صفحات الثقافة

الرواية العربية … والبوليس/ عبده وازن

 

 

رغبت هذا الصيف في أن اقرأ رواية بوليسية بالعربية . جلت على مكتبتين فلم أجد سوى بضع ترجمات لأغاتا كريستي وأخرى تحمل اسم أرسين لوبين، وهو بطل الكاتب الفرنسي موريس لوبلان، أو شارلوك هولمز بطل الإنكليزي كونان دويل. وما إن قرأت صفحات قليلة من هذه الترجمات حتى رميتها بسرعة. إنها «صناعة» النشر الشعبي، بل التجاري في عالمنا العربي. طبعات بائسة شكلاً وورقاً وإخراجاً، وترجمات رديئة جداً تنسي القارئ ما درس من قواعد الصرف والنحو. في العالم العربي ما زال الناشرون يتعاطون مع الرواية البوليسية بما يشبه الاحتقار، أو لأقل عدم الاحترام. سعت إحدى الدور العربية مرة الى تقديم سلسلة من عيون الأدب البوليسي العالمي في صيغة لائقة ففشلت، وسرعان ما أوقفت السلسلة. دور عدة في مصر والمغرب حاولت تقديم أعمال بوليسية، عربية ومترجمة، ولم تنجح في إفراد موقع لهذا النوع الأدبي في المكتبة العربية، فظل على هامش الأدب وفي أسفل هذا الهامش.

ما دفعني إلى البحث عن رواية بوليسية عربية، وليس أجنبية، هو الترويج الهائل للأدب البوليسي مطلع كل صيف في الصحافة الغربية. وهذا ما نفتقده تماما في العالم العربي الذي ما برح يفتقر إلى الأدب البوليسي افتقاراً فادحاً. المجلات الفرنسية، الأدبية والسياسية على سبيل المثل، تولي الروايات البوليسية كثيراً من الاهتمام وتنشر حولها ملفات وتخصها بأغلفتها، مصرة على مواكبة الجديد عالمياً في هذا الحقل الذي يظل ينتمي إلى الأدب مهما بلغت شعبيته. قرّاء الأدب البوليسي يمثّلون فئة كبيرة من هواة القراءة، ودور النشر تلبي أهواءهم وتستعين في أحيان ببعض الكتّاب المحترفين في «صناعة» الروايات البوليسية وهم يجيدون هذا الفن تقنياً وكأنهم «حرفيون»، مثلهم مثل كتاب السيناريو في السينما الهوليودية.

في عالمنا العربي لم تقم حتى الآن قائمة لهذا الأدب الذي يسمى بوليسياً، على رغم ما تزخر به المدن وضواحي المدن والحارات والأحياء من وقائع وأحداث هي بوليسية تماماً ولا ينقصها سوى أن توثق وتروى، لاسيما عقب الثورات الأخيرة وما أحدثت من مآس وتركت من قصص غريبة وعجيبة. وقد تحمل خفايا الديكتاتوريات التي تهاوت ما لا يحصى من السرديات الهائلة والمرعبة التي تؤلف مادة «بوليسية» مهمة. ولئن عمد بعض الروائيين العرب الى استيحاء «مخلفات» الديكتاتوريات في العراق أو ليبيا وسورية، فهم لم يكتبوا روايات بوليسية مقدار ما كتبوا أعمالاً روائية صرفة فيها الكثير من الجرائم وأعمال التعذيب والترهيب، لكنها لا يمكن أن تُدرج في سياق الأدب البوليسي. وأصلاً هذا النوع من الأدب الذي يضم مجرمين وجرائم ، حاضر في الرواية العربية في مرحلتيها التأسيسية والحديثة، ولا يمكن إحصاء الروائيين الذين كتبوا في هذا الشأن، وفي مقدمهم نجيب محفوظ. غير أن الرواية البوليسية أمر آخر، وآخر تماماً في أحيان.

يصف إدغار آلن بو، أحد آباء الرواية البوليسية في أميركا والغرب، هذه الرواية بكونها «لغزاً» يحتاج حله إلى المنطق الدقيق الذي به تُحل مسألة رياضية (ماتيماتيك). إنها أشبه بـ «لعبة» غامضة ومعقدة، يؤديها مجرم ومحقق، وقارئ يبحث مع المحقق عن حقيقة يجهلها كلاهما. التحقيق هنا إذاً ضروري. التحقيق هو الأساس الذي من خلاله يعيد الكاتب بناء الحادثة التي وقعت والتي لم يشهدها المحقق (والقارئ أيضاً) ولا يملك حولها سوى شبهات. هكذا يُستعاد الكلام عن «الحبكة» الكلاسيكية التي واجهتها الرواية الحديثة وتخطتها لتصنع ثورتها. ومن شروط الرواية البوليسية عطفاً على الحبكة، وجود عناصر أخرى، منها: الجريمة، الضحية، المشتبه به، القاتل، المحقق…

إلا أن الرواية البوليسية الحديثة وما بعد الحديثة، ابتعدت قليلاً أو كثيراً عن معايير الرواية البوليسية الرائجة أو المتفق عليها، حتى قيل إن من الممكن أن تُكتب رواية بوليسية بلا جثة ولا بوليس. وهذا ما حصل فعلاً مع روائيين بوليسيين جدد، أميركيين وفرنسيين وإسبانيين وسواهم، ومنهم: جايمس إليروي، موريس دانتك، مانويل فازكيز مونتالبان، روس توماس… في أعمال هؤلاء وأمثالهم، لم تبق الجريمة هي الأساس، لقد تقدمت عليها أمور أخرى مثل الجنس والسياسة والاضطرابات الاجتماعية والبعد النفسي والتحليل… ولعل هؤلاء هم من ورثة روائيين بوليسيين سباقين، من أمثال الأميركيين الكبيرين داشيل هاميت وريمون شاندلر. أصبحت الرواية البوليسية الراهنة رواية اختبارية، حرة ومفتوحة على مصادفات الكتابة، رواية مشرعة الأفق والرؤية، وغير مقصورة داخل حدود ومقاييس. بل تمكنت الرواية هذه من أن تلامس قضايا فلسفية ووجودية وميتافيزيقية من غير أن تقع في شرك النظرية. في هذا الصدد، يقول الناقد الفرنسي فيليب كوركوف صاحب كتاب «رواية بوليسية، فلسفة ونقد اجتماعي» : «تستطيع الرواية البوليسية أن تساعد القارئ على حل السؤال: هل لحياتنا معنى في خواء العالم الحديث؟».

متى يولد في عالمنا العربي أدب بوليسي؟ هل تكون الثورات وما أعقبها من تحولات جسيمة حافزاً على نشوء هذا الأدب غير المألوف لدينا؟

لم يبق من عذر لدى الروائيين لمثل هذا التقاعس بعدما بات السؤال البوليسي على مرمى أيديهم؟

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى