صفحات مميزةعلي العبدالله

السلفيون في سورية/ علي العبدالله

 

 

الجزء الأول

(1/2)

خرجت سورية من فترة حكم مملوكي عثماني مديدة، دام قروناً طويلة، وقد سيطر النزوع الصوفي والأشعري على ثقافتها الدينية والاجتماعية، بتبنّيه المذاهب السنّية الأربعة (الحنفي، المذهب الرسمي للدولة العثمانية، الشافعي، الحنبلي، والمالكي) وبرفضه ما عداها من مذاهب واجتهادات، وبتعايشه وانسجامه مع السلطة السياسية القائمة، بغض النظر عن مدى شرعيتها وطبيعة هذه الشرعية، شرعية بَيعة أم شرعية تغلُّبٍ قائم على تبادل المصالح والخدمات، وقد أطلق عليه باحثون وصف “الإسلام الشامي”، نسبة إلى بلاد الشام، بحدودها الجغرافية المعروفة، على الإسلام المشيخي الظاهري الذي يكتفي من الدين بالعبادات والمعاملات.

أدى انتشار أفكار الإصلاح وتنقية الدين من الشوائب والقشور والبدع التي أطلقها محمد بن عبد الوهاب وجمال الدين الأفغاني وتلامذته من محمد عبده إلى محمد رشيد رضا إلى وصولها إلى بلاد الشام، وتلقّفها جمال الدين القاسمي (1866 – 1914) الذي دشّن التوجه السلفي في بلاد الشام، بدعوته إلى إصلاح العبادات والمساجد (كان أتباع المذاهب الأربعة لا يصلّون معاً في صلاة جماعة، بل لكل مذهب صلاته ومشايخه)، واعتماد الإسلام النقي أساساً جامعاً وموحِّداً للمسلمين، والتحرّر من الخلاف الفقهي والمذهبي. نجح الشيخ القاسمي في بث أفكار عبده ورضا، وأضاف اجتهاده الخاص، باعتبارها أداة بعث وإصلاح شامل للأمة، واستقطب

واستقطب تلامذةً كثراً مثل محمد بهجة البيطار (1894 – 1976) وأحمد مظهر العظمة (1909 –

تلامذةً كثراً مثل محمد بهجة البيطار (1894 – 1976) وأحمد مظهر العظمة (1909 – 1982) ممن تابعوا بعده الدعوة إلى السلفية ونشر ثقافتها. وقد أنشأ أحمد مظهر العظمة جمعية التمدّن الإسلامي، والتي أصدرت مجلة بالاسم نفسه، ورأس تحرير مجلتها منذ تأسيسها عام 1933.

غير أن الدعوة السلفية لم تنجح في اختراق المجتمع الشامي، المغلق والمسوَّر بآراء المشايخ التقليديين، اختراقاً في العمق، وبقي تأثيرها مقتصراً على فئة من متعلمي المناهج الحديثة وبعض مثقفي الطبقة الوسطى المدينية، وقد لعب ظهور حركة “الإخوان المسلمين” وانتشارها في سورية، ونجاحها في استقطاب التشكلات الإسلامية الناشئة، دوراً كبيراً في تراجع ظاهرة السلفية تياراً قائماً بذاته، في ضوء كون الحركة، وفق توصيف مؤسسها حسن البنا، دعوةً سلفية، ما أفقد السلفية مبرّر الوجود المستقل، وكونها قوة سياسية منظمة، لها جاذبية للمتعلمين.

عادت السلفية إلى الظهور في ثوب جديد، ومسمى جديد، السلفية العلمية (النظرية) على يد عالِمَي الحديث، الشيخ ناصر الدين الألباني (1914– 1999) الذي تتلمذ على محمد بهجة البيطار، وأخذ عن الشيخ محمد رشيد رضا التوجه السلفي وعلم الحديث، بمتابعته مقالاته التي كان ينشرها في مجلة المنار؛ والشيخ عبد القادر أرناؤوط (1928- 2004) الذي تأثر بكتابات ابن القيّم، تلميذ ابن تيمية، وأخذ عنه التوجه السلفي. وقد تتلمذ على الشيخ الألباني الشيخ محمد عيد عباسي، خير الدين وانلي، الشيخ علي خشان، الشيخ عدنان العرعور، الشيخ محمد جميل زينو، الشيخ عبد الرحمن عبد الصمد، ومحمود مهدي الإستانبولي؛ ومن الذين استفادوا من الشيخ وتأثروا بمنهجه زهير الشاويش وعصام العطار، والشيخ الدكتور عبد الرحمن الباني.

“لعب ظهور حركة “الإخوان المسلمين” وانتشارها في سورية، ونجاحها في استقطاب التشكلات الإسلامية الناشئة، دوراً كبيراً في تراجع ظاهرة السلفية تياراً قائماً بذاته، في ضوء كون الحركة، وفق توصيف مؤسسها حسن البنا، دعوةً سلفية”

بقي حضور السلفية ودورها محدوداً، فقد حاربها المشايخ، واتهموا دعاتها بـ”الوهابية” و”الضلال”، كما حدّت سيطرة تيار الإخوان المسلمين على المشهدين الديني والسياسي من فرص انتشارها، على الرغم من رفدها بالمؤيدين والأنصار من خلال طلاب العلم الشرعي من المغاربة، وخصوصاً الجزائريين الذي جاءوا لتلقي العلم الشرعي في سورية، في معهد الزهراء الشرعي تحديداً، لكن هذا الرفد بقي ضمن حلقات الدرس وأطره العلمية.

سعت السلفية العلمية/النظرية إلى إحياء الكتاب والسنّة والتمسك بمرجعيتهما، ومحاربة البدع والانحرافات الفقهية والفكرية والمذهبية. قال الشيخ عبد القادر أرناؤوط في مسألة التزام الإنسان مذهباً معيناً: “في المسألة تفصيل: فبالنسبة للعامي لا مذهب له، ومذهبه هو مذهب مفتيه، فالتزامه بمذهب يكون أمراً طبيعياً. وطالب العلم الذي في أوّل أمره لا يستطيع أن يميِّز بين الأقوال الصحيحة والضعيفة، فهو يعمل ضمن ما يسمع من شيخه. أمّا بالنسبة لطالب العلم المتمكّن الذي درس الفقه المقارن، وعرف دليل كل إمام من الأئمة، فإنه، عندئذ، يستطيع أن يميِّز بين القول الصحيح والضعيف. وأرى أنه في هذه الحالة لا يحق له أن يكون مقلِّداً”، كما وعملتْ، السلفية العلمية/النظرية، على تصويب ما تعتبره انحرافات في سلوك المسلمين وأفكارهم، استناداً إلى القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ولم تتبنَّ مشروعاً سياسياً، حتى إن بعض شيوخها رأى في الأحزاب السياسية بدعة معاصرة ينبغي الحذر منها وعدم الانتساب إليها.

استفادت السلفية، في العقود الأخيرة، من العمالة السورية في دول الخليج بعامة، والسعودية بخاصة، وكسبت أعضاء ومؤيدين، حيث معظم العاملين من أوساط متوسطة الثقافة أو شعبية ضعيفة الثقافة، إن لم تكن معدومتها. لذا، جعلها عملها في الخليج واحتكاكها الطويل بالخليجيين تتفاعل مع الممارسات الدينية الخليجية التي تنتمي إلى السلفية الوهابية والمحافظة وتتقمّصها، وهذا يفسّر توسّع المدّ السلفي، إبّان الثورة في الأرياف بشكل خاص، وتفاعل سكان الريف السريع مع كتائب السلفية الجهادية وألويتها، ناهيك عن الدور الكبير للمال السياسي، حيث ضُخَّت مبالغ طائلة إلى المجموعات السلفية، ساعدتها في تطوير أوضاعها وتأمين احتياجات أعضائها واستمالة المواطنين بتوفير متطلباتهم اليومية من غذاء وماء ودواء ووسائل تدفئة.

الصراع على الإسلام

مع انتصار حافظ الأسد على خصومه داخل النظام والحزب الحاكم ونجاح انقلابه (16/10/1970) بدأت معركة من نوع آخر، معركة السيطرة على البلد والشعب من خلال الهيمنة والتحكم في الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي، بدأت بإطلاق تحولات اقتصادية: فتح الأسواق والسماح بالاستيراد والتصدير. وقد سمحت في البداية في كسب تأييد التجار والصناعيين (معظمهم من السنّة) الذين ضرّهم عهد “يسار” البعث (أو من كانوا يُعرفون بالشباطيين، كونهم قاموا بانقلاب عسكري على رفاقهم في الحزب يوم 23 شباط/فبراير 1966)، وتم منحهم فرصاً لتوسيع نشاطهم التجاري والصناعي، قبل أن تذهب إلى إقامة شراكة بينهم وبين رجالات النظام، خصوصاً ضباط المخابرات، يدفع التجار نسبة من أرباحهم مقابل منحهم حق احتكار أصناف معينة، إنْ عبر الاستيراد أو التصنيع أو استجرار إنتاج شركات القطاع العام بطرق ملتوية واحتكار توزيعها في الأسواق، كما فتحت أبواب التوظيف في الوظيفة العامة، وتثبيت العاملين المؤقتين، ناهيك عن دعم المواد الغذائية والوقود. تلت ذلك مرحلة انفتاح سياسي داخلي، بإشراك أحزاب سياسية في الحكومة، وتشكيل ما عُرف بـ “الجبهة الوطنية التقدمية” التي ضمت أحزاباً قومية (حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، حركة الوحدويين الاشتراكيين، حركة الاشتراكيين العرب…) واليسارية (الحزب الشيوعي السوري)، وانفتاح عربي بالدخول في مشروع الاتحاد الثلاثي مع مصر وليبيا، قبل أن يصبح رباعياً بالتحاق السودان به.

“بقيت الدعوة السلفية خارج الصراع السياسي، على خلفية الاكتفاء بنشر الفكر السلفي في المجتمع وتنقية الإسلام من الشوائب والقشور التي علقت به بفعل البدع المحدثة، والعمل على تصحيح عقيدة المواطنين وممارساتهم الدينية”

أراد حافظ الأسد من إعادة صياغة المشهد الاقتصادي والسياسي الداخلي، وجَسْر الهوة التي أحدثتها سياسات النظام السابق المتشددة مع الدول العربية، إقامة إجماع حوله، لسدّ ثغرة الشرعية التي يعاني منها، كونه صعد إلى سدة الحكم في انقلاب عسكري من جهة، ومن جهة ثانية التغطية على كعب آخيل (كونه علوياً في مجتمع معظمه من السنّة) عبر تحقيق إنجازات تحسن الأوضاع المعيشية والخدمية للمواطنين، تقود إلى تقبلهم قيادته البلاد، وغضّ الطرف عن كونه من أقلية مذهبية. غير أن شهر العسل بين حافظ الأسد والقوى السياسية لم يعمّر طويلاً، حيث كشفت السياسات القائمة على التمييز بين المواطنين، وإعادة صياغة الهرم الاجتماعي والإداري من خلال تنصيب قيادات على خلفية مذهبية، ووضع اليد على الدورة الاقتصادية، وزرع الشقاق في المجتمع، وتخويف الأقليات واستدراجها إلى تحالف غير مقدس هدفه تكريس النظام وتثبيت دعائمه، وذلك كله كشف عن مخاطر جمة.

انفجرت أولى الأزمات، على خلفية صياغة دستور دائم للبلاد 1973، حيث تحفَّظ حزب الاتحاد الاشتراكي العربي على المادة الثامنة: “حزب البعث قائد في المجتمع والدولة”، ما قاده إلى الخروج من الجبهة، بينما استنفر الإسلاميون (الإخوان والسلفية والمشايخ) على المواد المتعلقة بـ”دين رئيس الجمهورية” ودور الشريعة الإسلامية في التشريع.

أطلق الخلاف صراعاً مكتوماً بين النظام وقوى سياسية متعددة على خلفيات متنوعة: الإسلام ودوره، الشراكة السياسية وصنع القرار الوطني، العامل الاجتماعي والموقف من حقوق الطبقات الفقيرة. وقد استخدم النظام أساليب ووسائل مركبة لتسويق سياساته، وتكريس قيادة حافظ الأسد، عبر ربط كل الإنجازات والإيجابيات بشخصه، لكسب قلوب المواطنين واحتواء أي نقد سياسي، تبدأ من مخاطبة الطفولة (نشير هنا إلى كتاب للأطفال كتبه عادل أبو شنب، وطبعته مؤسسة طلائع البعث ووزعته على المدارس، يضع حافظ الأسد في مصافّ الأنبياء بالحديث عن عجائب كونية حدثت عند ولادته)، ولا تنتهي عند توظيف الدين، مروراً بتزخيم دور الاتحادات والنقابات، من تشكيل طلائع البعث والشبيبة وإلزام الطلاب والعسكر بالانتساب للحزب الحاكم، وصولاً إلى إلزام الاتحادات والنقابات بالدفاع عن مبادئ الثورة (المادة الثالثة من النظام الداخلي لكل الاتحادات والنقابات)، بالإضافة إلى برنامج دعائي شامل لتسويق الرئيس متديناً: عبر حضور صلوات الجُمَع والأعياد واحتفال عيدَي المولد النبوي ورأس السنة الهجرية؛ وتَباري الخطباء على إسباغ صفات الإيمان والانتماء لبيت النبي عليه الصلاة والسلام (خاطبه مروان شيخو مراراً في خطب بـ”يا ابن فاطمة الزهراء”)؛ وكذلك التوسّع في بناء المساجد، وفيما بعد، معاهد الأسد لتحفيظ القرآن…؛ وكذلك ترويج انتمائه سراً إلى المذهب السنّي (هذا ما كان يقوله الشيخ محمد سعيد البوطي لتلاميذه)؛ ناهيك عن العمل على احتكار الحديث باسم الإسلام، من خلال تشجيع نمط من الإسلام يوصف بـ”الرسمي” قائم على طاعة أولي الأمر، القبول بحكم المتغلب، و”الشورى مُعلِمة وليست مُلزِمة”، و”الرئيس ظل الله على الأرض”، و”الصلاة وراء كل بّرٍّ وفاجر”؛ والاعتماد على جهود علماء دين ودعاة، مثل مفتي الجمهورية السابق، الشيخ أحمد كفتارو، ومروان شيخو الذي تصدَّر الخطابة في المساجد التي يرتادها رئيس النظام حافظ الأسد، وعدنان شيخو الذي تخصّص بتقديم البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون، الدكاترة محمد سعيد رمضان البوطي، صهيب الشامي، محمد حبش وآخرين، وتوظيف ذلك كله في ترويج النظام ورئيسه، وتغطية مواقفه وسياساته شرعياً (تذكر هنا فتوى البوطي بخصوص التفاوض مع إسرائيل).

“وجدت السلطة في المواجهة التي دارت مع حركة الإخوان المسلمين (1976-1982) فرصة للتخلص من الجماعات الإسلامية المستقلة، وإغلاق فضاء العمل الإسلامي الدعوي على الموالين من المشايخ”

في المقابل، سعت حركة الإخوان المسلمين إلى الإمساك بورقة الإسلام، عبر تأليب المواطنين على النظام، باستثمار نقطة ضعفه الرئيسة، كون رئيس النظام علوياً، وعمله على عَلْوَنة الدولة، بوضع العلويين في المناصب الحيوية، وخصوصاً أجهزة المخابرات والجيش، وفتحه البلاد أمام المد الشيعي الذي تقوده السفارة الإيرانية. ولم ينجح تكتيك “الإخوان” في محاصرة النظام وعزله، وهذا أثار خلافاً داخل الحركة حول الأسلوب المناسب لمواجهة النظام، وبرز تيار يدعو إلى استخدام القوة يمثله مروان حديد وعبد الستار الزعيم وعدنان عقلة، منحهم الخلاف حول موادّ الدستور تبريراً عقائدياً لممارسة العنف، حيث دعوا إلى الجهاد ضد السلطة “الكافرة” باعتباره فرض عين، وشكّلوا “الطليعة المقاتلة” عام 1975، والتي بدأت بالاغتيالات على أساس طائفي، وزاد من دقة الأوضاع إعلان عدنان عقلة، بعد مجزرة مدرسة المدفعية 16/6/1979، عن حركته باسم “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين”، في محاولة منه لجرّ الحركة إلى ما أسماه “الجهاد”.

وبقيت الدعوة السلفية خارج الصراع السياسي، على خلفية الاكتفاء بنشر الفكر السلفي في المجتمع وتنقية الإسلام من الشوائب والقشور التي علقت به بفعل البدع المحدثة، والعمل على تصحيح عقيدة المواطنين وممارساتهم الدينية. كان تركيزها على الدروس والمحاضرات وتحقيق كتب التراث التي تعكس الموقف السلفي، وتأليف كتب سلفية جديدة بلغة معاصرة، وإيجاد شبكة علاقات تربط بين أبناء التيار السلفي في عموم البلاد.

وجدت السلطة في المواجهة التي دارت مع حركة الإخوان المسلمين (1976-1982) فرصة للتخلص من الجماعات الإسلامية المستقلة، وإغلاق فضاء العمل الإسلامي الدعوي على الموالين من المشايخ (كفتارو، البوطي، حبش) والجماعات الدعوية (القبيسيات والتبليغ والدعوة والأحمدية) والمعاهد التي تدرِّس الفقه التقليدي (معهد النور/ كفتارو ومعهد الفتح/فرفور) والتضييق على النشاطات الدينية المستقلة، وضرب تعبيراتها وتجلياتها، ومنها الدعوة السلفية، فأبعدت الشيخ ناصر الدين الألباني إلى الأردن عام 1980 بعد أن زجّت به في السجن (8 أشهر في سجن الحسكة)، ومنعت الشيخ عبد القادر أرناؤوط من القيام بأي نشاط ديني أو دعوي، وزجت بأعداد كبيرة من شبابها في السجون.

 

الجزء الثاني

(2/2)

استدعت التطورات الإقليمية والدولية، أحداث 11/9/2001، وغزو أميركا أفغانستان والعراق، وترويج خطة شاملة تقضي بمتابعة الحملة العسكرية الأميركية لتشمل سورية والسعودية ومصر، توجهاً لدى السلطة السورية لاستثمار إيمان السلفية بشعيرة “الدفاع عن دار الإسلام”، واعتبار الجهاد في حال غزو دار الإسلام “فرض عين”، وكراهية السلفية أميركا خصوصاً، وتوظيف هذا التقاطع المصلحي معها في مشاغلة القوات الأميركية في العراق وإرباك مخططها، ودفع واشنطن إلى التخلي عن فكرة تطوير هجومها وتنفيذ فكرة الشرق الأوسط الجديد الذي رفعته إدارة بوش الابن، ويقضي بإسقاط الأنظمة القائمة، ومنها النظام السوري. فالدفاع عن النظام كان هدفاً، وكذلك التخلص من شباب السلفية بإرسالهم إلى الموت في العراق، فأفرج عن المعتقلين منهم وشجعهم على التوجه إلى العراق لمحاربة غزو أميركا بلداً مسلماً. تذكر هنا دعوة الشيخ أحمد كفتارو، مفتي الجمهورية آنذاك، إلى الجهاد في العراق، وتحرُّك الدكتور محمود قول أغاسي، الملقب بأبي القعقاع، وتشكيله مجموعة “غرباء الشام” للقتال في العراق، وقد اغتيل بعد أن انتهت مهمته التحريضية، ومما كان له دلالة عن موقع الدكتور أغاسي في سياق استراتيجية النظام “الجهادية” أن آخر حديث مسجل له كان موجهاً إلى رئيس النظام، بشار الأسد، بعنوان “زفرات بين يدي القائد”، يدعوه فيه إلى محاربة الفساد، من دون أن ننسى تشكيل النظام “جند الشام” و”فتح الإسلام”. ثم، بعد تراجع التهديد الأميركي نتيجة انهيار حسابات الإدارة حول المعركة لجهة كلفتها البشرية والمادية، عاد النظام إلى محاصرتهم واعتقال من عاد منهم وتسليم بعضهم إلى القوات الأميركية. والنتيجة أن الهجرة إلى أرض الجهاد (العراق) والقتال ضد الأميركيين أحدثا نقلة في طبيعة السلفية السورية، وحوّلاها من سلفية علمية/نظرية إلى سلفية جهادية.

السلفية الجهادية

“قاد التمادي بالقتل وبطرق في غاية الوحشية، والتفنن بأساليب التعذيب وإزهاق الأرواح، إلى تأجيج العواطف، وصعَّد المشاعر الدينية التي يحتاج إليها الإنسان، وبقوة، لمواجهة لحظات عصيبة وقاسية كالتي يعيشها السوريون”

ما إن بدأت التظاهرات الاحتجاجية بالتصاعد والانتشار الأفقي، وبدأ استخدام النظام القوة والرصاص الحي لتفريقها، حتى قفز إلى السطح المكون الثقافي الرئيس والأصيل في الشخصية السورية: الإسلام، إنْ عبر التكبير في مواجهة العنف وسقوط الشهداء وتدمير المساكن والمحالّ التجارية ودور العبادة، أو بالحديث عن الجهاد والشهادة والجنة الموعودة للشهداء الصادقين. (كان لافتاً هتاف المشاركين في تظاهرة سوق الحريقة 17/2/2011، بالعفوية نفسها التي دفعتهم للتظاهر الذي جاء رداً على صفع شرطي مواطناً يعمل في السوق، بـ “الله أكبر”).

انطلق من داخلهم إيمانهم الراسخ بما زرعته فيهم الثقافة الإسلامية من قيم نبيلة، ترفض تأليه الأشخاص أو تقديسهم (لا إله إلا الله)، فالتجبر والتألُّه تجديف وهرطقة دينية محرمة، وإذلال الإنسان الذي كرّمه الله وإهانته هرطقة اجتماعية وسياسية مرفوضة ومدانة، وقبول الظلم والذل جريمة يُعاقَب عليها الإنسان يوم القيامة، بدخول جهنم. وقد قاد التمادي بالقتل وبطرق في غاية الوحشية، والتفنن بأساليب التعذيب وإزهاق الأرواح، إلى تأجيج العواطف، وصعَّد المشاعر الدينية التي يحتاج إليها الإنسان، وبقوة، لمواجهة لحظات عصيبة وقاسية كالتي يعيشها السوريون.

بدأ الخطاب الديني بالظهور في فعاليات الثورة بصيغ شعبية وعامة، عبر التكبير ورفع شعارات عن التضحية والشهادة والجنة، واللجوء إلى الله، وطلب النصر والمساندة منه (“لبيك، لبيك يا الله”، “ع الجنة، رايحين، شهداء بالملايين”، “يا الله ما لنا غيرك يا الله”) قبل أن يأخذ شكل تنسيقيات بخلفية إسلامية، وتالياً كتائب مقاتلة بعقيدة إسلامية، تعبِّر عن إسلاميتها بدءاً من أسماء الكتائب (كتيبة الأنصار، كتيبة أحفاد الرسول، كتيبة الصحابة، كتيبة عائشة أم المؤمنين، كتيبة صقور الإسلام، كتائب الإيمان المقاتلة… الخ) لتنتهي عند البرنامج السياسي الإسلامي الواضح.

وقد دفع تصاعد المواجهة، في ظروف نقص الإمكانات، إلى التعاون والتنسيق بين الكتائب المتقاربة فكرياً والمتقاربة جغرافياً، ثم إلى تشكيل ألوية من اتحاد مجموعة كتائب (لواء التوحيد في حلب، لواء أحرار الشمال في حلب، لواء الحق في حمص، ولواء الإسلام في دوما… إلخ) وجبهات عسكرية (الجبهة الإسلامية السورية، الجبهة الإسلامية الموحّدة، جبهة تحرير سورية، حركة الفجر الإسلامية، حركة الطليعة الإسلامية)، وإلى تبنّي برنامج نضالي، يتحدث عن نظام إسلامي ودولة إسلامية، وأخيراً إقامة الخلافة وتطبيق الشريعة، فضلاً عن مشاركة سياسية من بعض السلفية، الشيخ محمد عيد العباسي في مؤتمر الإنقاذ السوري الذي عقد في إسطنبول يوم (16/7/2011)، والتيار الوطني السوري (عماد الدين رشيد، رياض الحسن، خالد الصالح) في المجلس الوطني السوري.

يمكن اعتبار “الجبهة الإسلامية السورية” مثالاً نموذجياً للتيار السلفي الجهادي السوري، ولخياراته الفكرية والسياسية والاجتماعية، فالجبهة التي تكونت من أحد عشر لواء، منها “حركة أحرار الشام” (تعمل في جميع أنحاء سورية)، و”حركة الفجر الإسلامية” (تعمل في مدينة حلب وحولها)، و”كتائب أنصار الشام” (في اللاذقية وحولها)، و”لواء الحق” (في حمص)، و”جيش التوحيد” (في دير الزور)، و”جماعة الطليعة الإسلامية” (في المناطق الريفية من إدلب)، و”كتيبة مصعب بن عمير” (في المناطق الريفية من حلب)، والجماعات “كتيبة صقور الإسلام” و”كتائب الإيمان المقاتلة” و”سرايا المهام الخاصة” و”كتيبة حمزة بن عبد المطلب” (التي تعمل في منطقة دمشق). وقد نشرت يوم 17/1/2012 شرحاً مستفيضاً لأهدافها بصورة ميثاق مكوَّن من سبع صفحات عرضت فيه منطلقاتها الفكرية، وأهدافها السياسية والاجتماعية، بعد إطاحة النظام، وهي:

الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع. تمكين الإسلام في المجتمع، عن طريق إعداد الأفراد لتولّي أدوار قيادية في عدة مجالات خلال الفترة الانتقالية. اتخاذ القرارات وفقاً لمبادئ الشورى، وفي ضوء أحكام الشريعة الإسلامية. إعادة بناء سورية على أساس الوحدة والشفافية، ومحاربة الفساد والاستغلال وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية. دور المرأة تكميلي، رفض الاختلاط واعتبار المفاهيم الغربية المتعلقة بحقوق المرأة غير مقبولة. اعتماد العدل والإنصاف في التعامل مع غير المسلمين. رفض التبشير بين المسلمين. تنفيذ البرنامج بشكل تدريجي.

كذلك برزت الدعوة إلى إقامة نظام “الخلافة” جزءاً من تصور لمجموعات سلفية سورية أخرى لنموذج الدولة في سورية، حيث أصدرت مجموعة من الكتائب المسلحة والتنسيقيات “ميثاق العمل المشترك لإقامة خلافة إسلامية”، جاء في مقدمته: “إيماناً منا بوجوب العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية واستئناف الحياة الإسلامية وتحقيق بشارة الرسول (ثم تكون خلافة على نهج النبوة)، نعاهد الله تبارك وتعالى على العمل وإسقاط مشروع الدولة المدنية الديمقراطية في سورية، وإقامة خلافة إسلامية”. وقد وقّع على هذا الميثاق يحيى مزاوي قائد كتيبة أحفاد الرسول، الرائد أمين خليل قائد كتيبة المهاجرين، النقيب خليل العمر قائد كتيبة عبد الله بن الزبير، مصعب السعيد، قائد كتيبة أحرار الإسلام عبد الحميد عبد الحميد، ممثل حزب التحرير، وعشرات الكتائب والفصائل المسلحة. وانضمت إليه تنسيقيات مثل: تنسيقية تفتناز، تنسيقية ثوار الغوطة، تنسيقية الحمراء، تنسيقية الدبلان، تنسيقية تل أبيض… وما زال التوقيع مفتوحاً للراغبين. وقد تبنّى أصحاب الميثاق مشروع الدستور الذي اقترحه حزب التحرير الإسلامي لدولة الخلافة الموعودة. كما رفعت شعارات في بعض التظاهرات تقول: “الشعب يريد خلافة إسلامية”.

“تتأرجح جبهة النصرة في موقفها بين رغبة أغلبية عناصرها السوريين وانضوائها تحت مظلة تنظيم القاعدة، ما يعني عدم وجود موقف سلفي موحد”

استمر توالد حركات جهادية سورية على خلفية سلفية، مع ملاحظة الوضع الخاص لجبهة النصرة لأهل الشام التي تتأرجح في موقفها بين رغبة أغلبية عناصرها السوريين وانضوائها تحت مظلة تنظيم القاعدة، ما يعني عدم وجود موقف سلفي موحد، فتشكل “جيش الإسلام” من خلال اتفاق 43 مكوناً عسكرياً منتشراً في ريف دمشق، وإعلان مكونات عسكرية أخرى نيتها تشكيل “جيش محمد”، تلاه تشكيل الجبهة الإسلامية: مشروع أمّة، بتاريخ 22/11/2013 من حركة أحرار الشام الإسلامية وألوية صقور الشام (اندمجت حركة أحرار الشام وألوية صقور الشام يوم 22/3/2015 تحت اسم حركة أحرار الشام الإسلامية) وكتائب أنصار الشام وجيش الإسلام ولواء التوحيد ولواء الحق، وقد حدد في ميثاقها أهدافها في:

1- إسقاط النظام القائم في سورية إسقاطا كاملا، وجميع مخلفاته ورواسبه الجاهلية، ومحوها بشكل كامل من واقع سورية. والذب عن دماء المستضعفين وأعراضهم وأموالهم، وإسقاط النظام يعني تفكيك وإنهاء سلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية، مع جيشه ومؤسساته الأمنية، ومحاكمة من تورط منهم ومن أنصارهم بسفك دماء الأبرياء محاكمة شرعية عادلة.

2- رص الصفوف وتوحيد القوى العاملة في الثورة المباركة، لنشر الأمان وإعادة بناء سورية على أسس سليمة من العدل والوحدة والتكافل.

3- إقامة دولة مستقلة تكون السيادة فيها لشرع الله الحنيف، ينعم أفرادها بالعدل والحياة الكريمة.

4- المحافظة على الهوية الإسلامية في المجتمع، وبناء الشخصية الإسلامية المتكاملة.

5- العمل على إدارة الموارد والثروات وتسخيرها لصالح الفرد والمجتمع، لتلبية حاجات أبناء البلد الأساسية من الغذاء والصحة والتعليم.

6- المشاركة الفاعلة في تنمية المجتمع والنهوض به، وإعداد القيادات الفاعلة في مختلف مجالات الحياة.

صعود السلفية مع الثورة

“إيران ووقوفها، هي وحكومة العراق وحزب الله والمليشيات الشيعية العراقية، إلى جانب النظام، وقد أعطى ذلك قوة وصدقية لخطاب السلفية حول طبيعة الصراع: صراع مذهبي”

لم يكن حضور التيار السلفي ظاهراً أو بارزاً في المشهد السياسي السوري، (اشتكى قيادي من التيار السلفي في دير الزور من محاربة النظام والتيارات الإسلامية هذا التيار ودلل على رأيه قائلاً إنه ليس للتيار مسجد في دير الزور)، خصوصاً بعد الحملة التي شنّها النظام على هذا التيار عام 2005 بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، وانفجار الخلاف بينه وبين المملكة العربية السعودية، وكانت الحملة بدعوى “محاربة الوهابية والفكر الظلامي التكفيري”، غير أن عوامل محلية وإقليمية ودولية ساعدت، ليس على ظهور التيار السلفي فقط، بل وتصدّره لهذا المشهد خلال الثورة. لعل أهم هذه العوامل: عنف النظام ووحشيته في الرد على الاحتجاجات. عسكرة الثورة. الحالة الروحية للسلفي واستعداده العالي للتضحية بالنفس في سبيل العقيدة. انحياز المؤسسة الدينية التقليدية إلى جانب النظام أو بقاؤها على الهامش. ضعف الشخصيات الدينية المعتدلة وفرارها إلى الخارج. الدعم المالي والعسكري الكبير من الأفراد والدول دفع حتى الكتائب غير السلفية إلى الالتحاق بالسلفية للاستفادة من هذا الدعم. الدعم السياسي والإعلامي (تجنيد دعاة سلفيين، مثل نبيل العوضي الكويتي ومحمد العريفي السعودي، وتسخيرهم أقنية تلفزيون للترويج للخطاب السلفي). إيران ووقوفها، هي وحكومة العراق وحزب الله والمليشيات الشيعية العراقية، إلى جانب النظام، وقد أعطى ذلك قوة وصدقية لخطاب السلفية حول طبيعة الصراع: صراع مذهبي. تقاعس المجتمع الدولي، وإخفاقه في وقف سفك الدم السوري، مما عزّز الخطاب السلفي المناوئ للغرب باعتباره شريكاً سلبياً في جرائم النظام. الدور الذي لعبته دول الخليج العربي بعامة، والسعودية بخاصة، في دعم وتمويل هذه الجماعات ورعايتها، على خلفية حذرها وخوفها من انتصار ثورة ديمقراطية في سورية تهزّ ارتداداتُها الإقليم، بما فيه دول الخليج العربي ذاتها، وسعيها لاستثمار عنف النظام ووحشيته والبناء على توجهه لزرع الفتنة الطائفية كسياسة لحرق الثورة وتشويهها، فرعت تلك الدول ردّ الفعل الشعبي إزاء السلوك الطائفي للنظام، واحتضنت بذرة السلفية، وسعت لتحويلها إلى الوجه الرئيس للثورة عبر تمويلها وتسليحها، ودمّرت المكون المدني والديمقراطي فيها، وقد تسارع هذا التوجه، بعد تسلم حركة الإخوان المسلمين السلطة في مصر، وتناغمها مع تركيا في دعم الإخوان المسلمين السوريين، والعمل على احتلالهم دوراً كبيراً في سورية المستقبل.

وقد طرح صعود التيار السلفي على نفسه تحديات كبيرة وخطيرة، وضعت مستقبله، ومستقبل المشروع السلفي، على المحكّ، لجهة النجاح في التعاطي مع مترتبات هذا الصعود وإعطاء أجوبة فقهية وسياسية، تقنع المجتمعين السوري والدولي بأن سورية ستكون دولة مستقرة، يعيش مواطنوها بأمان ومساواة في ظل سيادة القانون والحريات العامة والخاصة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى