صفحات الناس

السرّ الروسي الذائع/ رشا الأطرش

 

 

 

هكذا بدت القضية السورية في المشهد العالمي خلال الأيام الماضية:

تظاهرات في مدن عديدة حول العالم، معظمها يساري الهوى، مستنكرة للضربة الأميركية-الفرنسية-البريطانية، على منشآت النظام الأسدي لتصنيع الأسلحة الكيماوية، والتي لم تُسقط قتلى أو جرحى.

آلاف التغريدات والتدوينات، مع “صور وفيديوهات”، غزت مواقع التواصل الاجتماعي لتتبنى نظريات مضحكة-مبكية في “تفسير” ما حصل لضحايا الغاز في دوما، بدءاً من أن الأهالي والمعارضة سمموا أنفسهم وأن كل هذا “مسرحية”، مروراً بلازمة النظام السوري الذي يحقق انتصارات ضد “الإرهابيين” وليس بحاجة إلى التورط في هجوم كيماوي، وصولاً إلى أن سوريا لم تمتلك يوماً برنامج سلاح كيماوي.. حتى ولو أقرّ بشار الأسد نفسه ببرنامج كيماوي سوري يزعم أنه التزم بالقرار الدولي لتفكيكه.

وبعد..

زعيم “حزب العمال” البريطاني، جيريمي كوربين، يعارض انخراط بلاده في الضربة الأخيرة، ويلقي في البرلمان خطابات مدججة بعبارات وحُجج مستقاة -حرفياً- من مقالات منشورة في موقع “روسيا اليوم”. فضلاً عن أن مستشاره، سوماس ميلني، معروف بتاريخ من التعاطف مع روسيا، وهو لطالما اعتبر تدخلاتها في المنطقة “عنصر استقرار”. وميلني من دعاة “الحل السياسي” في سوريا، ولا يزعجه ما يتضمنه هذا “المسار السياسي والدبلوماسي” من خطاب روسي داعم لنظام الأسد.

ويكمل المشهد..

بعد ساعات على تنفيذ الضربة الأميركية-البريطانية-الروسية، أعلن البنتاغون أن حملات الأخبار الزائفة، ذات المصادر الروسية (Russian trolls)، ازدادت بنسبة ألفين في المئة خلال الساعات الـ24 السابقة. وبصرف النظر عن دقة التصريح الأميركي، فإن بوتين نفسه لم يتحرّج من التصريح بـ”إعجابه بناشطين الكترونيين” متحمسين لروسيا ومصالحها. فيما ينكب صحافيو موقع “بوليغراف.إنفو” الأميركي، على تفنيد مئات النظريات الإعلامية الروسية، بالصور والوثائق، من دون جدوى واضحة في نشر منطق الدحض، في الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بما يؤثر في الموجة الروسية العاتية. وها هي “بي بي سي” تحاول الإحاطة بظاهرة “الصحافيين والناشطين المستقلين” المروجين المنهجيين “للمؤامرة على سوريا”، وتلاحق بعض أشهر الحسابات في وسائل التواصل الاجتماعي. علماً أن المدّ لا يتوقف عند حدود الإعلام، بل يتعدّاه بيُسر إلى الأكاديميا.

وفي خضم المشهدية نفسها، نقرأ عن وفاة الصحافي الاستقصائي الروسي، ماكسيم بورودين (32 عاماً)، متأثراً بإصاباته إثر “سقوطه من نافذة شقته في الطابق الخامس”. والصحافي الشاب، الذي يتم التحقيق في وفاته باعتبارها “انتحاراً”، معروف بتحقيقاته في ملفات الجرائم والفساد في روسيا، وآخرها تناول مقتل مقاتلين مرتزقة روس في سوريا إثر هجوم نفذه التحالف الدولي كردّ على هجوم سابق نفّذه المرتزقة الروس على إحدى مناطق المعارضة السورية.

ثم… خلال حفلة ضخمة أحياها في برشلونة، أعلن الموسيقي البريطاني العتيق، روجر ووترز، وبكل ثقة، أن منظمة “الخوذات البيضاء مزيفة”، وأنها “مجرد بوق دعائي للجهاديين والإرهابيين”. فلا قيمة عنده لتقارير منظمات دولية عن دوما والغوطة وخان شيخون وغيرها، ولا لترشيح “الخوذات البيضاء” لجائزة نوبل للسلام العام الماضي. بل لعل هذا الترشيح نفسه يغذي المخيلة اليسارية بما تشتهيه من “فبركات امبريالية” يجب التصدي لها. هو الموسيقي الذي كان أحد مؤسسي فرقة الروك الشهيرة “بينك فلويد”، والتي ألهمت بدورها أجيالاً من الشباب، منذ ستينات القرن المنصرم، وحتى بعد تفرّق أعضائها، للتمرد على “السيستم” والاستابلشمنت كي لا يكونوا مجرد “لَبِنة إضافية في الجدار”. ووترز معروف بنصرة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. هذا الروجر ووترز يظن أنه يدلي بموقف “مع السوريين”، الذين لم يختنقوا بالغاز أو الكيماوي، ولم يموتوا بنيران النظام العلماني المناهض لإسرائيل، ومعه قوات المقاومة الروسية والإيرانية.. بل الأرجح أنه مؤمن تماماً بصوابية الوقوف ضد “القوى الاستعمارية” التي “ألقت بقنابلها فوق رؤوس السوريين”.

خَرَف سبعيني؟ يَسار مريض أم تواطؤ واعٍ؟ يصعب التكهن. لكن الأكيد أن ووترز، الذي مدح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مقابلة في تلفزيون “روسيا اليوم”، هو قطعة صغيرة – لكن ذات جمهور وتأثير – ضمن “بازل” البروباغندا الروسية العملاقة، سواء أدرك الرجل ذلك أم لا.

وأخيراً، وليس آخراً.. تقرير الصحافي البريطاني “المخضرم”، روبرت فيسك، في جريدة “الاندبندنت” المملوكة للملياردير الروسي ألكسندر ليبيديف منذ العام 2010، والتي تمتلك مصداقية لدى فئة معتبرة من القراء في بريطانيا والعالم. كان فيسك أول صحافي غربي يدخل دوما السورية، بعد “الهجوم الكيماوي المزعوم”، وبدا “الخبير المعتمد لشؤون الشرق الأوسط” محتفظاً بقدرته على إدهاش القراء، لا بمعلوماته ومصادره الواضحة، بل بانطباعاته ومشاهداته ومقابلاته. إذ ركن إلى ما قاله له طبيب واحد في دوما التي تسيطر عليها الآن قوات النظام السوري، والتي، بالطبع، لم يتجرأ على الكلام عنها أكثر من 20 طبيباً عاينوا فيها حالات اختناق وتسمم. هذا الطبيب قال لفيسك إن الصور التي رآها العالم هي حالات نقص في الأوكسيجين، وعوارض ناتجة عن التعرض لكمّ هائل من الغبار! وفيسك اقتنع بتصريح الطبيب القاطن في منطقة استولى عليها النظام، أكثر من بيانات منظمة الصحة الدولية وشهادات الناجين. بل تساءل: كيف يمكن لنازحين إلى تركيا أو إدلب رواية “قصص الغاز”، دون أهالي دوما الماكثين فيها؟؟ في حين لم يطرح أي تساؤل عما فعلته الجرافات الروسية في دوما بعد الهجوم، ولا عن عدم تمكن المحققين الدوليين من معاينة مواقع القصف الكيماوي حتى الآن. لكن الصحافي الكبير لم يفُته أن يرفد تقريره بما شاهده في مقر “الخوذات البيضاء” الخاوي في دوما. إذ لفت إلى أن متطوعي “الخوذات” استقلوا، “مع نازحي المدينة ومسلحي المعارضة، الباصات المحمية من قوات النظام والروس، والمتوجهة إلى إدلب”، للإيحاء بأنهم مرتبطون بمسلحي “جيش الإسلام”، منكِراً أي خطر كانوا سيتعرضون له لدى دخول النظام والروس إلى دوما، ومتجاهلاً أنهم قاموا بعمليات إنقاذ في مختلف المناطق السورية بصرف النظر عن الجهة التي تسيطر عليها.

هذه، إذن، أبرز معالِم المشهد الإعلامي والسياسي خلال الأسبوع المنصرم. الدلالات كثيرة ومتشعبة، لكن أهمها، وأقلّها حظوة بالاهتمام والتمحيص في الوقت نفسه، قد تكون الماكينة الإعلامية الروسية التي تطوّر إمكاناتها وتوسّع تأثيرها، ليس منذ اندلاع الثورة السورية، بل منذ العام 2000.

ففي العام 2003، وثّقت صحافية فرنسية ومعها كاتبان آخران، كيف تحولت المشاركات الروسية في مختلف منصات الانترنت، من “ديموقراطية ليبرالية” بنسبة 70% حتى العام 1999، إلى نَفَس “توتاليتاري” و”لاديموقراطي” ممجد للحُكم بنسبة 60 إلى 80% بعد العام 2000. متوافرة وواضحة الأدبيات الصحافية والبحثية التي توثّق اضطلاع جهاز أمن الدولة الروسي في تجنيد “معلّقين” موالين للحُكم الروسي، كموظفين يتقاضون بدلات مالية عن كل تعليق يكتبونه ويتأكدون من انتشاره في الانترنت. في العام 2012، نشر هاكرز قالوا إنهم ينتمون إلى مجموعة “أنونيموس”، مراسلات الكترونية بين أعضاء “ناشي”، وهي منظمة شبابية موالية للكرملين. وتثبت المراسلات تقاضي “المعلّقين” والمدوّنين ثلاثة دولارات عن كل تعليق يواجه تقارير صحافية سلبية عن الإدارة الروسية، ليصل ما يتقاضاه بعض المجتهدين إلى 20 ألف دولار.

وفي 2013، أورد تقرير لمنظمة “فريدوم هاوس” أن 22 من أصل 60 دولة شملها البحث، تدفع المال للمعلقين للتأثير في نقاشات الفضاء الالكتروني، وأن الدول الاكثر اضطلاعاً في ذلك هي روسيا والصين والبحرين. وكشف صحافيون استقصائيون روس، في 2013 أيضاً، أن “وكالة بحوث الانترنت” في سان بطرسبرغ (400 موظف)، وظّفت العديد من “مشغلي انترنت” الشباب، الموالين للكرملين، والمهمة واضحة: على كل منهم كتابة 100 تعليق يومياً على الأقل، و4 مدونات، ونشر هذه الحصيلة اليومية في أكبر نطاق ممكن. ولعل مقالة بيتر بوميرانتسيف، “داخل قاعة مرايا الكرملين”، في “الغارديان” البريطانية، تقدم فكرة وافية عن سياسة الأخبار الزائفة والحملات الدعائية الالكترونية التي يضطلع بها الحُكم الروسي، منذ سنوات طويلة، لا سيما في ظل زعامة الرئيس فلاديمير بوتين.

والذروة التي بلغتها هذه السياسة بين العامين 2014 و2015، أي “للتعامل” مع الأزمة الأوكرانية واغتيال المعارض الروسي بوريس نيمتسوف، ليست بالضرورة قمة النجاح الوحيدة.

أثبتت تفاعلات الضربة الدولية الأخيرة للمنشآت الكيماوية الأسدية، وإغراق “تويتر” بالبروباغندا الروسية، مضافة إلى قضايا عمالة دونالد ترامب لروسيا، وسرقة بيانات مستخدمي “فايسبوك”، والتأثير في الانتخابات الأميركية، و”الجماعات المريبة” المتحكمة اليوم في الدعاية السياسية الالكترونية، والانتشار غير المسبوق لما تبثه وتنشره الشبكات الإعلامية الروسية بمختلف اللغات، وعلى رأسها “روسيا اليوم”.. كلها ظواهر تدعم الرأي القائل بتسيّد روسي فعلي. ليس بترسانة سلاح، ولا بقوة سياسية واقتصادية استثنائية، بل بنشاط “إعلامي” مذهل. مذهل إلى حدّ الرعب. مذهل إلى حدّ اليأس من إمكانية تحقيق أي عدالة لضحايا النظام السوري.. والعالم.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى