علي العائدمراجعات كتب

«السحابة بظهرها المحني» مجموعة الشاعر السوري ياسر خنجر: غنائيات الوطن والمرأة وظلم ذوي القربى

 

 

علي العائد

تنوس قصائد ياسر خنجر في مجموعته «السحابة بظهرها المحني» بين غنائيتين لا تغادران الأمل، بالرغم مما عاناه من آلام السجن وعسف الاحتلال في الجولان، أو لأنه كذلك، فهو يغني لجولانه الخاص، ولسوريا التي تقدم النذور كل يوم للخلاص من سوري يحتل مستقبلها ويخنق تطلعات أبنائها.

وفي كلتا الحالتين يرى الشاعر بعين القلب جولانه وسورياه وهما يعانيان من احتلالين لابد من كسر شوكتهما. إذاً، لا يُلام شاعر، أو إنسان، إن تسلل الحزن بين كلماته خلال هذه المعركة الطويلة. لكن للشاعر، خاصة، أسلوبه في مسرحة هذا الحزن، لينقله من رؤيته الخاصة إلى هم جمعي يشيع الأمل، ويشتق الفرح من تضاعيف اليأس والحزن.

وفي سوريا التي تعاني احتلالين، بدت مهمة ياسر أكثر صعوبة، وأكثر سهولة، معاً؛ الصعوبة من حتمية دخول صوره الشعرية في تنافس غير متكافئ مع صور الميديا التي رافقت الثورة السورية في كل لحظة منذ بداياتها في 15 آذار/مارس 2011. وأما السهولة، فتأتي من كون القارئ، عموماً، والقارئ العربي، خصوصاً، مهيأ للتفاعل مع الفكرة التي تقولها كلمات الشاعر. إذاً، على الشاعر هنا أن يقول ما يعرفه القارئ، أو يتوقعه، لكن بكلام جديد. هذه غير متاحة أيضاً، فالشاعر يكتب لنفسه أولاً، وحتى لو كان صاحب تاريخ سياسي، وعانى من سبع سنين سجناً في المعتقلات الصهيونية، فليس في صالح قصيدته أن تراعي توقعات الجمهور.

قسَّم ياسر خنجر مجموعته إلى ثلاثة أقسام، بينما حملت لوحة الغلاف توقيع الفنان السوري ياسر صافي، فيما أنجز خطوط غلافها الفنان منير الشعراني. ويبدو الشاعر في كثير من المقاطع مطبوعاً، يقول ما يريد بسهولة، وبنفس غنائي يليق بالشعر الجيد، دون أن تعيبه في بعض المقامات الخطابية العالية التي يتقنها إلى حد ما في نوع القصائد التي تليق بالمنبر. مع ذلك، لا يتردد الشاعر حين تطلب القصيدة ذلك في إنجاز مونولوجه الذاتي، حتى لو كانت تحت عنوان «بين زنزانتين» إذ يقول:

ليَ في السجنِ رفاقٌ،

يَتوبونَ كلّ مساءٍ إلى وسائدَ الأمَلِ.

يَنهَشُهُم جوعٌ،

يُذبلُهُم عَطَشٌ،

ويأبونَ إلّا أن يُزَيّنوا خَصرَ عمرِنا المَكسورِ،

بأسرابِ العصافيرِ الطليقَةِ.

وفي القصيدة نفسها التي أهداها إلى مازن درويش، وكل معتقلي الرأي، يرثي الشاعر لحال السجان، باحثاً عن المفارقة في ما يجمع الجلاد والضحية من إنسانية هي في كلتا الجهتين ملتبسة، ومستلبة: «أَسمَعُ صوتَكَ يُضيءُ زنزانَةً مُجاوِرَةً،/ يَنتابُني السّؤالُ:/ أينَ يُبَدّلُ الشرطيُّ ثيابَهُ/ حينَ يَتَنَقَّلُ بَينَ زنزانَتَينا؟».

البلاد في وجدان الشاعر هيَ هيَ بين ما وراء الحدود، وما داخلها، إذ يتقاسم الجهتين ظالمان يتنكر كل منهما بقناع ما لا يخدع إلا من كان يريد أن يكون مخدوعاً. في «بوصلة»، يخاطب خنجر البلاد التي لن تألف حريتها بعد «بِلادي، وأَنتِ التي أَغرَقوكِ بفَيضِ دمٍ،/ رُدّي التّحيَةَ،/ رُدّي التّحيَةَ مِثلَما عَلَّمتِني،/ حُرّيّةً تَخلَعُ عَرشَ الطاغيَة».

لا ينجو قارئ المجموعة من اقتفاء ملامح التأثر لدى ياسر، وحسناً يفعل الشاعر ما دام لا يقلد، فوحده التقليد يسلب الشاعر صوته الخاص، أما السرقة الشعرية في اللغة، وأساليب الاستعارات، فغير مذمومة، وربما واجبة أكثر منها جائزة. نلمح ذلك مثلاً في هذا المقطع من قصيدة «جنازة»: «لَم أنتَبِه للخُبزِ يَنضجُ في يَديّ/ حينَ غفوتِ على صدريَ سُنبُلةً عاريةً،/ وأجّجتِ فيّ احتمالَ الفَرَح./ لَم أنتَبِه أنّ صوتَكِ كانَ يُجَرجِرُ الفَجرَ/ إلى عتباتِ عَينيّ». ويظهر هذا في أسلوب التقطيع الصوتي الذي يقترب من أسلوب محمود درويش في مزج تفعيلتي المتقارب والمتدارك.

كما نلمح التأثر ذاته بمحمود درويش في القصيدة التي أعارت اسمها للمجموعة «يوشِكُ القلبُ أن يَتَمَلَّك/ ناصيّةَ النَبضِ لَولا ازدِحامِ الضغائِنِ،/ مَخبوءَةً أو طافيَةً/ مَنسولَةً مِن وَحيٍ… مَوروثَةً،/ مَغروسةً عَمداً لتغتالَ في روحِكَ المَغفِرَة».

وفي المثال الأخير، تبدو مقدرة الشاعر على التحكم في صوته وانفعاله ناضجة، وهذا لا يمكن إلا أن يكون موهبة، ومقدرة فريدة، فكثير من الشعراء لا يعرف كيف يبدأ أو ينهي قصيدته، وغالباً ما يتوزع لبُّ القصيدة في وسطها، ووحدهم الموهوبون، دون الاعتداد بالشهرة، من يبدأون قصائدهم بقوة، وينهونها مع تمام المعنى فكرة وعاطفة.

من قصيدة «شهيد»، نقرأ في مفتتحها:»لا يُغمِضُ الشُّهداءُ أعيُنَهُم عَن الحُلمِ/

هواجِسَهُم تَشَظَّت في قُلوبِ النّاسِ أُغنيةً». ونقرأ في نهايتها: «آهِ يا يَديهِ الخاويَة،

لا تَحضُني خَصرَ الرياحِ وتَتركيني عاريا،/ لا تَحضُني وَجَعَ الترابِ المُنكَسِر/ وتُخَلّفي جُرحاً على حوافِ الروح./ يا يَديهِ العاليَة،/ أعلى مِن صلاةٍ في فَمٍ مَجروح».

في القسم الثاني من المجموعة الذي يبتعد فيه الشاعر قليلاً عن نبرة الالتزام الأيديولوجي المباشر، لصالح الهم الذاتي والإنساني العام، ويعطيه العنوان الفرعي «محراث الريح»، ينتظر الشاعر امرأته، متخفية في إهاب غيمة، أو في ثوب عرافة تنشر لغة الحب والأمل. يقول في «نبوءة»: «قالَت لي امرأةٌ مسكونةٌ بالوَحي:/ «لا تُسرع المَشيَ إلى ما تَشتهي،/ فما يشتهيكَ سيُسرع المَشيَ إليكَ/ ويسبقُكَ بخطوة ٍدوماً».

وفي القسم الثالث من المجموعة، نقرأ في العنوان الفرعي «على أهبة الحب» ما يشي بمضمونها وإيقاعها، لكن النتيجة أقل مما يوحي به العنوان، ما قد نفسره بأن قصائدها مبكرة في عمر الشاعر الشعري، إذ لا تبدو المفردات والإيقاع في مستوى القسمين الأول والثاني من المجموعة، فلا الصور مكتملة، ولا تقطيع القصائد يحمل ذلك الزخم الموسيقي المتكئ على أفكار عالية، كما قرأناه في القسمين الأول والثاني؛ لعلها سيمفونية غير مكتملة أرادها الشاعر، أو أتت هكذا عفواَ، ناقصة عن إتمام حركتها الرابعة.

مع ذلك، يذهب الشاعر في ومضات إلى غنائية حميمة في غزله الصريح، محاولاً، للمفارقة، فك أسرار الرجولة أمام أنثاه، على عكس ما اعتاد القارئ العربي، خاصة، من تشاوف الشاعر الرجل في ادعاء امتلاك مفاتيح قفل الأنثى التي عجزت البشرية خلال تاريخها، بكل فنونها وعلومها، عن فك ألغازها التي تستغلق أكثر كلما اقترب الرجل، عموماً، من إدراك أنه حل اللغز.

يقول ياسر:

أكتَفي بالمَبيتِ عُمراً واحداً على صَدرِكِ،

حيثُ تَرعى الظِباءُ الكلامَ

وتَقفِزُ مِن صَخرَةٍ إلى شَفتي،

غيرَ آبِهَةٍ بالرماحِ تَحنُّ إلى ثَقبِها.

 

  • ياسر خنجر: «السحابة بظهرها المنحني».

دار راية للنشر، حيفا 2013. 122 ص.

 

علي العائد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى