صفحات سورية

السلمية أم السلاح؟/ ثائر ديب

 

 

تعود إلى الواجهة هذه الأيام، مع تردّي أمور المعارضة السورية المسلحة وتقهقرها، تلك النقاشات التي لم تكد تهدأ حول سلمية الثورة وعنفها. ولقد غلب على هذه النقاشات منذ البداية ولا يزال نوع من المنطق الإطلاقي الذي يرى أنّ السلاح كان حتمياً، أو أنَّ السلاح هو السبيل الوحيد لتحقيق الهدف المتمثل بإسقاط النظام، أو أنّ السلمية وحدها هي هذا السبيل، أو أنَّ لا العنف ولا السلمية تنفعان مع هذا النظام الذي يغدو بذلك استثناء عجيباً لم يكد يعرف التاريخ مثيلاً له.

أولى الملاحظات التي يمكن تدبّرها في تفنيد المنطق السابق هي أنَّ النقاش تواصل حول سلمية الثورة وعنفها ولا يزال بعد سنوات على كفّ «الثورة» عن أن تكون «ثورة». فبعد أشهرها الأولى التي طبعتها بطابع شعبي وسلمي عام كان يرشّحها لمزيد من التوسّع، أفضت عوامل عديدة، على رأسها القمع الوحشي وأموال الخليج والارتباط بأجندات إقليمية ودولية وطبيعة الفئات الفاعلة فيها، إلى ذهاب قيادتها إلى فئات اجتماعية وقوى سياسية وأيديولوجيات ومطالب وتكتيكات لا علاقة لها بأيّ شيء يمكن وصفه بالثورة. وهذا يعني أنّ النقاش كان يدور من دون أن يكون له أي مرتكز فعليّ على الأرض. ولك أن تتخيّل، إذاً، مقدار الكوميديا في صورة يساري يريد أن يصحح تسديد «قاعدة النصرة» أو «جيش الإسلام».

طبيعيّ بعد هذه الملاحظة ألا تدور التي تليها حول واقع قائم بقدر ما تدور حول احتمالات كان يمكن لها أن تتحقق وأطاح بها السبيل الذي سارت فيه الأحداث.

من ذلك مثلاً، وهذه ثانية الملاحظات، أنّ ما كان مقصوداً بـ «السلمية» هو المقاومة المدنية السلمية التي تتقن التدرّج في مراحل انتفاضتها وأشكالها النضالية بحسب المقتضى. وليس ما فُهِمَ من اقتصارٍ على التفاوض والسياسة الرخوة وربما الخنوع.

ترى ثالثة الملاحظات أنَّ ما من ثورة تستحق هذا الاسم إلا وتضع الفشل كاحتمال وارد قد تسعى إليه بنفسها حين تكون خسائره أقل فداحةً، ما يجعل النقاش الذي دار ويدور (السلمية أم السلاح؟) نقاشاً زائفاً استبعد احتمالاً ثالثاً هو الذي يترجّح حصوله اليوم، إنّما بعد كوارث تاريخية رهيبة لن تزول آثارها.

وترى رابعة الملاحظات أنّ الحفاظ على السلمية في الثورة السورية كان يقتضي في مراكز الفاعلية والقيادة فئات غير الفئات الهامشية والغرّة و «المُتلبرلة» والإسلاموية التي شغلتها ولم تُحسن قراءة ميزان القوى المحلي والإقليمي والدولي، وظنّت بنوع من البلاهة أنّ ما يجري في سوريا كان يمكن أن يُحسَم من الجولة الأولى، ولم تحسن مخاطبة الجمهور المحايد ولا الموالي كما تفعل كل ثورة ناجحة إذ تقدّم نفسها على أنها تمثّل الجميع ما عدا قلّة قليلة.

أمّا خامسة الملاحظات فترى أنّ القول بعدم جدوى السلمية في سوريا هو قول بائس، تكذّبه لا خلاصة تجارب الشعوب ودراستها العلمية فحسب، بل وقائع الأشهر الأولى من انتفاضة السوريين ذاتها أيضاً. فقد شهدت هذه الأشهر ذات الطابع السلمي أساساً كلّ ما اعتادت سوسيولوجيا الثورات وعلومها السياسية على تسميته بـ «الأزمة الثورية» حيث يرفض البشر عيشهم السابق ويعبّرون عن ذلك بأفعال في الشارع ويعجز النظام عن مواصلة إدارة الأمور بالطريقة السابقة، ويأخذ بالتخبط بين القمع والتفاوض، وتأخذ أزمات المجتمع المختلفة بالتركّز في المستوى السياسي.

كلّ ذلك حصل وكان يحصل ويتصاعد قبل أن يلعلع السلاح ويعلو الزعيق المتهافت لمن سيشرعون بالنّواح المتهافت عمّا قليل.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى