صفحات الثقافة

“السجن الكبير” من سوريا إلى إسرائيل


فيديل سبيتي

اعتقل الشاب ياسين الحاج صالح من كلّية الطب في جامعة حلب بتهمة الانتماء إلى حزب معارض في العام 1980. تنقّل بين سجن حلب المركزي ومعتقل عدرا في دمشق مدّة خمسة عشر عاماً. وقبل أن تنتهي مدّة حكمه عرض عليه سجّانوه أن يصبح مخبراً لهم كي تنتهي فترة إعتقاله سريعاً، كان عليه أن يكتب التقارير ويشي بأصدقائه مقابل حريته. رفض الحاج صالح هذه المساومة التي يسميها “أن تأكل نفسك”، فلا يفرج عنه بعد إنتهاء مدة محكوميته، بل يتم إرساله مع ثلاثين سجيناً إلى سجن تدمر الرهيب، “السجن المطلق” كما يسميه، فيمضي سنة إضافية في مكان جحيمي لا تنفتح أبوابه إلا لتلقّي الطعام والعقاب.

“هناك، لا أخبار جديدة، لا طعام شهياً، لا زاد عاطفياً، لا شيء طازجاً من أي نوع. زمن آسن متجانس، أبدية لا فوارق فيها ولا مسام لها. سجناء يقتلون الوقت بما يتاح من وسائل التسلية، وآخرون يروّضونه بالكتب والأقلام. عالم بلا نساء، لا أسرار فيه ولا خصوصيات”.

في السجون التي تنقّل بينها الحاج صالح، مارس ما يسميه بـ”الإستحباس”، وهو حالة السجين حين يستوطن السجن، يسكنه ويسترخي فيه كأنه في بيته، ويصبح الوقت حليفه، فيبطل وظيفة السجن. يستحبس السجين حين يقوم بعمل نافع أو ينتج ويتعلم، فيدرج سنوات الحبس في حياته. لكن الاستحباس كذلك تسليم بالسجن أو ترويض للنفس على العيش فيه.

مارس الحاج صالح إستحباسه بواسطة القراءة. بعد سنوات من المطالبة والإعتراض دخلت الكتب بأعداد محددة الى السجون، وكانت هذه الوسيلة الوحيدة التي تمكن من خلالها هذا المعتقل من دون محاكمة ومن دون أن يعرف مدة محكوميته، أن يدخل سنوات السجن في حياته، أي أن ينصرف عن إنتظار الحرية والتوقف عن الشعور بأنه مقيّد في سجنه. هذا الإستحباس لا يمكن أن يمارسه كل سجين، فالمسنّ والمتزوج وله أولاد والمرضى والفقراء الذين لا يوجد من يقدّم لهم المعونة من الخارج، جميعهم لا يمكنهم أن يستسلموا للسجن أو لوجودهم فيه.

إنه السجن الذي يأخذ الحرية من المرء وهذه وحدها مأزق كبير، فكيف الحال بسجون تُمارس فيها أنواع التعذيب الجسدي والنفسي كلها، ويديرها ضباط يتمرنون على الوحشية في سبيل الترقي الوظيفي، فالأكثر وحشية ومهابة وسطوة على السجناء هو الذي يتقدم في منصبه من بين العسكريين والمخابراتيين، ويقوم هؤلاء بإبتزاز السجناء مالياً ونفسياً كي يسمحوا لهم بتلقي الزيارات العائلية أو بتلقي الكتب أو بعض الحاجيات من الأهل. وأوضاع المساجين من الأحزاب اليسارية أو القومية أفضل حالاً بمئات المرات من أحوال المساجين الإسلاميين الذين يتعرضون لأسوأ أنواع التعذيب طوال الوقت، وقد تم إرتكاب مجازر بحقهم داخل السجون راح ضحيتها بحسب أرقامهم ما يزيد على 15 ألفاً خلال سنوات الثمانينيات.

هذه المعلومات وغيرها الكثير عن الحياة في السجون السورية خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم أوردها المعتقل السابق ياسين الحاج صالح في كتابه الذي صدر هذا الشهر عن دار الساقي بعنوان “بالخلاص، يا شباب!”. والحاج صالح لم يكن تواقاً في كتابه هذا الى تضخيم الدراما وجذب القارئ الى الحزن أو الى الحقد على نظام البعث الشرس، كل ما في الأمر أنه كان يعرض لحياته ورفاقه في الخمس عشرة سنة التي أمضاها في السجن، هو الحديث عن العلاقة بين السجين والسجن، وعن إمكان تحمّلها، خصوصا لشخص أخرجه السجن مثقفاً ومفكراً ومنظّراً ومعارضاً حقيقياً للنظام كياسين الحاج صالح.

المعتقل هو نفسه، سواء كان في سجون بلده أو في سجون العدو. وضع اليد على حرية المرء بسبب موقفه السياسي أو بسبب كونه مقاوماً، هو نفسه. كلاهما يفقدان حريتهما دفاعاً عن قضاياهما النبيلة والمحقة. كلاهما يتساويان في العذاب والقلق على المستقبل وفي التقييد وفي محاولة الرمي في غياهب النسيان. لكن ما يثير القلق أن لا يتضامن هؤلاء الأسرى بعضهم مع بعض طالما أنهم عاشوا المعاناة نفسها.

في لبنان مثلاً، خرج كل المعتقلين اللبنانيين من سجون العدو الإسرائيلي بعد نضال طويل داخل تلك المعتقلات، لكن هؤلاء المعتقلين الذين يدعون الى إعتصام كلما تم إخراج “عميل” من السجون اللبنانية احتجاجاً. لكنهم لم يقوموا بأي تحرّك لا خلال الأوضاع السورية الراهنة حيث باتت السجون والمعتقلات تعجّ بأقران لهم، ولا في السابق حين كان النظام يعتقل كل من يجد فيه شبهة الإعتراض على النظام. ومن بين المعتقلين السوريين شيوعيون ويساريون وقوميون سوريون وبعثيون عراقيون وإسلاميون، كما هو الحال بتنوع المعتقلين اللبنانيين الخارجين من السجون الإسرائيلية، ومع ذلك لا تسمع بأي بيان جماعي يرفض هذا الإعتقال التعسفي أو يرفض التعذيب، أو دعوة إلى اعتصام من أجل إطلاق سراح معتقلي الرأي، حتى بات الأمر وكأن المعتقلين اللبنانيين السابقين يفرقون بين سجّان وسجّان وبين معتقل ومعتقل وبين تعذيب وتعذيب. وكأنهم يدخلون المعاناة الإنسانية والبشرية التي عانوا منها طويلاً ويعاني منها أقرانهم السوريون، في بازار السياسة اللبنانية تلك التي تحّول السجين سجّاناً والعميل وطنياً، والوطن كله سجناً كبيراً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى