صفحات الرأيعزيز تبسي

السلطة السياسية تحت حبر الإدانة: ياسين الحاج صالح متعقباً الطغمة العسكرية ومشاريعها الإصلاحية


عزيز تبسي

1

من أين تُستمد القوة لتواجه سلطة من النمط الذي”يفعل” السبعة وذمتها”دون أن يرف لها جفن،وتحوز على قدرات باطلة، لكنها مسلحة بالتمام،تمكنها ودوماً من تحويل أي نقاش جدي ومعبر عن تطلعات عامة،لنمط من تلفيق تهم،تودي بالمعني إلى الأرض وما تحتها.

وتتحول حزمة من التوصيفات لحالات اجتماعية وسياسية ملموسة ومحددة، إلى نمط تشكيكي إتهامي سريع التداول،وباتت كلمات من نمط خائن وعميل أشبه بقضامة في فم رجالاتها ومن هم دونهم.

أن تقول الحقيقة في هذه الأنظمة و تلتزمها، يعني أن تكون مشروع سجين مرمي ومنسي في الأقبية،أو مشروع شهيد ينتظر الطلقة الحاسمة من بندقية المحقق وهو ذاته السجان والقاضي، والمستدرج إلى حوار انتقامي والتوقيع على نتائجه بحبر لا يمحى.

اعتادت الكتابات في هذه الشروط القهرية،أن تداور الكلام،تغرفُ من الرمزية السياسية والإيحاء اللغوي،وقياس المجهول على معلوم في سردية تحاول الوصول إلى معناها المرتبك،إطمئنت فيما مضى إلى جيل كان في يوم ما من الشبان، واليوم بات معظمه رجال بأمراض جسدية مزمنة، خبر هذه اللغة واعتادها،يفهم الكلام ويقوى على تفكيك معناه،وكذلك تُمكن من يكتب الاستعانة بطوق للنجاة يلوذ به من ضريبة مؤكدة قد تكون مؤجلة، لما كتب ويكتب،في استغراق بمعنى يحتمل التأويلات المتعددة.

لكن –ياسين – لا يريد ذاك الخيار الموارب ،لأنه قد قرر بوضوح أن يتوجه إلى أجيال أخرى ،تريد المعاينة الواضحة والقول التمام والموقف الحاسم ،يتعقب بلا كلل البناء السياسي-الحقوقي للسلطة،الذي لم يكن إلا إطاراً،كرست كل القوانين والمحاكم والدستور لإسناد تشكلها كشريحة طبقية استثنائية و يناسب المقاس ألمصلحي لتوسع هيمنتها الاحتكارية الطفيلية المافياوية.

وما تقوم به هذه الطغمة في مسارها ليس مخالفة،يمكن تجاوزها بالنصيحة التربوية والنقد البناء_الذي تكفلت به ما سمي بأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية،ومجموعة من القوى الأخرى الطامحة لاستحواذ الموقع المكتمل للعبودية السياسية،في إسداء النصائح بلا كلل ولا ملل على امتداد زمن تحالفها الممتد لأكثر من ثلاثون عاماً-حتى غدا حالة لتبادل الأدوار المكشوف بين الطغمة وأجرائها السياسيين.

لم تعد الطغمة العسكرية وهي الدرع الحربي للفئة الطبقية المهيمنة،تكترث بأي نقد،طالما تمكنت من تعطيل آليات تفعيله وتوضعه داخل أطر سياسية-تنظيمية نشطة،وتمكنت من قطع التواصل بين جيلين أو أكثر من الفاعلين السياسيين،وهشمت الأحزاب،فلم يبق منها سوى حطام وأنقاض يشيران إلى وجود سالف لها”خربتها وقعدت على تلتها”،وضمنت حالة من إخصاء الجملة البليغة وإغراقها عند الضرورة بسيل من الكتابات المشوشة،يتكفل بها المرتزقة والمخبرين المرتدين سراويل المثقفين وجواربهم.

ولم ييأس أطباء الطغمة العسكرية من حقن عضلتها الميتة بمصل حياة، يسرق من حيوات شعب ناء ظهره بحمل مالا يبقيه واقفاً،لكن هل غررت بمن استعد للتغيير،وعض على النصل القاتل المغلف بالطعم السكري؟

نعم ولا !!

نعم لأنه توفر للطغمة دوماً بشكل سافر تارةً ومقنع تارةً أخرى من هم مستعدون لإكمال نصف إصلاحيتهم وإنتهازيتهم بزواج ما معها يخضع لظروفها ويراعيها،وتتوفر على الدوام مخططات أمريكية وإسرائيلية وعدوان ومقاومة وممانعة وبقايا إقطاع عام…الخ بما تشكله مجتمعة أو متفرقة من”ناموسية”تمنع عنها برغش النقد المتكيف ،لكن لا تمنع بالمقابل من يريد النظر من رؤية فجورها السياسي والأخلاقي .

ولا،لأنه ما يزال متواجداً فوق الأرض لا تحتها، من هو مقتنع أن الممارسة السياسية هي رهينة المحبسين الحاسمين:موازين القوة بين الطغمة العسكرية والحركة الديمقراطية،والاستعداد الشعبي للدخول في صراع مفتوح معها لتحقيق بعض أوكل مطالبه،ويكون اختيار-ياسين- الثبات في هذا الموقع، وتكريس ضرورته بكتاباته،يعمل على تمكين الحركة الديمقراطية من أدواتها التحليلية، وتوضيح أفق مشروعها وجدارتها التاريخية،بالتلازم مع نقد القول الاستبدادي وتفكيكه،أي بالضرورة إثبات بطلانه………

وللتفريق بين صدر الكلام وعجزه،ينبغي التأكيد على الدوام،أن الطغمة العسكرية لن تفرط بأي من امتيازاتها،إلا بإقحام قوة شعبية منظمة،وهي ديمقراطية وثورية بالضرورة،ويكون كسر الاحتكار الأبدي للمجال العام وتحرير فعالياته سياسياً ونقابياً،هو أول مهامها.

تشكل بعد وفاة حافظ الأسد حزيران2000 في الأوساط الثقافية النقدية وهوامش الأحزاب…،اندفاعا إرادياً مستعد للقبض بكفين عاريتين على جمر التفاؤل ،محفوفاً بنواياه الطيبة والبريئة،مطارداً أشباح التشاؤم وأفكاره،والإغلاق عليها،لكن ما قيمة البراءة والطيبة في حركة التاريخ!!

ماسيتبين تجريبياً،أنه غير مسموح “للأسرة الشعبية”أن تنضم لموكب صناعة ومراقبة والسيطرة الجزئية أو الكلية على مصيرها، بالإبقاء عليها محتجزة ،عدا عن المشاركة في التأييد،ومديح هذا العقد الإذعاني- الاحتكاري المتجدد،الذي يترك أمام الشعب طريقاً واحداً يفي بالوصول إلى باب الطغمة العسكرية للتبرك ببول بعيرها.

ويبقى محكوماً على من يكتفي بمراقبة الطغمة العسكرية بالموت قهراً،ومن يختار المواجهة يتكفل به الموت التدرجي في السجن.

2

ينبغي أن يقتنع الشعب،أو ما هو قائم مكانه،أن كل ما تفعله الطغمة العسكرية ورجالاتها مطابق بالتمام والكمال لمصالح الوطن العليا،تاركين للعامة المصالح السفلى،والمصالح العليا تعبير مجازي،يفترض على كل من ينوي السيطرة عليه معرفياً وسبره إستدلالياً،أن يتتبع مسارات رجالات الطغمة وإطارها الاجتماعي وسلوكهما،ويستدل من خلالهما على قيم الشموخ والعلياء،وهذا يشمل مساحة واسعة من النشاطات اليومية،تبدأ من دخول المرحاض ولا تنتهي بالعقود الاحتكارية للمواد الغذائية ومواد البناء والسيارات و شبكة الاتصالات،إلى إغماض العين ،وهو غير غض الطرف،عن العدوان الصهيوني المتكرر على مواقع عسكرية فوق التراب الوطني وفي التحليق المتجدد فوق أهداف تمس السيادة الوطنية..الخ.

وينبغي أن يقتنع هذا الشعب دوماً،لا في أيام العطل الرسمية فحسب،أنه موحد بقدر ما هو يعيش التفّتت والتذرر،ومعافى على قدر استهلاكه للسيرومات المبذولة في أوردته،وحر حسب المدة التي قضاها أو المهدد بقضائها في السجن…..ومتنعّم بكرامة وطنية بقدر ما تهب الطغمة العسكرية من أراضيه إلى أعدائه وتتكفل بحراستها،بالتلازم مع حرمانه من الجنسية أو منعه من السفر…الخ بتعبير بيّن،أي إسباغ الشرعية على ما هو غير شرعي!!

وسرديات أنظمة الفاشية-الكولونيالية،تقارب حالة كوميدية لا تنتهي،ففي يوم ينتج صغارها بدعة الذوبان،لا ذوبان قطعة السكر في كوب شاي ساخن،ولا ذوبان أعمار الناس وهم ينتظرون فجر إنعتاقهم،بل ذوبان هذا الجمهور الجائع المهمش المسحوق في حب قائده…

ويوم تؤسس لفكرة حركة سياسية معارضة،تقطعها على الفور على فصين،معارضة وطنية لاتقبل التعامل إلا مع أجهزة المخابرات المحلية ومخافر شرطتها،ومعارضة لا وطنية بل يمكن أن تكون خائنة في روايات أخرى،كانت قد طوردت وإنطردت إلى خارج البلاد،وحال دون عودتها قوانين الموت والإعتقال الأبدي..

أو تكليف عتاة الفاسدين بمهمة بمكافحة الفساد،وهي أشبه بترؤس البعوض والذباب حملة مكافحة الحشرات…

وياسين الحاج صالح ليس ضيفاً على مائدة نقد الإستبداد وتحليل أسسه،فهو نقل وينقل حالته الشخصية -قضى16 سنة من شبابه في السجن -من حقل التجربة على حقل الوعي بها،عبر تحويلها من الخصوصية الحميمة إلى العمومية الصلبة،وهذا تطلب منه الوقوف على أسبابها المؤسسة،والكفاح المستمر لتجاوزها…حطم مبكراً فكرة الانتظار،وهي عنصر تكويني في ثقافة الطغمة وحلفاؤها،لا تفعل شيئاً،فقط إنتظر …إنتظر إلى مالا نهاية!!

والانتظار ثقافة عتيقة،عالجها يوماً رجل تورط في مسابقة تعليم الحمار….مراهناً على ثلاث:موت الملك-موت الحمار- موت المعلم،في يقين مسبق ومعلن أنه عاجز عن إنجاز المهمة الأسهل إصلاح لسان الحمار،فما بالك بالمهمة المستحيلةتعليمه النطق،رغم ذلك لاتثق الطغمة بالبقاء على الانتظار،فتنتج حراس الانتظار من حزمة مأمونة من الأجهزة الأمنية ومليشيات لا ترحم…..

لن أشكر ياسين الحاج صالح ،على ما قام به يقوم،من جهد ثقافي وكفاحي عال،ليس لسوء نية،بل لأنه لن يقبل الشكر على ما إعتبره واجباً على الدوام

كتاب ياسين الحاج صالح-سوريا …من الظل-الناشر:جدار للثقافة والنشر

حلب-تشرين الثاني2011-

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى