صفحات الناسهيفاء بيطار

الساحل السوري المُدلل/ هيفاء بيطار

 

 

يُعتبر الساحل السوري، تحديداً اللاذقية وطرطوس، من المحافظات المدللة في سورية، إذ لم تُمطر السماء فوقها براميل مُتفجرة تؤدي إلى دمار رهيب في المنازل والمُنشآت، وإلى نزوح السكان المتبقين على قيد الحياة، بعد سقوط حمم السماء وصواريخ الأرض، ففي اللاذقية أكثر من مليوني مواطن من حلب وإدلب وغيرها من المناطق الجحيمية المُلتهبة في سورية، كما أن طرطوس تحتضن حوالي مليوني نازح سوري، معظمهم من حمص والقصير وغيرها. لذا، يُمكننا أن نُطلق على الساحل اسم المنطقة المُدللة في سورية. لكن، توضح السطور التالية بعض هذا الدلال.

تكفي نظرة عابرة إلى شوارع اللاذقية، وهي مدينتي التي أسكن فيها ولم أغادرها، أن نرى هضاباً من القمامة في كل الشوارع والأزقة، وأن نرى نساء وأطفالاً ينبشون فيها بحماسة، لكي يأكلوا ويسدوا عضات الجوع في معدتهم، تكفي نظرة عابرة إلى شوارع اللاذقية، لكي نرى مئات الأطفال الحفاة والمُتسخين وشبه العراة، إلا من ثياب بالية يتسولون المُشاة، وأحياناً نراهم يغطون في نوم أشبه بالغيبوبة على الأرصفة، أو في مداخل البنايات أو في الحدائق، تعودت عيوننا على كل أشكال ومظاهر انتهاك براءة الطفولة، هؤلاء الأطفال السوريون الذين كان يُفترض أن يكونوا في المدارس.

تكفي نظرة عابرة إلى صفحات “فيسبوك” والتواصل الاجتماعي، لكي نقرأ آلاف التساؤلات والاحتجاجات حول التقنين المُتزايد للكهرباء والماء. يصرخ أحدهم متسائلاً: قدموا لنا مجرد تفسير لأسباب هذا الانقطاع المُهين واللامنطقي للكهرباء، إذ أصبحت اللاذقية تتمتع بنعمة الكهرباء أربع ساعات في اليوم فقط! أحدهم كتب على صفحته: نحن في فصل الخريف، أي لا أحد يشغل التبريد، ولا التدفئة، فلماذا هذا التقنين الفظيع للكهرباء؟ كيف سيدرس أطفالنا دروسهم في الظلام وعلى ضوء شمعة شحيحة؟ ولكي يكتمل الدلال في الساحل السوري، فإن تقنين الماء ينافس تقنين الكهرباء، ما يعفي سيدة المنزل أن تشغل الغسالة، أو تضع مؤونة في البراد الذي تحول إلى ما يشبه الخزانة، وصارت الغسالة مجرد ديكور في المطبخ، ولجأت سيدات البيوت إلى الغسيل في الطشت، فتشعر الواحدة بأنها من بطلات مسلسل باب الحارة.

أما الغلاء الفاحش والمتزايد يوميّاً للأسعار فيكاد يُصيب المواطن السوري بالسكتة القلبية أو الدماغية، غلاء فظيع لا يتناسب مع الراتب الشحيح الذي يمكن تشبيهه بالحصوة التي تسند خابية، ولأن المواطن السوري تعود أن يطرح أسئلةً، ولا يجد جواباً عنها، فهو لا يملك سوى الصراخ والاحتجاج على صفحات “فيسبوك”، ليقدم له أحد ما سبباً لكل هذا الغلاء، ولانقطاع مواد تموينية وأدوية إسعافية، وغير إسعافية، عديدة. والظاهرة الخطيرة، والتي لم ينتبه إليها أحد، فهي تفشي ما يتسمى أمراض القذارة، كالقمل والجرب، وعادت حبة حلب (الليشمانيا) إلى الانتشار، آكلة وجوه الأطفال وتاركة ندبات رهيبة، كما أن لُقاحات أطفال كثيرة مفقودة، أو غير متوفرة بالكمية الضرورية.

أما الحالة النفسية والمعنوية المنهارة، واليائسة يأساً تاماً، للإنسان السوري، وفي الساحل السوري أيضاً، فلا أحد يتحدث عنها، أو يبالي بها، لأنها تُعتبر نوعاً من الرفاهية، فإنسان جائع ومضطر أن يتآلف مع الموت كل يوم، ولا توجد أسرة سورية إلا وخسرت ابناً أو أباً أو أخاً، وتحولوا جميعاً إلى أوراق نعي وشهداء أبطال، أمام حياة هي أقرب وأشبه بالموت وأمام انهيارٍ للبنى التحتية للمجتمع، يبدو الحديث عن الحالة النفسية للمواطن السوري ضرباً من الفنتازيا والنكتة. ما ألحظه، ويلحظه الجميع، حالة الاكتئاب الحاد الشامل لكل فئات المجتمع. وحسب علم نفس المجتمعات، تنتشر هذه الظاهرة بشكل جماعي وتؤدي غالباً إلى انتحارات جماعية، بسبب انعدام الأمل وانسداد الأفق، وفقدان الإيمان بالمستقبل، بل إن مُحللين سياسيين عديدين قالوا، إن السنوات العجاف لم تبدأ بعد في سورية، وإن كل هذا الخراب والموت ونزوح ثلث الشعب السوري ليس سوى مُقدمة، أو توطئة للقادم الأعظم.

من يبالي بخطورة نزف سورية شبابها، من يبالي أو يتحدث عن باخرة مرسين التي تنطلق يوميّاً من ميناء اللاذقية، تحمل أكثر من 400 شاب سوري في اتجاه مدينه مرسين التركية، شباب نخر اليأس والإحباط قلوبهم، ودفعهم ليهاجروا إلى أي بلد، ملقين بأنفسهم في قوارب الموت، وحسب إحصائية، إن أكثر من 3500 سوري ماتوا غرقاً في البحر، وهم يحاولون الهروب من بلد رهيب اسمه سورية. وطن استوطنته كل شياطين العالم، وكل دول العالم تسعى لتصفية حساباتها مع بعضها بعضاً في سورية.

الدلال في الساحل السوري هو للحشرات، مثل القمل والجرب والليشمانيا، حيث تستوطن سعيدة ومُرحب بها، وهو للظلام وشح المياه، وللجوع، حيث ينبش آلاف في القمامة ليأكلوا. الدلال في الساحل السوري هو للاختناق بتلك الكثافة السكانية الرهيبة. هذا هو شكل الدلال في الساحل السوري، فكيف، يا ترى، أشكال الجحيم وتنويعاته في المناطق المُلتهبة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى