صفحات العالم

الروس في سوريا: استكمال تنفيذ الخرائط المرسومة أم الانقلاب عليها؟/ رلى موفق

 

 

الحدث ليس في إعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيساً لروسيا لولاية رابعة، وإن كان الرجل يعتبر أنه حصد أكبر نسبة تأييد في تاريخ بلاده. الأنظار تتجه إلى المنحى الذي سيغلب في الفترة المقبلة على سياسته الخارجية التي تترك تداعياتها بقوة على الداخل الروسي اقتصاديا وسياسياً، بحيث لن تعود معه المشاعر القومية التي يحييها «القيصر» في شعبه لاستعادة أمجاد الماضي قادرة على احتواء الضغوطات والتحديات أمامه.

لا شك أن بوتين استفاد في السنوات الماضية من وهن أوروبا وتردد أمريكا وتشرذم العرب ومأزق إيران، فعزز تحالفات هنا وهناك، وتقدَّم على جبهات وأنخرط في حروب قريبة وبعيدة، من أوكرانيا إلى سوريا، واستفاد أيضاً من ارتفاع سعر النفط آنذاك، لكن تلك الوقائع لم تزل على حالها، ما يضع الرجل في قلب التحولات، لاعباً مؤثراً ومتأثراً.

كيف سيتعامل بوتين مع حربه في سوريا التي أضحت اليوم المسرح الذي يلعب عليه الكبار بأنفسهم أو عبر وكلاء إقليميين ومحليين، ويتبادلون فيه الرسائل المكتوبة بدماء السوريين على ضفتي النظام والمعارضة، فيما المجتمع الدولي يتعامل مع ما يجري وكأنه يشاهد فيلماً هوليوديّاُ من نسج الخيال؟

الغوطة الشرقية مثال فاضح على تواطؤ الكبار في لعبة الأمم. ما يجري في سوريا راهناً هو لزوم الانتهاء من تنفيذ الخرائط المتفق عليها. الغوطة شوكة في خاصرة العاصمة لا بد من أن تُنزع، وحان وقتها. لكن «تطهيرها» بلغة النظام لا يحصل إلا من خلال تطبيق «النموذج الغروزني». يمكن لروسيا أن تتغنى بسياسة الأرض المحروقة. عاشتها حلب التي كانت محط اختبار الأسلحة الجديدة الروسية وتعيشها الغوطة اليوم، لأن رسم الخرائط وتنفيذها ليس ممكناً من دون حروب تفضي إلى موازين قوى تتم التفاهمات انطلاقاً منها والاتفاقات بناء عليها.

روسيا، التي أقنعها حليفها رأس النظام في سوريا بشار الأسد مع بدء الثورة السورية في آذار/مارس 2011 أنه قادر على احتواء الوضع العسكري والقضاء على تمرد شعبه عليه، وجدت لاحقاً أن عليها أن تتدخل بالمباشر بعد إخفاق النظام الذي استعان بإيران والميليشيات الشيعية من كل حدب وصوب، من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان وغيرها من الجنسيات. كاد النظام أن يسقط في 2015، حين طار قاسم سليماني إلى موسكو لإبلاغ «القيصر» بخطورة الوضع، فكان أن حطت روسيا في سوريا نهاية أيلول/سبتمبر لتبدأ في قلب المعادلة على الأرض.

هل هو فخ نصبه الغرب لها، وفي باله أن يعيد التاريخ نفسه، فتسقط روسيا في سوريا كما سقطت في أفغانستان؟ من شأن خواتيم الأمور أن تحكم بذلك، لكن روسيا بتدخلها فرضت نفسها لاعباً أولاً ورئيسياً على الساحة، إنما أيضاً لاعباً محملاً بالأعباء وتحوطه مخاطر استنزافه على المدى البعيد ليس فقط من الخصوم، بل أيضاً ممن يفترض أن يكون في صف الحلفاء، ولاسيما إيران التي تدرك أن كلما انخرطت موسكو بقواتها على الأرض، كلما زادت احتمالات لعبة عض الأصابع في المحور الواحد، خصوصاً أن إيران وأذرعها تغلغلت في النسيج السوري وتتحكم بكثير من مفاصل النظام، بما يجعل المعادلة معقدة في المستقبل، وتصبح الرهانات بالتالي على موقع الأسد وقدرته على المواءمة بين الحليف الإقليمي والحليف الدولي.

تعقيدات المشهد تنطلق من حسابات موسكو نفسها التي تدرك أن واشنطن وحلفاءها الغربيين قادرون على هز شباكها الاقتصادية، وفي أيدي هؤلاء أوراقاً عدة في حدائقها الخلفية، وإن كان بوتين لم يتوان عن الرد بقوة حين تمّ استخدام أوكرانيا بوجهه، وباتت معادلة أوكرانيا- روسيا إحدى المعادلات المطروحة كلما يجري الحديث عن حلول للأزمات العالقة مع بوتين.

ولم يكن ينقص «القيصر» أزمة تسميم الجاسوس الروسي السابق وابنته على الأراضي البريطانية حتى تتأزم أكثر العلاقات مع أوروبا، وأن بدت تلك الدول مربكة في المواجهة التي لا تريد استعارها إلى حدود التدهور الكلي للعلاقة، حتى أن واشنطن نفسها لا تريد مزيداً من التصعيد مع روسيا، ومزيداً من تراكم الملفات الخلافية، خصوصاً أن اتهام الروس بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية تترك آثارها على الداخل الأمريكي من جهة، وأمام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استحقاق أساسي مع كوريا الشمالية حول ملفها النووي ويحتاج إلى إبقاء الجبهة مع روسيا منضبطة، من جهة ثانية، فضلاً عما ينتظر المنطقة من تداعيات إلغاء أمريكا من جانبها للاتفاق النووي مع إيران.

القراءات متعددة حول الاتجاهات التي سيسلكها بوتين في ولايته الرابعة. تذهب إحداها في اتجاه أن الرجل سينحو منحى تصعيدياً يصل إلى حد افتعال حروب، لأن ذلك كفيل بالحفاظ على شد عصب الروس وحرف الأنظار عن أزمات الداخل، فيما تميل قراءة أخرى إلى بقاء بوتين على منسوب مرتفع من العلاقة المتوترة مع الغرب ولكن من دون الوصول إلى الخيارات العسكرية. وتتحدث قراءة ثالثة عن أن الرئيس الروسي سيعمد في الفترة المقبلة إلى تهدئة الأجواء وإبداء ليونة معقولة في بعض الملفات، إذ أنه يدرك الحاجة إلى فك الطوق الاقتصادي المفروض عليه.

هل تُشكّل سوريا بداية هذه الملفات؟ هي إحدى الساحات التي يمكن استخدامها لإظهار حسن النوايا بالتأكيد، غير أن الاعتقاد الذي لا يزال سائدا ويتعزز يوماً بعد يوم أن الاتفاقات الكبرى على الملف السوري منجزة منذ أن التقى بوتين وترامب على هامش «قمة العشرين» في هامبورغ العام الماضي، وما تشهده الساحة السورية راهناً لا يخرج عن الخرائط المرسومة في تلك الاتفاقات.

في المعلومات التي يسرها معارضو منصة موسكو، أن الفصائل الموجودة في الغوطة الشرقية، سواء «فيلق الرحمن» أو «هيئة أحرار الشام» أو «جيش الإسلام»، كانت على علم بالمصير الذي ينتظرها عن طريق الروس الذين تفاوضوا معها، وربما خرجوا بـ«اتفاقات» ما يطرح السؤال: هل كان مطلوباً هذا الثمن من أجل وضع الاتفاق موضع التنفيذ؟ هل كان مطلوباً أن تعيش الغوطة الشرقية هذا الجحيم وهذه المجازر كي يأتي حل الانسحاب من باب الحاجة الإنسانية؟ الفصائل المحسوبة على قطر وتركيا توجهت إلى إدلب، فيما التكهنات أن جيش الإسلام المحسوب على السعودية ستشمله المصالحة، بحيث يبقى في الغوطة تحت المظلة الروسية وتالياً تحت مظلة النظام، وإلاّ سيتوجه نحو درعا!.

سيطرة روسيا وحلفائها على الغوطة الشرقية يُنهي آخر معقل للمعارضة السورية في دمشق وريفها. وهذا جزء من إنفاذ الخرائط المرسومة، تماماً كما سيطرة تركيا على عفرين ودخول الجيش التركي وحلفائه من «الجيش السوري الحر» إليها جزء من إنفاذ الخرائط، وكذلك انسحاب وحدات الحماية الكردية من منبج في ريف حلب الشرقي، حيث ستكون هناك نقاط مراقبة تركية وأمريكية. هنا يتحول الحديث إلى تفاصيل التفاهم الأمريكي – التركي. الأمريكيون أعلنوا صراحة أنهم سيضمنون حدود تركيا بعمق 30 كلم على الأقل، لكن الطموحات التي عبّرت عنها أنقرة بوصول الأتراك إلى الحدود السورية -العراقية لا يبدو أنها جزء من التفاهم وفق معلومات مقربين من إدارة ترامب. فتركيا ستتجه نحو إدلب حيث مناطق نفوذها.

في منطوق الخرائط المرسومة، فإن المنطقة الشرقية السورية (الرقة- الحسكة- دير الزور) هي مناطق تحت النفوذ الأمريكي. وتذهب أكثر من جهة إلى التأكيد أن المرحلة المقبلة ستشهد سيطرة أمريكية على البو كمال في دير الزور، كجزء من خطة قطع جسر التواصل البري بين طهران ودمشق، كما أن تلك المنطقة مخطط أن يتم ربطها مع المنطقة الجنوبية السورية عبر صحراء تدمر. ويكشف مدير التحالف الأمريكي – شرق أوسطي للديمقراطية طوم حرب، في هذا الإطار، أن ما أعاق تنفيذ هذا الربط هو عدم تبلور القوة العسكرية العربية التي يفترض أن يتم إنشاؤها للقيام بالمهمة على الأرض.

ورغم أن التفاهمات الكبرى تشمل المنطقة الجنوبية السورية، في ظل اتفاق أمريكي- روسي- إسرائيلي- أردني، إلا أنها تبقى المنطقة الأكثر عرضة للاشتعال في المدى المنظور، ولاسيما في ظل الضغط الأمريكي- الإسرائيلي لتنظيف المنطقة كلياً من أي تواجد لإيران وميليشياتها، وفي ظل الحديث المتصاعد عن عزم ترامب إلغاء الاتفاق النووي في أيار/مايو موعد المراجعة الدورية له، وقبل الموعد المرتقب للقاء التاريخي مع الزعيم الكوري الشمالي نهاية الشهر نفسه.

هذا التطور الذي ترافق مع تعيين مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية مايك بومبيو وزيراً للخارجية والسفير السابق جون بولتون مستشاراً للأمن القومي، ليشكلا مع وزير الدفاع جيمس ماتيس مثلث الصقور في الإدارة الأمريكية يشد الطوق على إيران، التي ستلجأ إلى استخدام الساحات المنخرطة فيها للرد على ضغوط واشنطن، ويشكل الجنوب السوري بوابة التماس مع إسرائيل المكان الأفضل والأكثر تأثيراً وضغطاً على الغرب وأمريكا، لكنه في الوقت نفسه سيشكل أيضاً ضغطاً على روسيا التي تتنافس موسكو مع واشنطن على تل أبيب، الأمر الذي سيخلط الأوراق على تلك الساحة، فيما يبني مراقبون ما سيكون عليه الموقف الروسي، إذا اشتعلت الحرب في هذا المربع، انطلاقاً من كلام رئيس الأركان الروسي بأن موسكو سترد إذا تعرضت أرواح الجنود الروس في سوريا للخطر، لكنه لم يذهب إلى أبعد من ذلك، في وقت يدرك الجميع أن التنسيق مفتوح بين تل أبيب وموسكو وواشنطن منعاً لأي خطأ أو احتكاك!.

القدس العربي

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى