “داعش” الكراهية، لكنها تخشى ردة فعلهم المجنونة، فحتى أبو سعد، قائد جبهة النصرة، التنظيم الذي انبثقت عنه “داعش”، لم يسلم منهم فقاموا بخطفه.

 الكل يتوعد “داعش” لكن لا أحد يفعل شيئاً، بل على العكس قام قادة هذه الكتائب باتخاذ اجراءات حماية أكثر، بل إنّ البعض قام بارتداء أحزمة ناسفة علها تحميه من أن يكون التالي.

 أما ردة فعل الناس الغاضبة من ممارسات “داعش” فدفعت التنظيم للعمل على خطين متوازيين. خط ترهيبي وآخر مهدئ للناس. فبدأت تكثف من عمليات الإعدام العلني لأناس معصوبي العينين تصفهم بـ(النصيرية). وشهد الأسبوع الماضي حالتي إعدام في المدينة وأخرى في منطقة الكرامة 30 كيلومتراً (شرق الرقة)، وثالثة في الريف الغربي. كذلك عمد التنظيم إلى بث اشاعات عن خلافات بين أفراد التنظيم، وأنّ أمير التنظيم (أبو لقمان) لم يعلم بما حدث، وأنه خطأ فردي دون أن يتخذ أي تصرف على الأرض يوحي بذلك.

 لا أحد يمكنه التكهن بردة الفعل على هذه الممارسات. أتكون صمتاً وعودة لجدار الخوف أم غضبة قد تقلب المعادلة؟

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى