صفحات سوريةمؤيد اسكيف

الريف السوري يغزو المدينة؟!


مؤيد اسكيف

يعتبر الريف السوري خزانا بشريا هائلا ويصنف هذا الريف إلى بيئتين اجتماعيتين: بدوية تنتشر في المناطق الشرقية والشمالية وبعض الأرياف المستحدثة في سهول الروج والغاب وجزء من سهل العمق وبيئة حضرية وهي الطابع الغالب للريف السوري… كما تصنف العديد من المدن السورية على أنها أرياف كبيرة ويغلب النمط الريفي على حياة سكانها حتى أن المدن الكبرى في سوريا لم تسلم من ترييفها وهذا ما صار حالة عامة في دمشق وحلب.

لن أخوض كثيرا في التقسيمات الاجتماعية للريف السوري لأن الأمر يحتاج لقراءة علمية منهجية عميقة ولكني أعتقد أنه من الممكن الحديث بخطوط عامة عن الريف السوري وتأثيره بمجريات الثورة وعلى الهوية الاجتماعية السورية. تحتفظ الأرياف السورية أكثر من المدينة بإرث تاريخي قديم حتى أن الكثير منها ما هو إلا عبارة عن متحف بشري وعمراني ولغوي يحتفي بعادات وتقاليد تعود لآلاف السنين حيث أن تأثر الريف بالمتغيرات المحيطة قبل وسائل الاتصال محدود للغاية وجل تلك التأثيرات كانت بفعل القوافل العسكرية أو الاحتكاك التجاري المحدود بالمدينة.

ظل نصيب الريف في عصر الدولة الحديثة ضئيل جدا من المعرفة والتنمية لكنه رفد المدن الكبرى بالعنصر البشري, منها عنصر علمي لكن هذا العنصر البشري المتعلم قطع صلته بمنبته لاسباب عديدة كون الريف بيئة نافرة في ظل ظروفه الحالية فاندمج كليا – أو جزئيا في العصر الحالي – في حياة المدينة ولم تؤثر تلك الفئة الاجتماعية الصاعدة ببيئتها القديمة لاعتبارات حياة الريف وانعدام مقومات الحياة الحديثة فيه، في حين أن اليد العاملة التي تعيش باغتراب حقيقي في المدينة ظلت على صلة بالريف لكنها في العقود الأخيرة نقلت كامل بيئتها إلى المدينة وأطرافها وصبغت أحياء كاملة من هوامش المدينة بطبيعة حياتها.

مع انطلاق الثورة السورية كان الريف هو المحرك الأساسي لها في درعا ودوما وبانياس وإدلب وأغلب ريف دمشق ومنذ الأشهر الأولى للثورة السورية كان الريف بأكمله في قلب الثورة.

انعكس التنوع البيئي والجغرافي والبشري والمعرفي – السياسي/ الحزبي على طبيعة الحراك في الأرياف فتميزت داريا بسلميتها وتنظيمها، واشتهرت كفرنبل بإبداعاتها “التنويرية” وبنش بالنفس الليبرالي المنفتح بداية ثم بوجود جماعات متطرفة منها القاعدة, وريف حوران بتضامنه وتكافله العالي, لكن الريف الحلبي خصوصا كان الأكثر وضوحا في فرض ثقافته القسرية على المدينة المجاورة، ولهذه النقطة عودة أخرى ضمن السياق.

يصر العديد من الكتاب والمحللين على إطلاق تسمية “سنية ” على الثورة بينما أميل إلى إطلاق مسمى ثورة الأرياف والمهمشين أو الهوامش, وهذا لا ينفي مشاركة مجتمع المدينة أو تعاطفه ولكن الريف هو الكتلة الملتهبئة, ووجود بعض الأرياف من خارج النطاق السني كالأرياف ذات المذهب العلوي أو الدين المسيحي إلى جانب النظام أو على الحياد فلأن هذه الأرياف على الأغلب ارتبطت بالمدينة أو بالمظاهر المدنية ومن ناحية أخرى بالدولة ومؤسساتها الوظيفية وبمعنى أدق بالنظام, وهذا الحال ينطبق على الكثير من الفئات السنية الريفية حيث سجلت من خلال الملاحظة الشخصية بقاء أعداد ملحوظة من السنة الموظفين أو المرتبطين بالنظام في مواقعهم الوظيفية مع موقف معلن أو مضمر مؤيد للنظام وجزء آخر على الحياد منه.

وإن كان هناك موظفين سنة انشقوا عن النظام أو انضموا للثورة، فذلك لاعتبارات عديدة أهمها الموجة العارمة في المحيط وتأثرهم بها أو تعرضهم شخصيا لمواقف ومشاهدات أدت لتأييدهم للثورة أو لموقف أخلاقي من النظام وهذا ما ينطبق على شرائح عديدة من مختلف أطياف المجتمع وتلوناته.

إن افتقار الخطاب السياسي المرافق للثورة للأدوات العلمية لاسيما المرتبطة بعلم الاجتماع، فضلا عن حالة التسييس الكبيرة، أدت إلى التعامل مع المجتمع السوري المرتبط بالثورة سواء بالسلب أو الإيجاب بآليات طائفية مذهبية وبمبدأ الكمشة.. بينما أميل مجددا إلى التعامل مع الأمر من خلال منظور اجتماعي باعبتاره صراعا بين طبقات وفئات اجتماعية ” ثورة اجتماعية شعبية ” يشكل النظام دعامة لفئات اجتماعية معينة، ومنها من الطيف السني أيضا لاسيما فئة التجار ورجال الأعمال والموظفين وكبار الموظفين الذين استفادوا من النظام على مدى عقود والمرتبطين به عضويا..

من هنا أعود إلى حلب مرة أخرى حيث شكلت حلب أبرز المحطات في الثورة السورية وبعد تباطؤ في تصاعد وتيرة الثورة، سجلت أسخن النقاط الثورية فيها. في مناطق الهوامش والتي يشكل سكانها من الأرياف الغالبية الساحقة لاسيما من ريفي إدلب وحلب كحي صلاح الدين والسكري والكلاسة والهلّك وبقية الأحياء الجنوبية والجنوبية الشرقية.

فضلا عن التحرك الطلابي الذي ينتمي لفئة الشباب الثوري المتحمس والذي ينتمي لمختلف المشارب السورية لاسيما المنتفضة منها.

عدم تحرك أحياء حلبية خالصة ليس تهمة لأي نسيج اجتماعي بل يؤكد “ربما” على صحة ما أذهب إليه في أن الريف شكل وقود الثورة وحاملها الأساس لاعتبارات كثيرة منها ما يتميز به الريف من تكاتف وتكافل اجتماعي على عكس المدينة – أي مدينة.

إن الثورة السورية في بعض جوانبها انفجارا “سكانيا” كبيراً، حامله الأساسي هو الريف بعد تقويض شرعية العقد الاجتماعي غير المكتوب مع سلطة الاستبداد؛ فقد صار هذا الريف – وهو الكتلة البشرية الأكثر اتساعاً- يفرض أدبياته الخاصة على مجريات الثورة ويطبعها بطابعه الخاص، في غياب كامل لخطاب النخبة المثقفة أو النخبة السياسية الوطنية.

ونتيجة للتقسيمات الطائفية القسرية التي تتداخل فيها عوامل عديدة، منها رغبة النظام وعمله الدؤوب على تطييف المجتمع، وأجندات بعض التيارات المعارضة، وتلاقيها مع أجندات إقليمية، تجد صداها في محتوى لغوي ديني يكتسب شرعية خطاب المظلومية لديه من الآخر المختلف دينياً أو إثنياً، صار هذا الريف نتيجة لهذه التداخلات حاملا لثقافة خاصة تشكل تهديدا تاريخيا على هوية المدينة وبالتالي على هوية المجتمع السوري المديني.. وإذا اعتبرنا تسلم حزب البعث بداية زحف الريف إلى المدينة في العصر الحديث في ظل غياب خطط تنموية جادة في الريف والمدينة على حد سواء، وإذا اعتبرنا فترة نهاية السبعينات وبداية الثمانينات تجدد لهذا الزحف الريفي, واستمرار النزيف في خواصر المدن الكبرى في فترة التسعينات حتى انطلاق الثورة, فإن الثورة السورية تشكل حالة تشظي حقيقي وتبدل فعلي لهوية المدينة ورجحان الكفة لصالح الريف الذي صار عنصرها البشري الفاعل الحقيقي في حياة مدينة كبرى كحلب مع انكفاء واضح، عجز لابن المدينة عن القيام بعملية التأثير أو إدارة أحيائه أو فرض نسقه الاجتماعي وعلاقاته المدينية وسط هذا البحر البشري الهائل بالرغم من انخراطه الفعلي بالثورة من جوانب عديدة لاسيما في العمل الإغاثي.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن علاقة الأحياء الريفية المستحدثة على هوامش المدن كانت منغلقة تماما على مجتمع المدينة ويعيش كلا الطرفين حالة انعزال تام عن الآخر إلا ضمن سياقات محدودة للغاية..

أعتقد أن الريف السوري ميال بطبعه إلى التطرف والتطرف هنا لا يعني أنه إرهابيا وفق المدلول السياسي للكلمة.. ولكنه “أي الريف” منحازا لخياراته بقوة كجزء من صفات ابن الريف.. لا يهادن.. لا يتراجع.. يفرض ما لديه.. وينتقل في خياراته من النقيض إلى النقيض وفق عوامل ذاتية وخارجية باعبتاره انفعاليا عاطفيا.. من صفاته أنه ينتصر حتماً جراء معركته التاريخية مع عوامل الطبيعة القاهرة.. وهكذا كان الريف السوري متطرفا في سلميته في الأشهر الأولى من عمر الثورة ما لبث أن صار متطرفا للدفاع عن نفسه ضد النظام الإجرامي وهو خيار طبيعي ضمن سياقه.. ثم بدأ بفرض خياراته الدينية إذا ما اعتبرنا أن الخطاب الديني لاسيما المتشدد منه رافعته ريفية..

أعتقد وبما أن الريف السوري في طور جديد من انفجاره وبشكل أكثر حدة مما هو متوقع فإن المدينة السورية صارت أقلية حقيقية.. والوجه المديني لسوريا.. في خطر واضح.. يساعد على ذلك طول أمد الثورة وتجذر مشاكلها في عمق المجتمع ما يجعل من سوريا كما هي في أغلب مراحل تاريخها بيئة نابذة للعقول ولرؤوس الأموال ولمجتمع المدينة وهذا ما يجعلنا ننتظر عقودا ريثما تكتمل دورة المجتمع أو أحد أهم أطوارها وهو الاستقرار والانتقال إلى الطور التالي كما حدد ذلك ابن خلدون كي تتشكل معالم المجتمع السوري الجديد.

أورينت نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى