صفحات العالم

السعودية وهاجس تحييد المنشآت النفطية/ وسام سعادة

 

 

منذ القطيعة الديبلوماسية بين الرياض وطهران في كانون الثاني من العام 2016، اتخذت المواجهة بين البلدين، على امتداد الإقليم، منحى تصاعديّاً متواصلاً. كثيراً ما يتعامل هذا المنحى مع الساحات المتفجرة في العراق وسوريا واليمن، أو الحابسة لصاعق انفجارها، كلبنان، كما لو أنّها لا تفي بالمطلوب، وأنّ الأمور ذاهبة إلى الحرب الكلّية الشاملة، إن لم يكن اليوم فغداً.

لا يلغي ذلك أنّ الحرب الدائرة رحاها في اليمن منذ عامين ونصف هي الميدان الرئيسي للمواجهة، حتى إشعار آخر، وهي «توجز» إلى حد كبير، ما يعتدّ به كلّ معسكر، الأسطول البحري والبرّي، من جهة، والترسانة الصاروخية مع كومنولث مهدويّ من الميليشيات المتعاونة مع بعضها البعض تحت قيادة «الحرس الثوريّ» الإيرانيّ من جهة أخرى، وعلى حساب النموذج «الجيش الوطني»، الكلاسيكيّ، على ضفتي المواجهة، فالقوات المسلّحة السعودية تعتمد على سلاحي النخبة (الجو والبحر)، وليس على سلاح البرّ، بدباباته ومشاته، والكومنولث المهدويّ الذي تقوده إيران، يهمّش «الجيوش النظامية»، إلحاقاً لها بالميليشيات المهدوية، من «باسدران» و»باسيج» و»حزب الله» و»أنصار الله» وفصائل «الحشد الشعبي». وليس نافلاً، في هذا المضمار، التوقّف عند الزيارة التي قام بها قائد الجيش الباكستاني الجنرال قمر جاويد باجوا هذا الشهر، لإيران، بقصد الإطلاع على أسلوب تنظيم وعمل قوات «باسيج» الإيرانية، لأجل اعتمادها كرديفة للجيش الباكستاني، كقوات شعبية موالية له لمكافحة الإرهاب. هذا، في حين يقوم النموذج الإيرانيّ على العكس، فالجيش النظامي ملحق فيها بالباسدران والباسيج. والمضحك المبكي هنا أنّ الطلب الباكستاني للنصح والإرشاد من إيران، يأتي بعد أن سبق للأخيرة تجهيز فرق «باسيجية» شيعية، باكستانية وأفغانية، لنصرة نظام آل الأسد في سوريا.

السمة العام للمواجهة الإيرانية ـ السعودية إذاً، سواء لازمت ساحات التناحر الحالية، أو تعدّتها إلى ما هو حرب كليّة شاملة، أنّها تؤشر، من الجهتين، إلى أفول «مرحلة حروب الجيوش النظامية الكلاسيكية» في هذه المنطقة من العالم، وهي المرحلة التي صنعت ذاكرتها في فترة ما بعد انفكاء الاستعمار الغربي، سلسلة الحروب النظامية العربية الإسرائيلية، والحرب الأثيوبية الصومالية، والحرب العراقية الإيرانية (التي ظلّت حرباً بين جيشين نظامين في الأساس، رغم الحرس الجمهوري «المبعثن» من ناحية، و»الباسدران» من ناحية ثانية).

وهذا، إلى حد بعيد الفارق بين إطار المواجهة بين السعودية وإيران اليوم، على امتداد الإقليم، وبين منطق الحرب العراقية الإيرانية. وهذا اختلاف تلغيه اليوم صورة نمطية مغلوطة، تصوّر حرب الثمانينيات كما لو كانت في الأساس تعبيراً عن تناقض سعودي ـ إيراني، عبّر عنها صدام حسين بالوكالة.

هذا لأن الذاكرة في هذه المنطقة أيضاً قصيرة. العلاقات الديبلوماسية بين طهران والرياض لم تقطع إلا قبل انتهاء الحرب العراقية الإيرانية بأشهر قليلة. لم تنتهج الرياض سياسة واحدة، أحادية، بسيطة، طيلة سنوات النزاع العسكري الدامي بين العراقيين والإيرانيين.

فلو قلّبنا في صفحات الثمانينيات مثلاً، نجد طائرات سلاح الجو العراقي وهي تغير على ناقلة النفط السعودية «سفينة العرب»، في 25 نيسان 1984، جنوب جزيرة «خرج»، أحد أهم منافذ تصدير النفط الإيراني. يومها، ضاق العراق ذرعاً بالتعاون النفطي الإيراني ـ السعودي، وعندما استوعبت الرياض رسالة صدام الهجومية هذه، حاولت القوات الجوية الإيرانية أن تبعث برسالتها هي، بخرق السيادة الجوية السعودية، ما أدى لإسقاط طائرتين إيرانيتين بواسطة سلاح الجو السعودي. بالتوازي، ازدهرت الإتصالات السرية بين السعوديين والإيرانيين، وحرصت فيها المملكة على أن تنأى بنفسها عن دائرة الحرب المباشرة، بل مارست ضغطاً بنتيجة هذه الإتصالات على الجانب العراقي لتحييد جزيرة «خرج»، وأسّس ذلك، بحسب محمد رضا جليلي في كتابه «الديبلوماسية الإسلامية. الإستراتيجية الدولية للخمينية» لإبعاد الشيخ أحمد زكي يماني عن وزارة النفط السعودية، لصالح تقارب إيراني سعودي كبير في مجموعة «الأوبك» للدول المصدرة للنفط، توّجته زيارة وزير الخارجية سعود الفيصل لطهران في 20 أيار/مايو 1985، وزيارة نظيره الإيراني علي أكبر ولايتي إلى الرياض أواخر تلك السنة، وسهّلت السعودية بنتيجة هذا التقارب حصول إيران على النفط المكرر، بل أيضاً على الأسلحة، بحسب هذا المرجع الإيراني ـ الفرنسي، في العلاقات الدولية، محمد رضا جليلي، بل أنّ جليلي لا يقرأ صفقة الأسلحة التي كشفتها «إيران غيت»، بمعزل عن هذا التقارب الإيراني ـ السعوديّ منتصف الثمانينيات.

لم يحدث التدهور الكبير في العلاقات بين الرياض وطهران وقت سقوط نظام الشاه، أو مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، بل في نهاياتها. مع تحسّس الرياض بأنّ «خيبة» إيران في الحرب مع صدام، ستدفعها أكثر إلى «اللعب الخشن» معها، وهو ما ظهر في أزمة الحجيج في أيار 1987، التي يصعب الفصل في سردية أحداثها بشكل واضح وحاسم إلى اليوم. هل كانت أيضاً الرياض بحاجة إلى استيعاب سريع لمشهدية الإنتصار العراقية على إيران أيضاً، بالإسراع إلى قطع علاقاتها مع «الجمهورية الإسلامية» قبل أشهر قليلة من انتهاء الحرب؟ هذا أيضاً حساب لا يمكن إستبعاده. خصوصاً وأنّ الإنعطافة السعودية الحادّة التي مهّدت للقطيعة الديبلوماسية الأولى، حدثت في القمة العربية، بعمّان، تشرين الثاني 1987، وتبعها عمل دؤوب على عزل إيران في قمة فيينا للأوبك، كانون الأول 1987، ثم كوتا سعودية تحدّ من عدد الحجاج الإيرانيين فقطع العلاقات مع طهران، في 26 نيسان/ابريل 1988.

لم يشهد عقد الثمانينيات من القرن الماضي إذاً جبهة عربية خليجية متراصة دائماً خلف العراق، في حربه مع إيران، كي يكون بالمتاح النظر إلى المواجهة السعودية الإيرانية اليوم كموجة ثانية من موجات الصراع الحربيّ بين العرب والإيرانيين في التاريخ المعاصر. فالسياسة السعودية في سني الحرب تبدّلت من عام إلى عام، واصطدمت حربياً بالعراق، قبل إيران، عند قصف العراق ناقلة النفط السعودية على ما سلف، ووصل التقارب السعودي مع إيران ذروته عامي 1985-1986، قبل أن تحدث القطيعة بشكل متسارع، استباقاً لنهاية الحرب العراقية الإيرانية، وتحضّراً لملاقاة تبعاتها ومعالجة تداعياتها. أكثر من هذا، عند تأسيس «مجلس التعاون الخليجي» مع بداية الحرب العراقية الإيرانية، لم يثر ذلك حفيظة الإيرانيين فقط، بل حفيظة العراقيين، وبدرجة أكثر، كون هذا المجلس يستثنيه كأكبر دولة عربية في منطقة الخليج.

لم تطل القطيعة الديبلوماسية السعودية الإيرانية الأولى، ذلك أنّ ظروف ما بعد اجتياح العراق للكويت ثم حرب التحالف الغربي ـ العربيّ عليه، أدخلت المنطقة في سياق عام جديد. أما اليوم، وعلى مشارف عامين من القطيعة الثانية بين الدولتين، تتصاعد التعبوية الحربية، رغم غلبة «عادة» استبعاد نشوب الحرب الشاملة، في جمهور المراقبين.

لكن حرب اليمن ليست مجرّد «حرب بالوكالة» بين البلدين. هذا توصيف يمكن مناقشة صلاحيته في العراق وسوريا. أما في اليمن فسمة النزاع «حرب مباشرة» بين إيران والسعودية أكثر. وما يحدث حالياً، في ملف «حزب الله»، يشير إلى حد كبير، إلى «تفكير استباقي»: يتجه «حزب الله» إلى الإنخراط في الحرب اليمنية أكثر من ذي قبل. هذا الإنخراط فيها، وتحديداً إستلامه جبهة الحدود البرية الشمالية السعودية ـ اليمنية، تدريباً وإعداداً وتطويراً للمهارات القتالية والصاروخية لدى الحوثيين، هو ما يشغل بال المؤسسة الأمنية ـ العسكرية السعودية. موضوع «لجم» حزب الله يعني بالدرجة الأولى المسعى لتحييد المشاريع الحساسة في الجنوب الغربي السعودي، وخصوصاً مشروع مصفاة جازان، أحد أهم مشاريع تكرير النفط في العالم، الذي يفترض أن ينجز في الأشهر المقبلة. هاجس «حزب الله» لدى السعودية هو قبل كل شيء هاجس تحييد مصفاة جازان، وعموم المنشآت النفطية. وفي المعطيات الحالية، يكاد يكون ردّ «حزب الله» عن حرب اليمن مستحيلاً، ويكاد البحث ينصب على ايجاد «تفاهم نيسان» بين صعدة وجازان يتعلّق بالصواريخ الباليستية وليس الكاتيوشا هذه المرة، ويحيّد المنشآت النفطية والتجمعات السكنية. صحيح أنّ هناك مآلا شموليا للنزاع، لكن هناك أيضاً إطارا موضعيّا محدّدا لنقطة توتره العليا.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى