صفحات الناس

السفير” مع النازحين السوريين إلى عراء الأخوّة

 

حكايات من سجل خمسين ألف نازح جنوباً

سعدى علوه

ينتشر النازحون السوريون في جنوب لبنان على مساحة قراه وبلداته ومدنه. مع تجاوز جنوبي الليطاني، يسود جو مختلف عن معظم المناطق اللبنانية الأخرى. فالمنطقة التي نالت حصتها من التوتر وعدم الاستقرار على مدى سنوات طويلة ماضية، تبدو اليوم الأهدأ في البلاد. هناك، لا توجد تجمعات كبيرة للنازحين الذين توزعوا في القرى وفي المنازل.

وحدها مدينة صور، عرفت تجمعات للعمّال السوريين الزراعيين منذ ما قبل حرب سوريا، إذ لطالما تجمع العمال في خيم بالقرب من الأراضي الزراعية.

يقارب عدد الأسر السورية النازحة إلى جنوبي لبنان، والمسجلة لدى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، نحو خمسة آلاف عائلة، نصفهم في صيدا. تتوزع العائلات الأخرى البالغ عددها نحو 2500 عائلة مسجلة، على كل من صور ومرجعيون والنبطية وحاصبيا وشبعا وبنت جبيل.

إلا ان المعطيات الميدانية المتوافرة تشير إلى ان نسبة التسجيل لا تتجاوز العشرين في المئة من العدد الفعلي للنازحين جنوباً.

وتشير مصادر في «حزب الله» إلى أن عديد العائلات السورية في منطقة النبطية وحدها وصل إلى نحو 2500 عائلة، غالبيتهم غير مسجلين، ويتوزعون على المدينة وقراها وفي قرى إقليم التفاح. أما في أقضية صور وبنت جبيل ومرجعيون فيصل عدد العائلات، وفق المصدر عينه، إلى نحو ألف عائلة.

وتحصي بلدية شبعا في العرقوب وجود نحو ثلاثمئة عائلة في البلدة، وفق نائب رئيس بلديتها صافي ناصيف، تحمل خمس منها فقط بطاقات تسجيل في المفوضية، بينما أعطي البعض، وهم قلة أيضا، مواعيد في حزيران وتموز المقبلين للحصول على بطاقات. ويمكن أن يصل عدد العائلات في بقية مناطق العرقوب وحاصبيا إلى ثلاثمئة تقريبا.

وتقع مسؤولية إدارة شؤون النازحين في تلك المناطق على عاتق القوى السياسية والجمعيات الفاعلة في كل منها، وهي تشمل بخدماتها جزءاً من النازحين.

ففي صور، على سبيل المثال لا الحصر، توجد خمسة تجمعات لخيم كانت مخصصة للعمال المشتغلين في الزراعة والبناء. مع تطور الأحداث، استقدم هؤلاء عائلاتهم إلى المنطقة وتوسعت «المخيمات». ويصل عدد العائلات في بعض التجمعات إلى خمسين عائلة، أي نحو 250 نسمة إذا ضربنا كل عائلة بخمسة أشخاص، مع العلم بأن متوسط العائلة السورية لا يقل عن سبعة أفراد. يعاني هؤلاء ظروفا معيشية وخدماتية وصحية مزرية. يحفرون حفرا صحية بالقرب من الخيم لمياه الغسيل والاستحمام، بينما خصصت أطراف «المخيم» للمراحيض التي تتقاسمها العائلات بعدما تم توزيعها بين النساء والرجال.

تعتبر منطقة الجنوب الأقل ازدحاما بالنازحين مقارنة مع البقاع والشمال، ولا يمكن الحديث عن وضع متشابه لجميع النازحين في الجنوب. هناك النازحون الأوائل الذين حظوا باهتمام أكبر وبخدمات أفضل فور مجيئهم، حين لم تكن الأرقام قد ارتفعت كثيراً. وهناك من يتلقون مساعدات غذائية وطبية محدودة، وهناك من لا يسأل عنهم أحد.

لكن للنازحين السوريين ميزة محترمة تجعل منهم نازحين عزيزي النفس والكرامة. لا يلجأ هؤلاء إلى طلب المساعدة إلا في حال عجزوا عن تأمين متطلباتهم بأنفسهم. تجد رجالهم يعملون في أي شيء لتأمين مردود مادي لإعالة أسرهم. هم يرسلون أطفالهم من عمر سبع سنوات وما فوق، إناثاً وذكوراً، للعمل في الزراعة أيضاً. يمكن أن تجد طفلاً لم يتجاوز السابعة عائداً عند الرابعة من بعد الظهر محملاً بخمسة كليوغرامات من البطاطا هي أجرته عن ثماني ساعات عمل، يعمد بعدها إلى بيعها لمساعدة أسرته.

تشير مصادر «حزب الله» إلى تقديم المساعدات إلى نحو 2500 عائلة في منطقة النبطية، لافتة إلى دفع نحو سبعين ألف دولار كبدلات سكن، (تشمل نحو أربعمئة عائلة بمعدل مئتي دولار للشقة)، بينما يتم توزيع مساعدات غذائية وأدوات منزلية وفرش وحرامات وسجاد ومدافئ ووقود خلال الشتاء، بالإضافة إلى الخدمات الطبية.

وبلغت كلفة الاهتمام الصحي بالنازحين، وفق مصادر الحزب، نحو مليار ليرة لبنانية لغاية شهر كانون الثاني المنصرم. وتعترف مصادر الحزب في النبطية وصور ومرجعيون وبنت جبيل بعدم قدرتها على تقديم المساعدات لكل العائلات «كنا نقدم أثاث بيت كامل مع الأدوات المنزلية في المراحل الأولى من النزوح، لكننا اليوم نهتم بمساعدة الآتين الجدد ريثما يتدبرون أحوالهم».

وفي صور وبنت جبيل ومرجعيون، بلغت كلفة المساعدات التي قدمها الحزب للسوريين نحو نصف مليون دولار على مدى عام كامل، أي منذ بدء النزوح نحو الجنوب.

من جهتها، تقدم «مؤسسة عامل» خدمات طبية واجتماعية في صور والبازورية والخيام والعرقوب. وتشمل الخدمات وفق المؤسسة خمسين إلى ستين مريضاً في اليوم . ويتم تأمين الأدوية المدرجة على لائحة منظمة الصحة العالمية لهم، مع فحوصات دم وصور شعاعية و«سكانر» ورنين مغناطيسي للمحتاجين بالإضافة إلى اهتمام خاص بالأطفال والحوامل. كما تقدم المؤسسة الخدمات عينها لنحو ثلاثمئة عائلة في شبعا والهبارية، مع برامح دعم نفسي واجتماعي وتكييف مدرسي لنحو مئتي تلميذ مع المناهج اللبنانية.

لكن، على الرغم من التقديمات، يشهد الجنوب معاناة كبيرة يعيشها الكثير من النازحين السوريين الذين تصلهم خدمات مجتزأة وغير كافية، أو الذين لا يعرفون من يقصدون في ظل غياب التنسيق الرسمي للدولة اللبنانية التي تأخرت كثيراً في الإمساك بالملف وإدارته والإشراف عليه.

العبور إلى العوز

يرن هاتف مسؤول الشؤون الاجتماعية في «الجماعة الإسلامية» في شبعا مالك غادر. يُعلمه أحد النازحين السوريين في البلدة بمجيء قافلة جديدة عبر معبر «عين السودا» في جبل الشيخ، على حدود المنطقة المتاخمة للريف الشامي. يتصل غادر بكل من مخابرات الجيش والصليب الأحمر اللبناني وبمجموعة من شباب البلدة، فتتوجه قافلة استقبال نحو المعبر المذكور. تتكون القافلة من عناصر أمنية، وسيارات إسعاف، ومسعفين وبعض المتطوعين على البغال والدواب. فالطريق من بداية المعبر صعودا نحو رأس الجبل غير صالحة للسيارات.

تصل القافلة إلى المعبر الجبلي من الناحية اللبنانية، قبل أن يظهر أي نازح. يمتطي بعض الشباب البغال والدواب، بينما يحمل متطوعو الصليب الأحمر حمالاتهم الطبية ويبدأون بالصعود من السفح الصخري الوعر لملاقاة القادمين المتعبين. يلزم النازحون من بلدة «بيت جن» السورية في ريف دمشق نحو عشرين ساعة سيراً على الأقدام ليقطعوا قرابة خمسين كيلومتراً في سلسلة الجبال الشرقية في جبل الشيخ الفاصلة بين لبنان وبين سوريا.

هي رحلة أشبه ما تكون بدرب جلجلة يتخللها المرور على مقربة من أعلى قمة في الجبل، يصل ارتفاعها إلى 2817 مترا عن سطح البحر. معظم النازحين هم من النساء والأطفال وكبار السن وبعضهم من ذوي الاحتياجات الخاصة. يصلون حفاة و«بالثياب التي عليهم»، وأحياناً يأتي بعضهم على البغال والدواب، إذا تيسر لهم ذلك، حاملين بعض الاحتياجات القليلة.

يحصل أن تعجز البغال عن قطع المسافة الطويلة والصعبة بالحمولة، فيحمل الكبار صغار الأطفال من ست سنوات وما دون، بينما يكون على ابناء السنوات السبع وما فوق التصرف كبالغين.

عند أعلى التلّة المشرفة على شبعا، يلتقي من صعد ضمن قافلة الاستقبال مع القادمين . كان العدد صادماً هذه المرة نسبة للاستعدادات. أكثر من مئة فرد بينهم الكثير من الأطفال والنساء الحفاة. الرجال كانوا حفاة أيضا، لكن الأولوية كانت للنساء والأطفال.

تبدأ الخطوات الإسعافية الأولى للمحتاجين بالإضافة إلى مد القادمين بالماء وبعض السكاكر مع العصير. صعوبة الرحلة لا تكمن فقط بالوعورة الجغرافية وبالمسافة الطويلة، وإنما ايضاً بمخاطر الخروج من البلدة وسط الاشتباكات الدائرة فيها، وقطع جزء كبير من الجبال ليلاً وسط كل المصاعب المترتبة على ذلك.

الحذاء بالمداورة

توضع سيدة مريضة على البغل فينتبه احد المتطوعين إلى حذائها. ينزعه من قدمها لتبدأ النساء الحافيات بلبسه مداورة. تمشي كل امرأة مسافة بالحذاء، ثم تعطيه لسيدة حافية أخرى. وهكذا، إلى أن تمنح كل سيدات القافلة فرصة السير بالنعل لإراحة أقدامهن، ولو لمسافة قصيرة. الأطفال كانوا أكثر حظّا من النساء، إذ يحمل المتطوعون المتعبين من بينهم بينما تواصل القافلة سيرها لتصل المعبر، ومن هناك إلى شبعا. المرضى والمسنون والرضع ينقلون بسيارات الإسعاف، بينما تستعمل البغال والدواب المتوافرة لنقل المنهكين نحو البلدة.

وصل عدد النازحين من «بيت جن» إلى شبعا نحو ستمئة شخص في شهر واحد، ليرتفع عدد الموجودين فيها إلى 1200 نازح. يقول غادر ان الجمعيات الإسلامية في البلدة، وعلى رأسها الجماعة الإسلامية، و«وقف النور الخيري» (تابع للسلفيين) تتعاون كلّها مع البلدية لتأمين احتياجات 1200 شخص نازح في شبعا، وهو ليس بالرقم القليل نسبة إلى خمسة آلاف نسمة يقيمون في البلدة. النازحون باتوا يشكّلون الآن ربع السكان.

يسكن النازحون في بيوت تتراوح إيجاراتها بين 150 ومئتي دولار. فتحت الجماعة «مركز الدعوة الإسلامية» التابع لها لاستقبال القادمين من «بيت جن»، بعدما لم يعد هناك منازل تستوعبهم في شبعا، وبانتظار العثور على أمكنة أكثر راحة لهم.

بين صخور التلة المقابلة لمركز الدعوة حيث تسكن 23 عائلة من النازحين، تنصب ثلاث نساء ثلاثة مواقد تتناوب العائلات على الطهو على نارها. «أعين الغاز» الصغيرة التي وزعت عليهم لا تكفي لإنضاج طبخة طوال اربع أو خمس ساعات.

تقترب إحدى الفتيات من قدر الفاصوليا الذي يغلي على النار، وتطلب من أمها القليل من الطعام «أنا جوعانة»، تقول. تومئ المرأة لابنتها بوضع القليل من الفاصوليا «بس بعدها ما استوت عالإخر». تغرف الفتاة من الفاصوليا بعض الحبيبات مع حساء أحمر. لا لحم ولا من يحزنون. تخفض ربة المنزل رأسها عند سؤالها عن محتويات الطبخة لتقول «الحمد لله انه في فاصوليا معليش بعدين بيرجعوا بياكلوا لحمة». تستدرك السيدة وتقول ان الجماعة والجمعيات الأخرى يوزعون اللحمة كل يوم أربعاء «ويومها بيطلع للأولاد».

جارتها تطبخ «لبن أمه مع رز». «اللبن أمه» هنا هو لبن مغلي فقط وبجانبه أرز. الثالثة تطبخ «يخنة الحمص»، و«اليخنة» تقتصر على الحمص المسلوق ايضاً.

في داخل المركز، تسكن ثلاث عائلات في غرفة واحدة. أم واب مع ولدين متزوجين وعائلتيهما. في مطبخ الطابق الأرضي تسكن عائلة مؤلفة من أربعة أشخاص بمساحة لا تزيد على مترين عرضا وثلاثة امتار طولا، يشاركهم «المجلى» والخزائن بالمساحة. يقولون ان لا نقص على صعيد الحبوب والمعلبات والخبز التي توزع عليهم دورياً، حتى ان هناك طبيباً يأتي إلى البلدية من الهيئة الطبية الدولية كل يوم اثنين واربعاء مع بعض الأدوية. في المركز تشكو إحدى السيدات من نقص دواء طفلها الذي يعاني قصورا كلويا، فيعدها شاب من الجماعة بمحاولة تأمينه.

تقاسم المتيّسر

شبعا المتدرجة في جبلها فقيرة بأراضيها الزراعية. مزارعها، حيث أملاك أهلها، محتلة، وبالتالي لا فرص عمل كثيرة فيها. من يملك جلاً أو قطعة أرض من أهلها يهتم بها مع عائلته. الناس هنا غير مرتاحين مادياً لاستخدام الغير. وبالتالي لا تسجل نسبة عمالة سورية كبيرة في المنطقة. لذلك، يجلس الشباب والرجال النازحون في الشمس طوال الوقت عاجزين عن إيجاد عمل.

العمل هو ما تبحث عنه إحدى النازحات مع ثمانية أطفال كبيرتهم في الخامسة عشرة من عمرها. لدى السيدة الأربعينية بعض الحبوب التي بقيت من «كرتونة الإعاشة» ولكن لا خبز ولا خضار. أما البيض واللحوم والحليب فهي من الكماليات.

يوم أمس، باعت ربة الأسرة كيلوغراماً من شاي الإعاشة لتشتري بثمنه الخبز لأولادها على مدار الأسبوع «بلالهم الشاي، الخبز أهم». بالأمس تناول اطفالها وجبتهم الأولى من اللبنة مع الخبز بعدما «تحننت» إحدى جاراتها عليهم بنصف كيلو لبنة. «لففت لكل منهم عروسا صغيرة مع كوب شاي». قالت لهم ان عليهم الاقتصاد ليتسنى لهم تناول اللبنة على ثلاثة أيام. تميل السيدة برأسها جانباً مدارية دموعها لتؤكد ان ليالي كثيرة تمر على أطفالها من دون عشاء «ايه.. بيناموا كتير اوقات جوعانين». وحده ابن السنة ونصف سنة «يحرق» قلبها، «عطول بترك له خبزة ع جنب حتى بلله اياها بالمي وعشيه».

حال المرأة يتكرر مع نازحين أخرين في البلدة، فالجمعيات الداعمة تشتكي من قلة التمويل «نفعل ما بوسعنا، ومع ذلك هناك بعض الشكاوى غير المحقة أيضاً» وفق ما يقولون.

ليس من الجوع وحده ..

تنهمك أم عمر بأشغالها اليومية، بالكاد تجد الوقت للحديث. حول خصرها الممتلئ تعقد «داير» فستانها الطويل وهي تنشر غسيلاً ناصع البياض على مصطبة الدار المطل على وادي عربصاليم. قبل عام ونصف عام، وعلى إثر احتدام المعارك هناك، قصد ابو عمر بلدته طفس في محافظة درعا، حمل زوجته وأولاده الثمانية، وجاء بهم إلى جنوبي لبنان، حيث يعمل منذ خمس سنوات.

تترك المرأة الخمسينية سلة الغسيل لتلبي طلب جارتها التي وصلت للتو. جمعت ام عمر لأم حسين بيض دجاجاتها على مدار خمسة ايام، وها هي تسلمها خمس عشرة بيضة مقابل ستة آلاف ليرة لبنانية. سعرّت «كرتونة» البيض البلدي باثني عشر ألف ليرة «الزراعي يلي ما بيتاكل بعشرة آلاف»، تقول مبررة الصفقة التي عقدتها للتو. تعرف انه يمكنها ان تبيع كمية البيض نفسه بأكثر من ذلك «لكن كل الناس سواسية، جيراننا ليسوا افضل حالاً منا».

تنتهي ام عمر من غسيلها لتنده على ابنها طالبة «كمشة» عدس. يترك ابن السنوات العشر بيت الحجارة الذي يبنيه لشقيقته ابنة السنتين على الدرب المؤدي إلى البيت، ويسرع نحو الداخل عائداً بما طلبته امه.

«تيعا.. تيعا.. تيعا» يعلو صوت ام عمر، وسرعان ما تخرج من الحظيرة الملاصقة لغرفتها دجاجة مع صيصانها الثمانية. تنثر حبوب العدس بعيداً عن الدجاجات الأخرى التي كانت «تنقد» كومة روث البقر بالقرب من باب الحظيرة. وتشير إلى الفتى العائد من بعيد متأبطاً غمر حشيش لتقول «هذا ابني السادس، درويش شوي، كان عم يحش للبقرات». يسلم ابن الثلاثة عشر عاماً الحشيش لأمه تضعه في معلف البقر، لديها بقرتان.

تعيش أم عمر وعائلتها في غرفتين. واحدة تسكنها مع زوجها وستة من أولادها، والثانية لابنها البكر مع زوجته. يقتصر اثاث المنزل على ست فرشات وبعض الأغطية والأواني المنزلية الضرورية جداً. لا براد ولا تلفاز ولا غسالة، فقط غاز بـ«راسين». «الحمد لله»، تقول، «ما حدا بيموت من الجوع». يعمل أبو عمر في الزراعة، بينما وجد بكرها عملاً في مكبس لحجارة البناء، «اللبن».

تضيف أم عمر مدخول رجليها إلى ما تجنيه من بيع البيض ولبن وحليب بقراتها لتؤمن احتياجات عائلتها الكبيرة. «حزب الله ما قصروا معانا»، تقول وهي تشير إلى أنهم دفعوا إيجار منزلهم هذا الشهر، كما وزعوا عليهم حصة غذائية تحتوي على أربعة كيلوغرامات من «سكر وأرز وحمص وعدس وفاصوليا وزيت نباتي وبعض المعلبات».

ما إن تجلس أم عمر وتستكين حتى تدرك سبب إشغالها نفسها إلى هذه الدرجة. تتدحرج دمعتان على خديها الملوحين بالشمس رغم لطافة اشعتها في هذا الوقت من السنة، تقول انها قلقة على ابنها الثاني الجندي في الجيش السوري. «ما بحمل حسرة تانية»، تضيف كمن يحدث نفسه. في نهاية الحديث يتبيّن انه لم يبق لأم عمر سوى سبعة اولاد، وليس ثمانية كما قالت. قبل سبعة اشهر قصدت قريتها لتأتي ببعض الأغراض مع ابنها الخامس، وفقاً للتسلسل العمري.

ما إن وصلت سيارة الأجرة إلى باب المنزل حتى علا صوت الرصاص في الأجواء. اشتبك الجيش والمسلحون وشعرت بصغيرها، ابن الخامسة عشرة يتكئ عليها، بينما تطاير دمه على وجهها. رصاصة واحدة اصابته في الرأس كانت كافية لتقيم ام عمر العزاء، ولتدفن فلذة كبدها وحيدة في طفس، وتعود بالخبر الحزين إلى العائلة النازحة في لبنان. ما زالت تقول ان لديها ثمانية أولاد «بحب فكّر أني تركته مع أخيه بسوريا، وسيأتي معه»، تتمتم وهي تختلق عملاً جديداً لتنشغل به.

«مرضوا وطابوا وحدهم»…

أمسكت كريمة بالخيط ولفته على ضرسها خمس لفات. انزوت خلف المنزل وشدت الخيط بكل ما أوتيت من قوة. مرة..مرتين، وثلاثا، أعادت ابنة السنوات العشر الكرّة ونجحت في الرابعة في اقتلاع ألمها. خمسة ايام مرت على كريمة وهي لا تعرف النوم، لم تجلب شكواها لأمها سوى دموع الأرملة التي تربي ثمانية أولاد وحيدة في إحدى قرى النبطية. «حاولي تنامي يا ميمتي»، كانت تقول لطفلتها الغارقة في وجع ضرسها. قررت كريمة ان تعالج نفسها بنفسها ونجحت في توفير 35 الف ليرة كلفة القلع عند طبيب الأسنان «لو معي ما تركتها تبكي 15 يوم»، تبرر الوالدة.

كريمة وضرسها «آخر هم» بالنسبة للوالدة أمام محمود المصاب بحساسية صدرية مفرطة، مصحوبة بجيوب أنفية. «بقعد بالليل اتفرج عليه وهو رح يختنق بين الدقيقة وأختها»، تقول أم فلاح قبل أن تجهش بالبكاء. يحتاج ابن الحادية عشرة لبخاخة لا تملك قرشاً واحداً من ثمنها.

ما زالت المرأة الأربعينية في ثياب الحداد. تقول ان زوجها ذهب لزيارة ابنته المتزوجة في بلدتهم «بلين» في قضاء درعا و«استشهد هناك». لا تعرف من قتله. كل ما تعرفه أنها هنا في جرجوع تسكن في بيت متواضع قدّمه لها أحد ابناء البلدة «حسنة عن روح أهله، أصحاب البيت» كما قال لها.

ما إن وصلت حتى جاء الجيران. بعضهم يحمل «فرشات» والبعض الآخر «حرامات ولحفاً». لكن الجدران لا تنبع طعاماً ولا مالاً.

يقول شاب من «حزب الله» ان الحزب كان يسجل أم فلاح وعائلتها حين تبرعت سيدة بتبنيها مع أسرتها. فتحت السيدة حساباً لأم فلاح في الدكان القريب وطلبت منها أن تشتري ما تحتاج اليه منها. حصل خلاف بين السيدة وصاحب الدكان على قيمة المشتريات التي فاقت التوقعات، وفق ما قالت المتبرعة لأم فلاح، فأوقفت الدعم ورحلت.

يضيف الشاب نفسه ان أحد المشايخ زار أم فلاح وطلب منها ان تعلمه بكل ما تحتاج اليه. المرأة لم تطلب شيئاً من أحد. ترسل ابنها البالغ من العمر الحادية عشرة ليعمل في الزراعة ببدل لا يتجاوز الستة آلاف ليرة في اليوم. يقبض الطفل خمسين الفاً كل ثمانية أيام «لا تكفي لشراء خبز» للأفواه الجائعة.

من دخل ابنها البكر الذي يعمل في مكبس للحجارة تقتطع ثمن حليب طفلها ابن السنتين، وتقتصد ببقية المبلغ لتؤمن وجبة واحدة في اليوم لأسرتها. ليس بوسع ابن الثمانية عشر عاماً أن يجني اكثر من طاقته. يتنقل ابناء ام فلاح حفاة على ارضية المنزل الباردة من حولها. «روحوا اقعدوا على الفرشة»، تصرخ بأطفالها الذين «مرضوا ومرضوا ومرضوا ومرضوا» إلى ان «طابوا وحدهم»، كما تقول. لا تعرف أم فلاح شيئاً عن المنظمات الدولية أو غيرها، ولم تسجل في أي منها «الله بيدبر»، تقول وهي تتمنى ان تجد جمعية تؤمن «حفاضات الطفل على ألأقل».

«من قال جمعيات؟»

ينهمك محمد في تنظيف مدخل المطعم حيث يعمل. يصل زبون ليسأل عن فروج مشوي على الفحم. «الله جبر» يقول الشاب الأربعيني وهو يتابع عمله. كان محمد يملك مطعماً في داريا في سوريا قبل أن ينزح عنها مع شقيقيه «كان عندي ستة شغيلة، والشغل خير الله».

بعد المجزرة المأساوية التي حلت بالبلدة، نزح معظم السكان وتفرقوا في اتجاهات مختلفة. حرص الأخوة الثلاثة على البقاء معاً مصطحبين والدتهم ونساءهم واطفالهم. قصدوا النبطية حيث كان الشقيق الأصغر يعمل منذ سنوات «الناس هون طيبين والحمد لله مرتاحين».

بعد يومين من وصولهم، تفرق الأخوة في شوارع النبطية يبحثون عن عمل «بدنا نقوم بعيالنا» يقول محمد «لا وقت للبطالة». وظفه صاحب المطعم بخمسة عشر الف ليرة في اليوم، وسلّم محمد مطعمه وارتاح لإدارته و«شطارته» إذ يقول «صرت المعلم والشغيل في الوقت نفسه». ولمّا اشتكى محمد من كثرة الشغل وقلة المدخول وعدم تناسبه مع مصاريف عائلته، عرض عليه صاحب المطعم ان ينظف المكان مقابل ثمانية آلاف ليرة في اليوم. وهكذا أصبح «المعلم والشغيل وعامل التنظيفات» يعمل لأكثر من عشر ساعات يومياً، ومع ذلك لا تسمع منه إلا كلمة «الحمد لله». يسكن محمد وشقيقاه في شقة مؤلفة من ثلاث غرف. هم غير مسجلين مع أي جهة دولية أو محلية ولم ينالوا مساعدة واحدة من أي جهة كانت. يعمل شقيقه ألأكبر في «مكبس لحجر البناء»، بينما يتنقل الأصغر بين حقل وآخر أو في أي ورشة بناء، هو عامل مياوم، بعدما كان يملك مخرطة للمحركات في سوريا.

بالكاد يكفي مدخول الرجال الثلاثة لدفع ايجار الشقة وتأمين قوت العائلات الثلاث مع الأم. 15 نفرا يعيشون على الضروريات. يقول محمد «نحن نتحمل شظف العيش ومشقاته، ونعرف انها مرحلة وتمر بإذن الله». يؤكد ابن داريا ان هناك الكثير من العائلات السورية التي يعيلها ابناؤها «لكننا نحمل هم الطبابة، لا نقوى على كلفة المستشفيات هنا في لبنان». يسأل عن جهة يسجل معها، مؤكداً أنهم لم يسمعوا بأي منظمة أو جمعية، ولم يقصدهم أحد لمساعدتهم.

أصغر طفل عامل

بالقرب من احد مراكز المنظمات الدولية التي تؤكد مساعدتها ودعمها للنازحين السوريين، تعيش خمسون عائلة نازحة في تجمع لخيم زراعية في صور.

في الخيمة الواقعة عند طرف المخيم، تسكن ناديا، الحامل في شهرها السابع. تعمل ناديا في قطاف الخضار يومياً، ولمدة ثماني ساعات بأجرة لا تتجاوز الخمسة عشر ألف ليرة لبنانية، بالكاد تكفي اولادها الثمانية. تعود المرأة من عملها عند الرابعة من بعد الظهر عاجزة عن الوقوف على قدميها. زوجها مريض بالسكري والضغط ولا يمكنه العمل. يبقى الرجل الخمسيني مع الأولاد بينما تذهب ابنته البكر (15 عاماً) مع أمها إلى العمل في الزراعة. يأخذ «شاويش» التجمع ثلاثة آلاف ليرة من كل عاملة عن كل يوم عمل.

اليوم، ومع أزمة تصدير البضائع اللبنانية عبر المعابر البرية السورية، يقول التجار والمزارعون انهم يعانون أزمة سيولة كبيرة وخسائر لا تحصى. أزمة تطال ذيولها ناديا وعائلتها والعمال امثالها. يمتنع أرباب العمل عن دفع بدلات الإيجار اليومي بحجة عدم بيع إنتاجهم «كله خسارة بخسارة» يقولون لـ«الشاويش» الذي عليه، بدوره، أن يبرر للعمال عدم قبض مستحقاتهم. واقع يولّد الكثير من المشاكل ومعها العوز والفقر.

مؤخراً أصبح المزارعون يدفعون للعامل بعض الكيلوغرامات من الخضار مقابل كل يوم عمل. ابنة ناديا واحدة من هؤلاء. تتقاضى ابنة الخامسة عشرة سبعة كيلوغرامات من الكوسا او البندورة أو البطاطا بدلاً عن أجرة اليوم، بينما يتقاضى الأطفال من عمر سبع سنوات إلى اثني عشر عاماً خمسة كيلوغرامات.

هو بدل غير عادل «لا حول لهم ولا قوة» ولا قدرة على رفضه «أحسن من البلاش». تذهب ناديا إلى العمل في صندوق سيارة «بيك آب» مع عاملات أخريات. يعلو «البيك آب» ويهبط طوال الطريق ومعه بطنها وجنينها. تقول ان طفلها هو اصغر طفل عامل. «إذا بقي الحمل، ولم يسقط الطفل» تقول ناديا إنها لا تعرف أين ستضع ولدها.

يؤكد زوج نايا و«شاويش» تجمع الخيم ان لا جهة ولا أي منظمة قدمت قرشاً واحداً أو علبة سردين لسكان الخيم، مؤكدين ان أرباب العمل أنفسهم لم يدفعوا أجرة العمال منذ ايام طويلة «العالم عم تضج من القلة، وما حدا قادر يعمل شي». بالقرب من خيمة ناديا حيث يعيش عشرة افراد، حفروا حفرة لمياه الصرف الصحي. يحوم البعوض والذباب حول المكان، ويظهر الطفح الجلدي على أجساد أطفالهم، لكنهم كغيرهم من سكان الخيم ليس لديهم مكان آخر يأوون إليه «نحن من دون إيجارات بيوت ومش ملاقيين ناكل».

الموت في «بلاد الغربة»

في أحد الأبنية في بنت جبيل، تسكن مريم مع زوجها وخمسة أطفال وحماتها المريضة. بالكاد تتمكن مريم من الحديث. تعاني تليفا في الرحم قيل لها إنه ربّما يكون سرطاناً. قصدت المستشفى الحكومي في المدينة لكنهم قالوا إنهم لا يطببون النازحين. ذهبت إلى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، فأعطوها موعداً في 21 حزيران المقبل «يمكن كون متت وقتها» تقول. لا تخاف مريم الموت «بل تشريد اطفالها الخمسة «لمين بدي أتركهم ببلاد الغربة، بدي موت بضيعتي»، في ريف حماه.

تدفع مريم إيجار شقتها في بنت جبيل 250 دولاراً في الشهر. يقصد زوجها مع كل صباح بركة المدينة علّه يعثر على عمل يومي في الزراعة أو البناء أو «أي شيء» بمدخول يومي لا يتجاوز العشرين الف ليرة لبنانية. تستدين العائلة من أقاربها في سوريا لدفع الإيجار بينما لا يكفي مردود الوالد في تأمين الحد الأدنى من الغذاء. «بطاطا مقلية وبطاطا مسلوقة وبطاطا مشوية» يتنوع غذاء العائلة بين الخيارات الثلاثة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى