صفحات العالم

الرقّة ورهانات القومية الكردية/ حسن شامي

 

 

هل يشكّل سقوط مدينة الرقة حدثاً مفصلياً كما تقول وسائل الإعلام الغربية خصوصاً؟ الجواب عن هذا السؤال الكبير ليس سهلاً بطبيعة الحال إلّا في عرف المقتنعين مسبقاً بالصوابية المطلقة لنظرتهم ومعتقدهم. وإذا وضعنا خريطة الأجوبة المحتملة بموازاة خريطة الاصطفافات الأهلية المحلية والإقليمية والدولية، المتقلّبة على جمر النار، فلن يكون غريباً أن تأتي الخريطة في صورة متاهة مصحوبة بلغط كبير. لدينا فعلاً لغط عصبيات متولّدة من رحم اجتياحات خارجية وتسلّطات قوى داخلية متعطشة للثأر والتعويض عن مظلومية سابقة أو راهنة أو مقدّرة، وكلها تعد بنزاعات أهلية مفتوحة تتغذى من نفسها. لدينا أيضاً متاهة ناجمة في الواقع عن عملية خلط أوراق بعضها ظرفي يستند إلى تبدلات الجغرافيا البشرية والسكانية وبعضها يستنهض تاريخية أكثر إيغالاً في الزمن.

سقوط الرقة في أيدي قوات سورية الديموقراطية ذات الغالبية الكردية والمدعومة من الولايات المتحدة الأميركية يندرج في سياق سباق محموم على احتلال المساحات التي استولى عليها تنظيم الدولة بطريقة غامضة. هناك بعد رمزي في سقوط الرقة باعتباره تتويجاً لمسار حافل بالمناورات والمفاوضات والتفاهمات المباشرة وغير المباشرة، وهو مسار بدأ قبل عامين تقريباً. وليس هناك معنى كبير للجدل حول تعيين بداية النهاية، هل هي في سقوط مدينة الموصل المعتبرة معقل داعش بعد أن استولى عليها بطريقة غير مسبوقة تشبه الخطف، أم في سقوط حلب الشرقية قبل ذلك في يد القوات النظامية السورية المدعومة من الحليفين الروسي والإيراني، وها هي مدينة دير الزور تسقط قبل أيام في يد قوات النظام ذاته، فيما دخلت القوات التركية إلى مدينة إدلب ضمن خطة ما يعرف بتخفيض التوتر؟

ما ينبغي أن يستوقفنا في هذه المعمعة هو موقع المدن في لعبة الاستيلاء على السلطة وتثبيت الدولة الناشئة. يمكننا أن نجزم بأن كل المراقبين لم يعتبروا تحرير الأرياف والبوادي من داعش وما يناظره حدثاً يستحق الانتباه. ولا يحتاج العارف بتاريخ الشعوب العربية والإسلامية إلى الكثير من التبحّر كي يدرك أن من يأخذ المدينة، أو يبني مدينة كما هي حال العباسيين مع بغداد والفاطميين مع القاهرة والأمويين في الأندلس، يسعه أن يأخذ السلطة وأن ينشئ سلالة حاكمة حتى إشعار آخر. وعليه نرجح أن سقوط الرقة يرتسم في مخيلة الداعشيين كما لو انه سقوط بغداد في يد المغول في القرن الثالث عشر. صورة المدينة وقوامها الديموغرافي تبدلا كثيراً منذ الاحتكاك بأوروبا ونشوء أحياء مدينية جديدة على الطراز الغربي راحت تجتذب أصحاب المكانة والثروة والسلطة، فيما راحت تقاليد المدينة الأصلية القائمة على الجوار والقرابة والفتوة تنتقل إلى الوافدين الجدد من الأرياف القريبة أو البعيدة. يحصل هذا في عالم باتت فيه المدن، وفق سيرورة خاصة بكل بلد، تضم أكثر من نصف السكان. في هذا المعنى، كان «داعش» وأشباهه يتغذون من مخيلة إسلامية قروسطية، فيما المعطيات تستدعي ترجمة الظواهر بلغة الأزمنة الحديثة.

ينطوي سقوط الرقة على شيء من هذا القبيل. الحدث مفصلي في الإعلام الغربي لأنه يعلن بوضوح نهاية التنظيم الذي حارب الجميع بما في ذلك الدول الكبرى والوسطى التي عولت على استخدامه كمادة محدودة الصلاحية للتموضع المديد في النزاعات المرشحة للتناسل. سيظل هناك مقدار من الغموض حول الحصار والقصف وحول عدد الضحايا المدنيين في الرقة وحول مصير مئات الجهاديين الأجانب المعتقلين. هناك تصريح لافت لوزيرة الجيوش الفرنسية مرّ مرور الكرام، إذ دعت إلى القضاء على أكبر عدد ممكن من جهاديي داعش. وهذه إشارة إلى مخاوف أوروبية من عودة الجهاديين إلى بلدانهم الأوروبية الأصلية واحتمال إقدامهم على ارتكاب اعتداءات ومجازر من الطراز الذي شهدته مدن أوروبية عدة. أما وجه ترجمة البزوغ السياسي للجماعات في لغة ورطانة الأزمنة الحديثة فهو يتعلق بصعود المسألة الكردية وتقديم نفسها بلغة القوميات الحديثة وتغليب الانتماء العرقي أو الإثني على وجوه الانتماء الأخرى. وينبغي أن نلاحظ ههنا أن تزايد الوزن المحتمل للقوة الكردية في سورية بعد تحرير الرقة ترافق مع تراجع لنظيرتها في مدينة كركوك المختلطة والمتنوعة عرقياً ولغوياً وثقافياً. الصراع على كركوك بين حكومة بغداد المركزية، إضافة إلى قوى أخرى عربية وغير عربية، وبين القوى الكردية الطامحة إلى توسيع الإقليم لم يكن سراً يحتاج إلى الكشف.

سقوط الرقة يؤذن من ناحية بالخلاص من حكم داعش، لكنه يشي من ناحية أخرى بنوع من «البلقنة» للبلد السوري الذي بات رقعة شطرنج يتلاعب ببيادقها لاعبون من كل الأحجام. وهذه البلقنة، خصوصاً بعد التمدد التركي في إدلب للحيلولة دون ارتسام شريط ترابي متصل يسيطر عليه الأكراد، من شأنها أن تعقد الأمور أمام الطموح السياسي الكردي وأن ترسم حدوداً لهذا الطموح. والحق أن الإقرار بوجود مسألة كردية ينبغي التعامل معها بطريقة عقلانية وراشدة تتفهم المظلومية الكردية من سياسات قومجية، تركية وعربية وإيرانية، لا يعني بالضرورة الموافقة على كل ما يصدر عن هذا الطرف الكردي أو ذاك. إذا كان الحفاظ على مسافة نقدية حيال كل الإيديولوجيات القومية، وفي مقدمها القومية العربية، أمراً ضرورياً فليس هناك ما يبرر الكيل بمكيال آخر مع النزعة القومية الكردية.

ففي واجهة النزعة القومية الكردية نلحظ قدراً لا يستهان به من استلهام الأتاتوركية وإسقاطها على الحالة الكردية. وهذا ليس شيئاً يفرح القلب بالنظر إلى سلبيات التجربة الكمالية وارتجالها بعنف لهوية قومية جارفة مقطوعة الصلة بالإرث التاريخي للدولة والمجتمع العثمانيين. وينطبق هذا أيضاً على الطابع الارتجالي للعروبة السياسية ذات الرطانة القومية والتحريض البريطاني قبيل الحرب العالمية الأولى وغداتها. ولسنا سذجاً كي نصدق أن تقديم صورة استعراضية عن سلوك حداثي يتراسل مع النمط الغربي ومشاركة النساء فيه بالتساوي مع الرجال يلخص واقع المجتمع الكردي وتوزع أمزجته الثقافية والاجتماعية بين المدن والجبال والسهول. هناك روابط تاريخية عميقة، وفي مقدمها العلاقة مع الإسلام ومع اللغة العربية كإرث حضاري وتاريخي، هو ملك للجميع ولكل من ساهم في إنتاج ثقافة معرفية عالية بالعربية أياً كان أصله وفصله.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى