صفحات سورية

السلطة الشمولية وتعطيل الدستور السوري

 


علي جازو *

تكفل استيلاء حزب البعث على السلطة في سورية واحتكاره لها، وحصره صفتي الشرعية والوطنية «بالحزب القائد للدولة والمجتمع»، بإحداث سبات سياسي في سورية وبتعطيل نموها الفكري. وقد بالغت الفئة الحاكمة في عزلتها وجمودها، وحمت نفسها بأجهزة القمع وتكديس الثروة عبر إفقار الدولة. وها هو الشعب يعاني من سطوة الترهيب وضراوة الفقر، وتردي وضعه الاجتماعي وتفسخ رابطه الوطني. فقد تهاوت قدرته الشرائية إلى مستويات مخيفة. وأفضت قسوة العزلة إلى إغلاق الباب على أي حوار، ومُنع كل فعل سياسي يطهر الاقتصاد من الفساد ويرفع عن الناس ثقل المهانة والعوز، ويعيد الاعتبار الإنساني اللائق إلى معنى الانتماء الوطني الجامع لتنوع مكونات المجتمع السوري.

ولا يمكن لكل ذلك أن يتم من دون انتشال السلطة من مساوئ طغيانها. فاحترام الدستور وإعادة النظر في بنوده الجوهرية، وحده ضامن لهكذا حال تتوسل بالشرعية المنتخبة لإدارة البلاد. ويمكن هذا الحوار، في حال الإسراع إلى طرحه بمسؤولية وطنية ووفق مبادئ عقلانية، أن ينقذ السلطة من فوضى حتمية، ويعيد تأسيسها على أسس وطنية ديموقراطية واضحة تعكس طموح السوريين إلى أوضاع اجتماعية عادلة بحيث تدار اختلافاتهم تحت أسس راسخة تحصن السلم الأهلي وتضمن ممارسة الحريات العامة. بقاء الحوار مغلقاً أو إغلاقه المستمر لهما مؤدَيان خطيران يُتخوف معهما من انجراف البلاد إلى الغرق في عنف مادي مؤلم. فالسوريون، مطالبون اليوم، بابتكار شكل ملائم من الحكم المدني العصري حيث تسمح تغييرات دستورية حقيقية بإرساء الحقوق في الحياة لا على الورق، واستقرار حالهم على مبدأ تداول السلطة السلمي، ويقتضي هكذا ابتكار ملح وضع حد جذري لفنون القمع السياسي والتوحش المخابراتي.

إن وجود هيئة برلمانية فاعلة سيقلل من احتمالات العنف بفعل تجميد السياسة، فهذا ما يفعله نظام برلماني، مع ضرورة تبديل سنوات رئاسة الجمهورية من سبع إلى أربع ولجم حق الترشح بدورتين متتاليتين، ونزع احتكار حق الترشح للبرلمان من الحزب القائد، أو أن يتم ذلك عبر الانتخاب العام المباشر، وكذلك تحجيم سلطات الرئيس وتفعيل المحكمة الدستورية، وفصل الحزب عن التحكم بالدولة ومقدرات البلاد، ورد الاعتبار لدور الجيش كمؤسسة حماية عليا للأمن الوطني. وهذا مناسب الآن أكثر من أي وقت مضى لإنقاذ الوطن والجيش.

إن قبضة الأحكام العرفية، التي كبلت وأهانت السوريين قرابة نصف قرن تحولت إلى جحيم يومي. فمبدأ فصل السلطات تم لفظه، ولم تحصل ترجمته إلى مضمون حقيقي، ويحتفظ معظم السوريين تحت ضغوطات القمع الأمني والتردي المعاشي، بصمت يحمل على الريبة والغموض إزاء نظام الدولة التي يفترض بها رعايتهم، ويشك أغلبيتهم في توافر شروط تمنح القضاء استقلالاً كاملاً ومكانة ذات صدقية، في ظل وجود محاكم أمنية متعسفة، خارج أي نطاق دستوري يحترم حقوق الإنسان الأساسية. وكان أحرى بالقضاء العادي، وهو محل فض النزاعات، التعامل مع الحالات التي توصف بجرائم سياسية (من قبيل إهانة الشعور القومي، وبث الفتنة، والانتساب إلى جمعية سرية وما يسير في عدادها)، وهي توصيفات غامضة وملتبسة وعسيرة على سلامة المنطق القانوني من ناحية احترامها حقوق الفرد الأساسية. والقضاء مناط الحفاظ على مبدأ علانية المحاكمة، وحق المتهم في الدفاع.

فحق التظاهر السلمي، الذي يكفله الدستور، معدوم، وكثير من كتاب الرأي ورافضي الاستبداد والناشطين الحقوقيين، يسجنون وفق أحكام عرفية تضرب عرض الحائط بأساسيات حقوق التظاهر والاعتصام المدنيين، رغم كفالة الدستور السوري ضمان حرية التعبير والحق في التظاهر وإبداء الرأي. ورئيس الدولة مسؤول عن تطبيق الدستور ورعاية مصالح الشعب، ودوره أساسي وحاسم، لكن الاستفتاء شبه الإجباري، الذي وفقاً له يحرم السوريون من حقهم كناخبين لا مستفتين، تم دفن الانتخاب الحر، وجُرّدت النقابات من أسباب وجودها فغدت عقيمة، ورضيت بما يوكل إليها، وهي في حالها المهني أدنى إلى جمعيات خيرية خائبة توكل بأعمال إدارية عقيمة، لا ينقصها شيء من خرائب الفساد. ويبدو مسار ثقة السلطة بنفسها اعتباطياً ومغلقاً وصدئاً في آن. ولم تنشأ الحصانة المتوهمة سوى بالقهر المادي الذي اتخذ ولم يزل مظاهر عنف وقمع بدائية. وما كان للشأن الدستوري دور في تثبيت أركان الحكم، وظلت المحاكم العليا في منأى عن الشأن العام لغالبية السوريين الذين حط بهم الحال، فالقضاة أقرب إلى موظفين يعينون بالنفوذ أو الرشوة و الرضا الأمني، والعدالة تسلّعت، وهي تقايض قرارات المحاكم بسعة الثروة وقوة النفوذ.

وبدوره يدار الاقتصاد بمنح وتراخيص لا تعرض إلا على قلة محظوظة. فنصاب سيطرة البعث، مثلاً، باسم «الفلاحين والعمال وصغار الكسبة»، على أغلبية مقاعد مجلس الشعب، هو ما فصّله حزب البعث لدوام تحكمه وتحويله المجلس إلى رديف تابع. وما يسمى بالمستقلين من النواب فئة يحصلون على رضا الحكم مسبقاً، والصحافة صودرت بعد تأميمها، ودور الجبهة الوطنية التقدمية دعائي أكثر منه تشاركاً في الحكم وتشاوراً في صنع القرار، ناهيك عن حظر الأحزاب بالجملة وعدم وجود قانون ينظم الحياة الحزبية. هذا ويؤخذ على مشاركي البعث أنفسهم، في مجلسي الشعب والجبهة الوطنية التقدمية، رضوخهم وصمتهم. بينما اعتماد «اقتصاد السوق الاجتماعي» لم يفرز غير حدة التباين الطبقي وزيادة عدد الفقراء. وفي حال كهذه طبيعي أن تزداد المسافة الفاصلة بين أجهزة الحكم وطموح الشعب.

* كاتب سوري.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى