المثنى الشيخ عطيةمراجعات كتب

الروائية السورية سمر يزبك في «المشاءة»: عمل فني رفيع يحاكي واقعاً يفوق الخيال/ المثنى الشيخ عطية

 

 

خَلَلَ غلالة الدمع التي تجمدت شاشةً في عيني، تشكلتْ وردةٌ حمراء قانية، فاتنة آسرة، تثير كل ما في خلايا يدي من رغبة للمسها، وانسحبتْ عدسة عيني ببطء يكبر معه ما يحيط بالوردة التي تصغر، ليتضح أمام حزني كادر فم تمساح مفتوح يوشك على الإطباق؛ وليتحول لون غلالة الدمع إلى لون أحمر قانٍ كامل بلون وردتي…

هذا ما حدث لعيني في تجمدهما أمام الصفحة الأخيرة، أو كوكب رقم 206، من «المشاءة» للروائية السورية سمر يزبك، وما حدث لذهني في ذهانه بخلق كوكب الوردة والتمساح الذي أحببت أن يكون الكوكب السري الخامس من كواكب ريما سالم المحمودي، بطلة الرواية وراويتها التي يرد اسمها كاملاً مرة واحدة عرضاً، وواحدة مفرداً خفياً «كإحدى درجات الأبيض في صفة الظبي». وهذا الكوكب هو ما أحتار في تسميته: هل يكون «كوكب القراءة» باعتباري كنت قارئاً متفاعلاً مع الكلمات والمعاني في أبجدية ريما المتحررة من قيدها والمنتهية أحرفها بأشكال مرسومة في قصصها المرسومة الملونة؟ أم «كوكب المشاهدة» باعتباري كنت مشاهداً لحركة الأحداث وصور المشاهد التي تشبه ما تكتبه وترسمه ريما من ضروب ما مر بها وحوّل رأسي إلى شاشة مقلوبة تقذف المشاهد قذفاً إلى شغف الأعصاب بالتفاعل؟ أم أدع اسمه فارغاً لكي يكون مليئاً بذائقة تأثر كل قارئ يقيم علاقة تشارك كوكبية سرية مع هذه الرواية المدهشة…؟

«المشاءة»، رواية مؤثرة، مهداة إلى الناشطة في الثورة السورية «رزان زيتونة، في غيابها المر»، كرمز عن المعاناة المزدوجة للديمقراطيين السوريين من استبداد النظام ومن القوى الدينية المتطرفة التي خطفت رزان، داخل المدن والبلدات المحررة المحاصرة. وهي رواية فتاة مصابة بإعاقة المشي في خط مستقيم دون توقف بمجرد تركها طليقة، لكنها فاتنة ببراءتها وموهبتها في الرسم والكتابة، ونعرف مباشرة أن الرواية تجري على لسانها، متوجهةً إلى كائن لا تعرف هي ولا نعرف نحن من سيكون: الذي سيجدها في الرمق الأخير من حياتها مقيدة وجائعة ومصابة بالأمراض ولسع الذباب، في القبو المحاصر الذي تكتب منه، في منطقةٍ هجرها الناس رعباً من هول القصف؟ أم الذي يجدها، مثل ما يحدث في الزقاق أمام النافذة المقيدة بها، جثةً منهوشة بأنياب الكلاب، بين أوراقها المتناثرة التي تشكل رواية «المشاءة»؟ أم الذي تصله رسالتها غير المباشرة، المتضمنة بروايتها ونعرف الآن بقراءتنا لها أنه نحن، البعيدون كثيراً أو المجاورون الذين يسمعون صوت المتفجرات التي تقتل الناس؟ وأن الرسالة التي وصلتنا هي صوت المحاصرين الذين يُجزرون بكل أنواع الأسلحة، حتى الكيماوية في الغوطة الشرقية؟ الصوت الذي لا يريد أن يخبرنا عن موته المهول: قصفاً وتجويعاً من قبل النظام، وقيداً وتنكيلاً ممن بيده قوة الجهل من المقاومين المقاتلين فحسب، وإنما أيضاً الصوت الذي يريد بلمسة أصابع هذه الفتاة الساحرة أن يخفف عنا عبء الموت، وأن يقول لنا إنه مجرد اختفاء وإن الحكاية لا تنتهي:

ـــ حكايتها عن نفسها، المشغولة رسماً وألواناً بالنسج الخلاق مع كتاب «الأمير الصغير»، وكواكبه السرية، «أليس» في بلاد العجائب، وقطها المبتسم، «فقه اللغة» للثعالبي وثعلبه الأحمر الذي يرافقه، «كليلة ودمنة» ابن المقفع وفيلها وحيواناتها الناطقة.

ـــ حكاية أمها، التي شكلت قيد الأمان والحماية لها، لكن بمفاهيم التقاليد والخوف الذي يقتل إبداعها.

ــ حكاية الفتاة الصلعاء، المعتقلة والمصابة في أحد مشافي النظام الذي يتم فيه تعذيب المعتقلين حتى الموت على أيدي أطباء وممرضات ومخابرات النظام، وفيه يتم اغتصابها واختفاؤها.

ـــ حكاية أخيها الشاب الذي يمثل شباب الثورة السورية بتوقه للحرية والكرامة، واندفاعه للتظاهر ومساعدة الناس، واضطراره للقتال بالسلاح دفاعاً عنهم، والموت إلى جانبهم.

ـــ حكاية حسن، الحامي لها بعد أخيها، ومنقذها من الموت اختناقاً بغازات السارين في المشفى أو الغرفة المائية التي تعوم فيها أرواح الأطفال والنساء والرجال.

ـــ حكاية أم سعيد المرأة التي اعتنت بها في بيت اللجوء الأول، وشَطَرها القصف إلى نصفين، تحوّل العلوي منهما إلى تمثال نصفي من الطين.

ـــ حكاية الولدين اللذين يجمعان الأعشاب لعائلتهما تحت القصف وتحويم طائرات الموت، بعد أن اضطر الحصارُ الناس إلى أكل الأعشاب.

ـــ حكاية الكلب الذي نبش يد جثة من تحت تراب القصف والتهم أصابعها أمامها، كما رأته من نافذة قبو قيدها وحصارها.

ـــ وحكاية الذبابة الكبيرة الملونة بالأزرق والأخضر، المثيرة للاشمئزاز، والتي علقت، ليس بنقطة الدم السوداء اللزجة على الجدار فحسب، وإنما بأرواحنا التي استلمت رسالة المشاءة، ولم تعد تستطيع الهروب من أعين المحاصَرين التي تحاصرنا.

وتوصل سمر يزبك رسالة المشاءة، أو حكاياتها التي ترويها لنا، بأسلوب السرد البسيط لما يحدث، وبمفهوم أن الواقع يفوق الخيال، لكن بالتقاط فريد لتفاصيل الواقع الجوهرية المؤثرة، التي لا تشمل الأحداث فقط وإنما أيضاً:

ـــ ما يرافق أحداث الواقع من غنى الظلال والإضاءة واللون، بما يتجاوز حدودها المرئية إلى دواخل النفس البشرية ومشاعرها تجاه الخوف على سبيل المثال، حيث تعرض لون الخوف الذي يحير بطلتها: «هل توجد جمل تستطيع وصف اللون الذي كانت تتركه القذائف الكيماوية؟ هل كان أزرق؟ رمادياً مائلاً إلى الزرقة؟ هل كان شفافاً وأزرق»؛ أو تجاه الموت، حيث تعرض لون الموت إلى جانب ألوان معاني الحياة.

ـــ وما يتشابك مع الأحداث من ثقافات تبلورت بأعمال فريدة عبرت حدود القارات، واستقرت في الثقافة الجمعية الإنسانية المشتركة، مثل «الأمير الصغير»، «أليس في بلاد العجائب»، «فقه اللغة»، «كليلة ودمنة»، وطبعاً «ألف ليلة وليلة» التي يشير إليها أسلوب القص المتداخل، لكن بخصوصية أسلوب السرد الطفولي على لسان بطلتها: «أستطيع أن أخبرك الآن كيف سارت القصة بعد ذلك وعلى طريقتي، كما ألعب بالكرة الجنية! وكما لو أن في داخلها نتفاً صغيرة من مرايا مكسورة، وأنا أرمي الكرة الجنية، أمسكها بأصابعي، وأكز على أسناني، ثم بضربة قوية أرميها على الأرض، في تلك اللحظة، ترتطم الكرة الجنية بالأرض، وتتحرك المرايا الصغيرة داخل السائل الأزرق… الذي سيحرك النتف الصغيرة للمرايا التي ستعكس تلك التوهجات المشعة الكبيرة»، كما تشير إليها شخصية حسن الذي تسميه الشاطر حسن؛ يضاف إلى ذلك أعمال شاغال ولوحته عن الرجل والمرأة اللذين يطيران.

ـــ وما يرقى أيضاً بالحكايات إلى رحاب السرد المتألق، مثل معالجة الزمن في حياة المشاءة: «الزمن مثل الوقت الذي مرّ قبل أن أولد، كان لا شيء والآن هو لا شيء. لا أفهمه. لا أعرفه. وأبقى معلقة في نقطة ثابتة، مثل عقارب الساعة التي تدور بالاتجاه المعاكس».

ـــ وما يغاير المألوف، والعادات، والمعتقدات، بما لا يتضح فقط باستخدامها الأمير الصغير لإبراز الفهم المغاير للأشياء بين عين الطفل الطازجة وعقل الكبار المكون بمفاهيم مسبقة، وإنما أيضاً باللعب الإبداعي المحرض على المخالفة، مع الأعمال التي استخدمتها مثل اقتراحها على مؤلف رواية «أليس» الكلاسيكية: «أن يضيف مجموعة أسماك تطير في دروب الغابة التي تجتازها أليس مثل الجنيات، وتطلق فقاعات في سماء الغابة، وهذه الفقاعات يجب أن تكون ملونة، وكل سمكة لها فقاعاتها الخاصة بلونها، وهذه هي أنوار الغابة التي كانت تنقص الحكاية». واقتراحها على كاتب «الأمير الصغير» أن يضيف «مجموعة أخرى من الكواكب، مختلفة الحجوم، كواكب هي ساعات عملاقة تحيط بكواكب الأمير الصغير، وأصوات عقارب الثواني هي التي تضبط حركة دورانها حول نفسها». وتجاوزها ترتيل آيات القرآن، وبالأخص سورتيْ يوسف ومريم، إلى تلحينها: «أم سعيد أخبرتني بأنه يجب أن أجعل تتالي الآيات أقل موسيقية. قالت: حرام تغني هيك، ما تحطي لحن ع القرآن! لم أستجب لها. لا أعرف تلاوة القرآن إلا بهذه الطريقة».

ويبدو أن هذه المغايرة هي جزء أساسي من الخلاف حول جوهر الثورة السورية الذي يعرض في مشاهد عديدة أبرزها المشهد المأساوي في منع الرجال المتدينين نزع ثياب النساء المصابات بغاز السارين، وصراخ الشاب حسن في الرجل الذي يفعل ذلك: أنت تقتلهم، لأن الثياب ملوثة بالغاز»…

في تجمد أيدينا عن إطباق صفحاتها، كي نبقى مع مشاءتنا في قبوها السري، يمكننا أن نختم بأن هذه الرواية عمل فني رفيع ممتع، وحابس للأنفاس، يقتادنا برضى تامّ إلى الدوران في أفلاك كواكبها السرية، وربما ابتكار كوكب خامس… كما فعلتُ شخصياً!

سمر يزبك: «المشاءة»

دار الآداب، بيروت 2017

206 صفحة.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى