صادق عبد الرحمنصفحات الناس

السارين والكلور، جدّية القوى العظمى ومزاحها/ صادق عبد الرحمن

 

 

كانت مروحية روسية قد سقطت قرب سراقب في ريف إدلب نهار الأول من آب/أغسطس 2016، وأدى سقوطها إلى مقتل عسكريين روس. وفي الليلة التالية تحدثت الأنباء عن هجوم بغاز الكلور السام على سراقب، تلاه حملة عنيفة من القصف الجوي استمرت عدة أيام، وأسفرت عن عشرات الضحايا والجرحى، وعن دمار واسع في المدينة.

لم تنفِ روسيا مسؤوليتها عن حملة القصف الجوي العنيفة، ولم يكن من الممكن إخفاء الطبيعة الانتقامية لتلك الهجمات، لكن الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف قال آنذاك إن الأنباء عن استخدام الكلور رداً على إسقاط الطائرة أنباء مختلقة تماماً.

لا تبذل روسيا الاتحادية، ولا النظام السوري، جهداً لنفي أعمال القصف والتدمير التي تزهق أرواح العشرات، لكنهما ينفيان دوماً بإصرارٍ استخدام الأسلحة الكيميائية. وهكذا يبدو أنه ما لم يرَ العالمُ مئات الأشخاص يلفظون أنفاسهم بتأثير غازات سامّة، فإنه ليس هناك ما يهدد الأمن والسلم الدوليين في سوريا.

قرارات دولية معطّلة

«يقرر، في حالة عدم الامتثال لهذا القرار، بمـا يـشمل نقـل الأسـلحة الكيميائيـة دون إذن، أو استخدام أي أحد للأسلحة الكيميائية في الجمهورية العربية السورية، أن يفـرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة». هذا نص المادة 21 من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118، الصادر بتاريخ 27 أيلول/سبتمبر 2013، في أعقاب هجومٍ بغاز السارين في غوطة دمشق الشرقية، أوقع أكثر 1300 ضحية يوم 21 آب/أغسطس 2013.

لكن القرار لم يجدِ نفعاً على ما يبدو، إذ واصلَ النظام السوري استخدام الأسلحة الكيميائية بعد صدوره ببضعة أيام، غير أن هجماته اللاحقة لم تكن بغاز السارين، بل بغاز الكلور الذي لم يكن مطلوباً تسليم مخزونه منه بموجب الاتفاق الروسي الأميركي الذي بُنِيَ عليه القرار 2118، وهو الاتفاق الذي تم بموجبه أيضاً إلغاء ضربةٍ عسكرية أميركية للنظام السوري، كانت قدت بدت وشيكةً بعد مذبحة الغوطة.

مرةً أخرى: «يشير إلى ما قرره مجلس الأمـن في قراره 2118، ويقرر في هذا السياق، في حال عدم الامتثال في المستقبل لأحكام القرار 2118، أن يفـرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة». هذا نص المادة 7 من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2209، الصادر بتاريخ 6 آذار/مارس 2015، وكان الهدف من إصداره الإشارة بوضوح إلى أن غاز الكلور ممنوع أيضاً، كأن المنظمة الأممية كانت تريد أن تصلح سوء فهمٍ بسيطٍ وقع فيه النظام السوري.

لم يجدِ ذلك نفعاً أيضاً، لأن سرمين وقميناس كانتا على موعد مع غاز الكلور بعد عشرة أيام فقط، وهو ما تلاه عشرات الهجمات المتتالية التي لم تتوقف حتى اللحظة.

مرةً ثالثة: «يعيد تأكيد قراره رداً على انتهاكات القرار 2118 بفرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة». هذا نص المادة 15 من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2235، الصادر بتاريخ 7 آب/أغسطس 2015، القاضي بإنشاء آلية لتحديد المسؤولين عن الهجمات الكيميائية في سوريا، عبر لجنة تحقيق مشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية.

لم يكن أيٌ من القرارين السابقين على القرار 2235 قد أشار أو طلب الإشارة إلى المسؤولين عن الهجمات مطلقاً، وهكذا تطلّبَ الأمر عامين من التجاذبات بين روسيا والولايات المتحدة لإقرار آلية لتحديد المسؤولين، تنص على تشكيل لجنة خبراء من قبل مجلس الأمن تعمل على تحديد الجهات التي استخدمت الأسلحة الكيماوية في سوريا، ثم تقوم بعرض نتائج عملها على مجلس الأمن لنقاشها.

ثم مرَّ عامٌ ثالثٌ قبل أن تتأكد لجنة التحقيق المشكلة بموجب القرار الأخير أن النظام السوري هو المسؤول عن هجمات بغاز الكلور في تلمنس وسرمين وقميناس بريف إدلب، وهو التأكيد الذي شككت روسيا في صدقيته، ليتم التوصل في النهاية إلى تمديد عمل اللجنة عاماً آخر.

عاد النظام السوري إلى استخدام السارين بعد ما يقرب من أربع سنوات على مذبحة الغوطة الشرقية، وما يقرب من أربع سنوات من تتالي صدور القرارات الأممية ذات الصلة، إذ كانت خان شيخون على موعد معه في صبيحة الرابع من نيسان/إبريل 2017، وهي الواقعة التي جاءت تتويجاً لانعدام فعالية قرارات مجلس الأمن، واستدعت رداً عسكرياً أمريكياً محدوداً سنعود إلى الحديث عنه لاحقاً.

وعليه، هل نستطيع القول إن القرارات الأممية الثلاث «لا تساوي الحبر الذي كتبت به»، وإن الجلسات الطويلة بين وزيري الخارجية الأميركي والروسي كيري ولافروف كانت مجرد هراء؟ يمكن بالفعل قول ذلك من دون أي مبالغة إذا كنا نتحدث عن فائدة تلك اللقاءات في ما يتعلق بحماية أرواح السوريين، أما في ما يتعلق بكيري ولافروف ومصالح بلديهما، فإنه لا بد من التروي قبل القول إن الرجلين كانا يهدران وقتهما من أجل لا شيء.

السارين والكلور

يقول الدكتور محمد درويش، وهو طبيب أطفالٍ مقيمٌ في غوطة دمشق الشرقية، وساهمَ في إسعاف عددٍ من مصابي هجوم الغوطة المأساوي في مستشفى ببلدة كفربطنا:

«غاز السارين واحدٌ من مركبات الفوسفات العضوي، يؤثر في عملية النقل العصبي العضلي، أي أنه يسبب خللاً في عمل الأعصاب والعضلات. يؤدي ذلك إلى تباطؤ القلب، وتضيّق الحدقة، وضيق التنفس، يعقبها اختلاجات عضلية وخروج الزبد من الفم، ثم غياب الوعي، والوفاة في حالة عدم المعالجة. تشبه أعراض الإصابة به أعراض استنشاق المبيدات الحشرية، ولهذا كان لدى بعض الأطباء خبرة في التعامل معها، وكان العلاج المتوفر هو حقن المصابين بالأتروبين».

ويوضح الطبيب: «يحتاج علاج المصاب بالسارين إلى طاقمٍ طبي، يجب أن يكون هناك طبيب قلب وطبيب أمراض داخلية لكل مصابٍ على الأقل، بالإضافة إلى المنفسة والأتروبين. هذا لم يكن كلّه متوفراً، كما كان هناك أخطاء في العلاج من قبل بعض المسعفين، الذين كان بعضهم غير مدرب، وهو ما أدى إلى تضاعف أعداد الضحايا».

ويضيف درويش: «أما غاز الكلور فهو مخرشٌ للجهاز التنفسي والأنسجة المخاطية، ولذلك فهو أقل خطورةً ما لم يكن بجرعات مركزةٍ كبيرة، كما أن علاجه أكثر سهولة. ومن الضروري القول إن الأعراض التي تميزُ السارين عن الكلور في لحظات الاستنشاق الأولى هي تباطؤ القلب وتضيق حدقة العين، أما الاختناق فهو عَرَضٌ مشتركٌ بينهما، قد يجعل التفريق صعباً بالنسبة لغير المختصين».

وإلى ذلك يلفت درويش إلى أنه بعد هجوم الغوطة الكبير، «لم تسجل هجمات كيماوية واسعة النطاق في الغوطة الشرقية، بل كان هناك هجمات محدودة، وكلها بغاز الكلور. لم يمت أبناء الغوطة منذ هجوم آب 2013 بالسارين، لكنهم ماتوا بالآلاف بأسلحة أخرى».

يبدو واضحاً إذن أن غاز السارين أكثر فتكاً من غاز الكلور، وتشير الوقائع اللاحقة للقرار 2118 إلى أن مسألة تسليم النظام السوري لمخزونه من السارين، وعدم العودة إلى استعماله في الحرب السورية، كانت حاسمةً بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية.

أما في ما يتعلق باستخدام الكلور، وهو غازٌ سهل التصنيع، فإن النظام لم يلتزم بعدم استخدامه، دون رد فعلٍ يذكر من أي دولة في العالم، على رغم أن القرارات الدولية بخصوص منع استخدامه صدرت بالصيغة نفسها التي صدر فيها قرار منع استخدام السارين، وإلزام النظام بالتخلي عن مخزونه منه.

لماذا واصل النظام استخدام غاز الكلور بشكل متكرر؟

بالعودة إلى سراقب، كانت أنباء قد تحدثت عن تعرض البلدة لهجوم كيماوي في نيسان/أبريل 2013، قبل هجوم الغوطة الكبير، وقبل صدور القرار 2118، وقيلَ وقتها إن الغاز المستخدم كان أحد غازات الأعصاب. وتعرضت لهجومين كيماويين آخرين قيلَ إنهما بغاز الكلور، أحدهما في 2/5/2015، بعد صدور القرار 2209، والآخر هو المشار إليه أعلاه، في 2/8/2016، بعد نحو عامٍ على صدور القرار 2235.

يبدو واضحاً من الشهادات أن الهجمات الكيماوية على سراقب كانت محدودة، ولم تتسبب بعددٍ كبيرٍ من الضحايا، كما أن ثمة تضارباً في الشهادات، إذ ميّزَ بعض الشهود بين السارين والكلور، في حين قال بعضهم الآخر إن الهجمات كلها كانت بغاز الكلور. وإذا كان الهجوم الأول، الذي يشيعُ اعتقادٌ لا يبدو مؤكداً أنه بغاز السارين، قد تسبب بمفارقة امرأة لحياتها رغم أنه كان على أحد أطراف المدينة، فإن الهجمات التالية، بغاز الكلور، تسببت بحالات اختناقٍ فقط.

الدكتور عبد الحكيم رمضان، من سراقب، الذي عاينَ بعض المصابين بالاختناق في الهجومين الأخيرين، يقول: «غاز الكلور الذي استخدم في سراقب، وفي كثيرٍ من مناطق ريف إدلب، كان أقل تأثيراً بما لا يقاس من البراميل والقنابل العنقودية والفراغية على صعيد التسبب بإزهاق الأرواح، وهو دون شك أقل خطورة من السارين بما لا يقاس أيضاً، لكنه كان يتسبب بإشاعة رعبٍ كبيرٍ بين الأهالي، حتى أن الهجوم الليلي بغاز الكلور على سراقب في أوائل شهر آب الماضي تسبب بنزوح الآلاف من سكان المدينة فوراً».

لا يُلحق غاز الكلور كثيراً من الأذى مقارنة مع السارين، أو مع غيره من أدوات الحرب التي يستخدمها النظام السوري، كما أنه قلما تم استخدامه بكثافة تؤدي إلى أيقاع عددٍ كبيرٍ من الضحايا. وفوق هذا يبدو استخدام الكلور محرجاً دولياً للنظام وحليفته الكبرى روسيا، ودليل ذلك صدور قرارين دوليين يحظران استخدامه ويتوعدان الطرف الذي يستخدمه بالعقاب، في حين لم يصدر مثلاً أي قرارٍ مماثلٍ يتعلق باستخدام البراميل المتفجرة العشوائية التي حصدت أرواح آلاف السوريين، وهي سلاحٌ محرمٌ دولياً إذا تم استخدامه في مناطق يقطنها مدنيون، بل اكتفى مجلس الأمن بإصدار بيانٍ يدين استخدامها في الخامس من حزيران علم 2015، وذلك بعد ضغوطات فرنسية.

أما عن أسباب حساسية استخدام الأسلحة الكيماوية، فلعل بعضها يرجع إلى الحرب العالمية الأولى، التي حصدت فيها الأسلحة الكيماوية، وعلى رأسها غاز الكلور، أرواح مئات آلاف الناس في أوروبا، وخلَّفَت جرحاً غائراً في ذاكرة الغرب، حتى أن أحداً لم يستخدمها في أوروبا في الحرب العالمية الثانية، التي دُمِّرَت فيها مدنٌ أوروبية بأكملها بالقذائف التقليدية. حتى في ما يتعلق بالموت، يبدو أن ما ينكأ جراح «الغربيين» التاريخية أكثر تأثيراً في صنع السياسات الدولية من مجازر تحدث بحق غيرهم في الزمن الحاضر.

وعلى أي حال، لماذا يستخدم النظام سلاحاً يسبب له ولحلفائه حرجاً دولياً، وصدرت بشأنه قرارات ملزمة عن مجلس الأمن قد يتم تفعيلها إذا تغيرت موازين القوى؟

ليس ثمة إجابةٌ حاسمةٌ دون شك، لكن من الأسباب المحتملة، الرعبُ الكبير الذي يتسبب به السلاح الكيماوي، وما ينتج عنه من إضعاف عزيمة الحاضنة الشعبية للفصائل المناهضة للنظام. كذلك قد يكون من بينها توجيه رسالة للمعارضة، مفادها أنه قويٌ إلى درجة أن العالم ليس جدياً في منعه من قتل خصومه بأي سلاح، بما في ذلك الأسلحة التي صدرت بشأنها قراراتٌ من مجلس الأمن. خاصةً أن النظام كان قد تخطى أول «خط أحمر» وُضِعَ له بلا أي عقوبات أو عواقب تذكر، ما رفع توقعاته بإمكانية كسر المزيد من الخطوط الحمر.

ثمة احتمال ثالث تخبرنا به حكاية سراقب مع الهجوم الكيماوي الأخير، إذ بينما كانت الطائرات الروسية والسورية تقصف المدينة كما لو أنها تريد مسحها عن ظهر الأرض، كان الانشغال الرئيسي المتعلق بسراقب منصباً على تقصي حقيقة هجومٍ بالكلور سبقَ حملةَ القصف «التقليدي» المركزة، وأفضى إلى ثلاث عشرة حالة اختناق. وهكذا يبدو أنه يمكن إلهاء العالم كله بالحديث عن الأسلحة الكيماوية، فيما يتم تدمير المدن بالأسلحة الأخرى.

أياً يكن التفسير، فإن هناك أمراً واحداً يمكن استنتاجه على نحوٍ مؤكد، وهو أن النظام السوري كان يعرف أن القوى العظمى جادّةٌ فيما يتعلق بالسارين، وغير جادّةٍ فيما يتعلق بالكلور، ذلك حتى نيسان/إبريل 2017 على الأقل.

اختبار الجدّية

غادر باراك أوباما البيت الأبيض، ومعه جون كيري طبعاً. وجاء الرئيس دونالد ترامب، الذي قيلَ إنه صديق لفلاديمير بوتين، وإنه يبدو منفتحاً حيال التعاون مع النظام السوري في الحرب على الإرهاب. هل يكون هذا هو ما دفع النظام السوري للعودة السريعة إلى السارين؟ هل اعتقدَ أو أُبلِغَ أن الخط الأحمر الوحيد لم يعد موجوداً؟ أم أنه كان يريد اختبار ذلك؟

لا يبدو الوصولُ إلى إجابات مؤكدة ممكناً اليوم، لكن النظام السوري وحلفاءه قفزوا حول «الخطوط الحمراء» وداسوها بأقدامهم في الرابع من نيسان/إبريل 2017، عندما هاجموا خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي بالسارين، وهو الهجوم الذي أسفر عن نحو 100 قتيل، ومئات المصابين.

كما هي العادة، أنكرَ النظام السوري وحليفته وراعيته روسيا أي مسؤولية لهم عن الهجوم، لكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم ينتظر أي تحقيقات، ولم ينتظر الأمم المتحدة ولجانها واجتماعاتها، وأصدر أمراً بقصف قاعدة الشعيرات الجوية التي انطلقت منها الطائرة التي قصفت خان شيخون، لتضرب صواريخ التوماهوك القاعدة بعد يومين فقط.

هكذا تكون جدّية القوى العظمى، ولكن عن أي جدّية نتحدث؟

عن جدّية القوى العظمى

ترافقَ هجوم الولايات المتحدة الأميركية على قاعدة الشعيرات مع سيلٍ من التوقعات والتحليلات، التي ذهب بعضها إلى أن ترامب قد يكون جاداً في إنهاء النظام السوري، لكن وقائع الضربة العسكرية نفسها تقول غير هذا، لأن الولايات المتحدة كانت قد أبلغت روسيا بنيتها قبل توجيه الضربة، وهو ما خفف من خسائر النظام السوري، وكان دليلاً على أن الولايات المتحدة لا تنوي تغيير قواعد الاشتباك على نحو حاسم.

لم تكرر الولايات المتحدة غاراتها ضد مواقع قوات النظام أو القوات الحليفة لها، باستثناء استهداف التحالف الدولي الذي تقوده لأرتال من قوات النظام والميليشيات العراقية والإيرانية تحركت صوب مواقع تتواجد فيها قوات أميركية وغربية شرق البلاد، وهو أمرٌ لا علاقة له بمحاسبة النظام السوري على أي من أفعاله، وإنما يتعلق بلجم المطامح الإيرانية في المنطقة.

لم يتم اتخاذ إي إجراءات لإنهاء عطالة مجلس الأمن، ولا لتغيير موازين القوى بما يجبر النظام على تقديم أي تنازلات سياسية. لم يتم العمل جدياً على تفعيل الملفات الضخمة المتعلقة بالمذابح الكيماوية وغيرها من جرائم النظام السوري، ولم تحظَ اللجان والتحقيقات والتقارير التي أثبتت استخدام النظام للسارين في خان شيخون، ويمكن أن تمهد لمحاسبته وفق القرارات الدولية، بأي اهتمام.

لقد بدا واضحاً أن الرد الأميركي متعلقٌ بالسارين، وبالسارين فقط، وأن الغضب الأميركي ناجمٌ عن كذب النظام السوري ورعاته بخصوص التخلص من كامل مخزون السارين، وبخصوص عدم العودة إلى استعماله.

تحدثت القوى العظمى والإقليمية كثيراً عن سوريا منذ قيام ثورتها، كان هناك مئات الاجتماعات، آلاف التصريحات، خطوطٌ حمراء، وتعهدات كثيرة. لكن ثمة أمران تم الالتزام بهما فقط من بين الأشياء التي قيلت وتُقال، الأول هو ضرورة الحفاظ على «مؤسسات الدولة السورية»، والثاني هو نزع سلاح السارين من يد النظام السوري، ومنعه من استخدامه. وليس ثمة مثالٌ واحدٌ آخرٌ على تعهدات أطلقتها أي قوةٍ دوليةٍ أو إقليميةٍ بخصوص سوريا وتم تنفيذها، ولعل هذا يعني الكثير.

لم يحقق الالتزام بأيٍ من التعهدين مصلحةً واحدةً للسوريين، فهو لم يوقف العنف، ولم يساعد على تحقيق انتقالٍ سياسيٍ على الطريقة التي «تتوافق مع ميثاق الأمم المتحدة». بل تم استخدام الالتزام التام بالتعهدين لإطلاق يد «مؤسسات الدولة السورية» في إجراءات الحفاظ على «السيادة وحكم القانون»، وفي تنفيذ «التزاماتها الدولية» بتسليم مخزونها من غازات الأعصاب، السلاح الوحيد الذي تملكه تلك المؤسسات، ويمكنه أن يلحق ضرراً بدولٍ أخرى إقليمية، أو بقوات دولٍ يمكن أن ترغب في المشاركة في الحرب على الإرهاب.

لا شك أن هذا ما كان يفعله «الصديقان» جون كيري وسيرغي لافروف في عشرات الاجتماعات التي عقداها لأجل القضية السورية، بحثٌ تجريبيٌ حثيثٌ عبر نقاشات تخللها كثيرٌ من الغضب، عن كيفية إدارة الصراعات على النفوذ دون صدامٍ مباشر، ودون انهيار «مؤسسات الدول» التي تدور على أرضها الصراعات، ودون السماح لهذه «المؤسسات» بإلحاق الأذى بأحدٍ غير رعاياها. وهو البحث التجريبي الذي يبدو أنه لا يزال مستمراً، وانتقل إلى مستويات جديدة في عهد ترامب، عندما أصبح السارين والتوماهوك من أدواته.

كاتب سوري، حقوقي مهتم بالفكر السياسي الدستوري.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى