صفحات الناس

“الرقة من البعث إلى الخلافة”: ذكريات ما قبل “داعش”/ سالم ناصيف

 

 

 

بتكثيف لافت دام أقل من 33 دقيقة، إستطاع وثائقي “الرقة من البعث الى الخلافة” أن يلخص حكاية المحافظة التي يجهلها الكثير من السوريين، وكيف أصبحت في زمن قصير من أكثر المدن شهرة، حتى على صعيد العالم، حين اقترن  اسمها بتنظيم “داعش” الذي انقض عليها ليجعل منها عاصمة خلافته المزعومة.

مقدمته المقتضبة، تمهد لولوج الى الوثائقي بسرعة، والتبحر في فصول أربعة متعاقبة، هي مراحل: “البعث، الثورة، التحرير والخلافة”. ولعل هذا الفيلم الوثائقي، هو التجربة الأولى في التوثيق التي يخوضها كل من الناشطين مهند منصور وطاهر مقرش اللذين تمكّنا من انتاجه بأدواتهما التكنولوجية الفردية والبسيطة.

وقال طاهر مقرش لـ”المدن” إن العمل إستغرق قرابة السبعة أشهر حتى تم انتاجه على هذا النحو، مشيراً الى أنه بات من الضرورة العمل على تصحيح الصورة النمطية الخاطئة لدى الكثيرين عن الرقة، وضرورة الخروج من الأحكام المسبقة التي كانت تصفها تارة بتبعيتها المطلقة للنظام ومن ثم تم اتهامها بداعش.

و يتخطى الفيلم الوقوع فخ الطرح الذكوري الذي يُتّهم به عادة مجتمع محافظ كمجتمع الرقة، وذلك من خلال شهادات نسائية كان لصاحباتها دور بارز في حراكها السلمي، كشهادة الناشطة سعاد نوفل وشهادة هالة الكاظم الملقبة بـ”أم الثوار”. كما نجح في تفادي المبالغة والتهويل باعتماد الطرح المتوازن لشهادات وآراء الناشطين والناس البسطاء بلا حشو أو تقويل، وهي أخطاء غالباً ما ترتكب، عن قصد أو عن غير قصد، لتجاوز عقبات الانتقال بالزمن الوثائقي.

يظهر الوثائقي حالة التهميش المزمن والتجهيل المتعمد لسكان الرقة في حقبة “البعث”، حين جعلها حافظ الأسد حديقة خلفية منسية، يقتات نظامه من مقدراتها الغنية من دون أي التفاتٍ لحقوق أهلها في تأمين أدنى الخدمات أو مقومات التطور. وينتقل الوثائقي بعدها إلى فترة “الثورة” بوصفها لحظة التحول الأهم التي تعبر عن حقيقة أهالها، بدءاً من 2 فبراير/شباط 2015، خلافاً لحقيقة زعاماتها العشائرية التي تماهت مع نظام الأسد وقدمت له فروض الطاعة، من ثم تماهت مع داعش وقدمت له فروض البيعة والولاء.

كما يضيء الفيلم، في هذا القسم أيضاً، على حكاية جديدة من عدم الإنصاف والغبن بحق الرقة، حين جرى تهميش حراكها الثوري إعلامياً بشكل متعمد أو غير متعمد، حتى كُتِبَ على ثورتها أن تعيش عاماً كاملا حتى تقنع السوريين بأن ثمة حراكاً ثورياً داخلها، وأن ثمة ثواراً يتكبدون عناء الاعتقال والموت في التظاهرات والسجون. وتأخذ فترة “التحرير” من زمن الفيلم النصيب الأوفر من العرض، بوصفها المرحلة الأهم، وكيفية حدوث ذلك التحول الدراماتيكي ليُفاجأ السوريون بتحرير الرقة، فتكون أول محافظة محررة من سلطة النظام. كما يبيّن الفيلم في هذا القسم دور المنظمات والتجمعات المدنية في ترتيب الحياة وتسيير عمل المؤسسات في فترة التحرير التي دامت مدة أربعة شهور.

وينتقل الفيلم إلى مرحلة “الخلافة” ليحكي حكاية سيطرة داعش على المحافظة التي حُكم عليها أن تغط – مرغمة – في سواد التنظيم المنبعث عبر رايات سلطة الأمر الواقع، وفكره المتطرف، وقلوب قادته وأمرائه الذين أثبتوا بجدارة أنهم الوجه الفاشي الآخر للنظام. ويطرح أيضاً الأسباب التي قادت الى تلك الانتكاسة في حياة المحافظة، واتسم الطرح في هذا القسم  بموضوعيته واعتماده على الأراء المتوازنة، مع تعمّد الجنوح  قليلاً إلى التحليل البعيد عن نمط التنظير أو الاستقراء الأعمى، ليحكي ما للرقة وما عليها، وكيف فرض عليها أن تعيش ظلم الإتهامات من جديد، وتعميم الأحكام التي وصفتها بدعمها المطلق لـ”داعش”.

وتعتبر خاتمة الفيلم، على الصعيد الفني والإخراجي، من أهم أجزائه جاذبية، حين خرجت من الإطار الجمالي إلى الفضاء المدهش، وكأنها تحمل للمتلقي رسالة تعيده الى اعادة البحث عن حقيقة الرقة. وتعيد الخاتمة استخدام الرموز المرئية والصوتية ذاتها المكررة خلال الفيلم في الخاتمة، في دلالة تشير الى حتمية عودة أبناء المحافظة المبعدين قسراً عنها وتحريرها من براثن التنظيم المتطرف مها طال الزمن.

واستخدم الوثائقي وسائل تعبير متعددة، من أغانٍ شعبية صوت قاشوش الرقة، إلى الموسيقى التصويرية والمشاهد الرمزية الحية، وكلها تم توظيفها ببراعة خلال زمن الفيلم، فكانت أشبه بإيقاع منتظم أمّن الانتقال الجاذب لمشاهده المتعاقبة، إضافة إلى توظيفها كحالة رمزية أريد لها أن تقدم رسالة تعبّر عن قيمة أو حالة أو رسالة  مقصودة، كمشهد تدفق نهر الفرات للدلالة على استمرار الحياة ومشهد الرجل المسن للدلالة على العراقة والتاريخ، ومشهد تشغيل ماكينة جر المياة للدلالة على الحركة واستمرارية الحياة وعدم إقفال الزمن في الرقة على عهد داعش.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى