مراجعات كتب

السلفية الجهادية في تونس: مغالطات وحقائق/ احميده النيفر

 

 

-1-كتاب “السلفية الجهادية في تونس: الواقع والمآلات” الصادر عن سنة 2015 التابع لرئاسة الجمهورية كتاب حدثٌ بأكثر من معنى.

هو أولا عمل بحثي استشرافي ساهم فيه باحثون تونسيون متعددو الاختصاصات العلمية بما أتاح تشخيصا تركيبيا بين البعدين المعرفي -النظري والميداني – الاستقرائي. من هذه الناحية فإن تعاطي الرئاسة المتخلية مع قضية غدت، في تونس خاصة، ذات أولوية قصوى يعتبر اختيارا جديدا ولافتا. هو مؤشر دالّ على تحوّل نوعي في كيفية تولّي شأن المخالفين المناوئين للسلطة الحاكمة في تونس وذلك بالاعتراف بأننا أمام “ظاهرة- مشكلة” لا يجدي معها مجرد القمع. هو إقرار نوعي بأنها “ظاهرة” لها مجالاتها الاجتماعية والموضوعية المنتجة لها والفاعلة في تكونها وأنها لذلك تقتضي من أهم ما تقتضيه فهم إطارها الفكري الذي يمدّها بطاقتها الأيديولوجية وفاعليتها في الواقع. هذا ما يدفع للتذكير بأن القائمين على السلطة في الدولة الحديثة ظلوا خاصة منذ الاستقلال السياسي يواجهون مخالفيهم المختلفين في المجال السياسي والنقابي والديني والأكاديمي والطالبي بنفس الخيارات القامعة والسياسات الإقصائية. كانوا يعتبرون أنه لا صوت يعلو فوق صوت الإصلاح والبناء وأن الدولة هي قاطرة ذلك المشروع الحيوي والمتمثلة لمستلزماته وأنه لا مسوّغ لمخالفتها أو نقدها.

من هذه الناحية يعتبر كتاب “السلفية الجهادية في تونس” إعلانا عن ضرورة التخلّي عن خطاب سلطوي- أمني صادّ لا يقوى على تجاوز وثوقيته المغلقة والمـُطـَمْئِنة التي تبقيه في مجال التقليد الممهور بطابع رد فعلي فاقد للنجاعة والذكاء التاريخيين. هذا ما شرع الكتاب في تأكيده حين ذكر من البداية أن “الظاهرة” التي “بدأت تؤرق صنّاع القرار” فضلا عن الأكاديميين وعموم المواطنين ذات خصائص “سوسيوثقافية ومجالية” وأن مواجهتها لذلك تتطلب العلم والمعلومات والمنهجية البحثية التركيبية إلى جانب الرؤية الاستراتيجية الإقليمية-الدولية والديناميكية السياسية الاجتماعية النوعية.

-2- الكتاب حدثٌ لاعتبار ثان مرتبط بالتوقيت الذي أُنجز فيه وبما يعنيه ذلك من دلائل التقييم والإرادة. لقد انطلقت أعمال الباحثين مع تزايد مخاطر الجنوح للعنف في تونس سنة 2013 وتصاعد التهديدات الأمنية الخارجة على القانون. كانت المباشرة بإنشاء قاعدة معلومات خاصة بالظاهرة وذلك بجمع أدبيات التوجه “السلفي الجهادي” المكتوبة والمسموعة والمرئية مع إجراء لقاءات حوارية وجلسات نقاش معمّق مع بعض رموز هذا التيار لمزيد فهم خلفياتهم الفكرية ومسالكهم في تنزيل رؤاهم على الواقع.

هو تمشٍّ مُصَمِّم على أن مواجهة العنف السلفي تقتضي تشخيصا دقيقا وتكامليا، وهو ما ينبئ عن درجة من تطور الوعي السياسي والمؤسساتي في تونس. هو اعتراف بأن البلاد تواجه ظاهرة شديدة التعقيد لها صبغة تحوليّة عنيدة لا تفلح معها الوسائل التقليدية في المقاومة. الظاهرة لذلك تتجاوز في طبيعتها ما تتطلبه مقاومة عصبات الجريمة العادية أو شبكات التهريب المختلفة.

يتضح هذا التمشّي بجلاء في كافة أقسام الكتاب في ما يُطرح من أسئلة صميمية تسعى للوصول إلى عمق الإشكال الذي يحكم كل جزء. حين يتناول سامي براهم في بحثه عن “السلفية الجهادية في تونس بعد الثورة وفشل تجربة الانتظام” فهو لا يكتفي بدراسة تأثر تيار السلفية الجهادية بما جدّ من عوامل بعد الثورة بل يذهب لتحليل مسألة مفصلية هي تجربة الانتظام. هو لذلك يقرأ برنامج التيار وأهدافه ووسائل تحقيقها ليقف في المحصلة عند عوامل الانكفاء ضمن خيار الفوضى والتوحش اللذين يرومان تفكيكا عنيفا للدولة القائمة من أجل إقامة نظام الخلافة.

وراء هذا يبرز السؤال المؤرق: ما هي مسؤولية القوى السياسية الوطنية المختلفة في هذا الانكفاء الذي أجهض احتمال الانتظام ضمن الساحة السياسية وهل وقع إيلاء هذا الاحتمال عناية كافية؟

-3-على ذات الإشكال يواصل عادل بن عبد الله في بحثه عن “العلاقة بين أهم الفاعلين الجماعيين وتنظيم أنصار الشريعة” محللا خطاب هذا التنظيم ونوع الخطاب المقابل الذي أنتجه السياسيون والنقابيون وقوى المجتمع المدني. هو بذلك يعمق نفس السؤال الخاص بمسار السلفية الجهادية في تونس وعوامل عزوفها عن الانتظام مما سهّل الانزلاق في العنف والتوحش. استكمالا لهذا الحفر يتناول الدكتور طارق الكحلاوي في بحثه عن “الثابت والمتحول في مسيرة التيار السلفي الجهادي في تونس” السياق الإقليمي وتأثيره في ما انتهجه التنظيم من خيار جعله يُصنَّف إرهابيا.

عند هذا المستوى من التحليل النظري – المضموني يصبح من المتاح النظر في الجذور الاجتماعية للظاهرة وفي ما يستدعيه ذلك من بحوث ميدانية. ذلك ما ستهتم به المحاور الخمسة المتبقية في الكتاب ابتداء من “مقاربة نفسية اجتماعية للظاهرة السلفية في تونس” للدكتور محمد الحاج سالم منسق وحدة البحث في المعهد. تهتم هذه المقاربة المعتمدة على تقنيات البحث الاجتماعي بإيديولوجية الجماعات الجهادية وقيمها وخصائصها الهيكلية وثقافتها الحركية مع رصد دقيق لآليات استيعاب الأفراد ضمن الجماعة. بهذا يتمكن الباحث من التوقف عند جملة من العوامل الأساسية المحددة لطبيعة هذا التيار والمكثفة لقوته في المجال الشبابي وبما يدفع في الحالات القصوى إلى العنف والاحتراب.

-4- جماع ما ينتهي إليه هذا البحث في مقاربته النفسية الاجتماعية أن السلفية الجهادية في تونس تتغذى من التهميش في المجال الحضري وتجد في الأوساط الاجتماعية الفقيرة الهشة استعدادا خاصا لدى ضحايا فقر مزدوج: فقر معرفي-تعليمي وفقر ديني-روحي. عندما يضاف إلى هذا قمع الدولة السلطوية- الإقصائية فلا غرابة إن انتهى الأمر إلى توليد “نِحلة” (Secte) هي جماعة مغلقة مؤسسة على الاتباع ومتمحورة حول شيخ وإيديولوجيا ومعتمدة على تمايز نفسي غايتها تحقيق وعد إلهي.

محاذاةً لهذه المقاربة تقدم الأبحاث الميدانية الضرورية والمتميزة في الكتاب عمل معتز الفطناسي وجهاد الحاج سالم على حيّين شعبيين معروفين قريبين من العاصمة ومفتقرين لمسلتزمات الحياة الكريمة بما حوّلهما إلى حاضنة شعبية للتيار السلفي الجهادي.

يواصل البحثان الأخيران من الكتاب الحفر التفهمي للظاهرة من خلال اعتناء العربي النفّاتي بالبناء النفسي للسلفي في “عامل العُصابيّة في الشخصيّة السلفيّة” ومن التحليل المجهري لماهر الزغلامي لـ “السلفي الجهادي في تونس”.

لمزيد التعرف على مختلف جوانب الظاهرة السلفية الجهادية استفاد بحث “عامل العصابية” من مقاييس تقدير الشخصية وعواملها المتغيرة ليكشف أبعادا دقيقة من الشخصية السلفية. من أهم هذه العوامل ركّز البحث من خلال عيّنات واستبيان وقياسات على “العُصابية” ذلك الاضطراب الوظيفي الانفعالي نفسي المنشأ غير الموصول بالمجال الفيزيولوجي للجهاز العصبي. اشتغل البحث على هذا العامل مع جملة من المتغيرات مثل متغير العمر والشغل والجنس والمستوى الدراسي لينتهي إلى جملة من النتائج التفصيلية ذات الأهمية البالغة لدلالتها العلاجية.

-5- يعتمد البحث الأخير المنهجَ البيوغرافي الذي يهتم بالظاهرة من “الداخل الذاتي” كما يعيشها ويرويها الفرد في مسار حياته بمحطاتها المختلفة. هذا ما جعل الدراسة بطابعها الاستكشافي المهتم بحالة مخصوصة وممثلة اجتماعيا والمتابع لسلوكها وقوالب تفكيرها تتويجا مثريا لما سبق من أقسام الكتاب وتسديدا علميا لمن يريد أن يواجه الظاهرة بأكثر ما يمكن من أدوات التحليل والتمثل والفاعلية.

على هذا فكتاب “السلفية الجهادية في تونس” حدثٌ لانبنائه على أطروحة ناظمة ترفض بوعي وعلمية التسليم الغاشم بأنه لا مردّ للظاهرة المستفحلة المدمرة. وهو حدثٌ خاصة في بعده البيداغوجي- الجماعي الداحض لمغالطة تونسية بخصوص السلفية الجهادية التي تراها “بليّة لا يدَ لنا فيها”. إضافة الكتاب النوعية اعتبارُه أنّ البلية الحقيقية في التملص من تحمل مسؤولية أخطائنا واختياراتنا. هو بذلك فضح لمأزق القـُطرية الضيقة التي ترسّخت سياسيا ومجتمعيا ونفسيا من خلال القول بأن تونس، خلافا للشرق، حالة مخصوصة واستثناء بين الجميع مما أوقع الكثير في مهاوي جهل مدقع وغرور ساذج. ذلك عين ما يدينه المؤرخ التونسي هشام جعيط عند نقده لسياسات العهد البورقيبي التي “جعلتنا أطفالا” نمرح في أفق ضيّق وندور في حلقة مغلقة.

(باحث وأكاديمي تونسي)

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى