إحسان طالبصفحات الرأي

السلم الأهلي والأمن الاجتماعي ودور شبكات الأمان

 

    احسان طالب

    مسألة من مسائل القضايا الجوهرية الواقعية بعيدا عن خطاب مثالي يغفل جذر المشكلة ويتعالى فوق حلولها الدنيوية والمدنية، فهي شأن من الشؤون العملية التطبيقية المبنية على أسس علمية وتجارب وخبرات محلية ودولية.

    لقد خلف الاستبداد الطويل ظلال قاتمة على بلدنا وشعبنا حفرت آثارها عميقا في بنياتنا الاجتماعية والفكرية والثقافية ، ثم تلا ذلك سنوات من العنف والاحتراب والقتال الدموي مخلفا كوارث عمرانية واقتصادية هائلة نجمت عن استعمال البطش العسكري الجائر والاستخدام المفرط للقوة من قبل السلطة الحاكمة في مرحلة ما قبل التحرير.

    إن ما تعانيه بلدنا سوريا أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، ولكن ذلك لا يعني غياب الحلول أو ضياع فرص الإصلاح والترميم، بل على العكس تماما الفرص والحلول متوفرة وممكنة بالاعتماد على طاقات وإمكانات الشعب السوري والأرض السورية المعطاءة، ومساعدة أصدقاء سوريا في الدول العربية والإسلامية ، ووقوف المجتمع الدول إزاء واجباته بحزم ، فلقد كان المجتمع الولي جزءا حيويا مما آلت إليه الأمور في وطننا الحبيب.

    لقد بات ربط السلم الأهلي بالأمن الاجتماعي مسألة علمية اقتصادية واجتماعية وطنية وعلينا أن نرتقي بخطابنا وعدم الاكتفاء بالتكرار واجترار المقولات الجاهزة، والتعبيرات النمطية المخادعة التي تصور الفرد والمجتمع كعنصر من عناصر الأيديولوجية السياسية أو الدينية ، فالفرد المواطن كيان مستقل له حاجاته وضرورات عيشة قبل تحديد انتماءاته الإثنية و الدينية والمذهبية، وعلية فقضية السلم الأهلي والأمن الاجتماعي قضايا وطنية رئيسة تعلو فوق منطق وخطاب التقسيمات الجهوية أو السياسية والحزبية و الدينية. ولا يجوز أن يفهم هنا خطأ استبعاد دور الأديان أو الثقافات والمدارس الفكرية والسياسية والاقتصادية في التأسيس والتشييد، بل على العكس تماما إذ لا بد من انخراط تلك المؤسسات الاعتبارية في العملية الوطنية الكبرى، عملية بناء الوطن والإنسان

    الأمن الاجتماعي :

    الأمن الاجتماعي ركيزة أساسية لحماية منجزات الثورة وتوفير البيئة الآمنة للبناء والإعمار وتحصين المجتمع من الانزلاق نحو الفوضى والاضطراب

    ويشتمل مفهوم الأمن الاجتماعي على شبكات أمان تتضافر من خلالها جهود ومعارف 1 ـ الفرد 2 ـ والمجتمع

    ـ 3 ومؤسسات الدولة.

    لتهيئة الظروف المناسبة التي تكفل استقرار حياة الأفراد وأمنهم، داخل مجموعاتهم الطبيعية والمدنية وبدون الأمن الاجتماعي يصبح الفرد في مهب التجاذبات الملحقة بالتقسيمات والتنظيمات المسلحة الناشئة في ظل الصراعات الأهلية وفترات الانتقال من أنظمة الاستبداد والطغيان إلى أنظمة ديمقراطية مدنية و في ظل الصراعات المسلحة يغيب مفهوم الأمن الاجتماعي تحت وطأة شعارات كبرى تطيح بقيمة الإنسان ليحل مكانها حماية الثورة والوطن ومصالحه الكبرى

    .إن الحفاظ على الحياة والمال والعرض بمفاهيمها الشعبية والتقليدية أمر حيوي هنا، وسبيل من سبل ضمان اللحمة الاجتماعية والوطنية، وتعزيز الاندماج الاجتماعي المطلوب في فترات ما بعد التحرير وانتهاء الصراع ، فالعزلة الناجمة عن الانتماءات الطائفية أو السياسية تشكل عائق وجمرا تحت الرماد يهدد السلم الأهلي. كما أن تجاهل الفئات المهشمة من المجتمع يترك الباب مفتوحا ويعطي فرصا متاحة لتلك الفئات للانخراط في مخططات تخريبية وأعمال إجرامية تفتعلها جهات خارجية أو محلية لتقويض الثورة وتفكيك التعايش الاجتماعي.

    ويلخص الحديث النبوي الشريف (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها) قدرا عظيما من أركان الأمن الاجتماعي.

    السلم الأهلي:

    يركز المفهوم على المجتمع ككل وعلى علاقات الأفراد والجماعات السياسية والمدنية والمنظمة والعفوية ، في حين يتكامل المفهوم مع الأمن الاجتماعي الذي يركز في جوانب رئيسة من على الفرد وتجمعاته الصغيرة ، كالأسرة والعائلة والأمن الداخلي للفرد، واحتياجاته، ويرتبط السلم الأهلي بصورة حيوية بالتقسيمات التقليدية كالطائفة والقبيلة والعشيرة حيث تتولى تلك الأواصر التقليدية قسطا وافرا من مهام الحفاظ على السلم الأهلي وتضغط بداخلها لمنع بروز دعوات أو تحركات تدفع لأحداث نزاعات أو صراعات مذهبية أو مناطقية أو إثنية . ومن أركان السلم الأهلي الاعتراف بالحقوق الجغرافية والتاريخية والثقافية والسياسية لكافة المكونات ولجميع الأطياف المتشاركة في ما يشكل تاريخيا وجغرافيا وحضاريا الشعب السوري، ويرتبط أيضا بالجماعات المتحاربة بمرجعيات سياسية أو دينية ، وهو مطلب حيوي لكل المجتمعات بعد الحروب الأهلي وبعد التحرر من أنظمة الاستبداد والاستعباد، فهو مفهوم شامل.

    (يعني السلم الأهلي الدائم رفض كل أشكال التقاتل ، أو مجرد الدعوة إليه أو التحريض عليه، أو تبريره، أو نشر ثقافة تعتبر التصادم حتميًا بسبب جذرية التباين ، و تحويل مفهوم الحق بالاختلاف إلى أيديولوجية الاختلاف و التنظير لها و نشرها. و يعني السلم الأهلي الدائم العمل على منع الحرب الأهلية في المجتمع

    و ينطلق العمل في سبيل إرساء السلم الأهلي الدائم من قاعدة عملية و هي أن الحرب الأهلية أو الداخلية في المجتمع خسارة لكل الأطراف ، أيا كانت الأهداف أو القضية التي تتلبّس بها هذه الحرب أو تسعى للدفاع عنها ، لأن هذا النوع من الحروب في الواقع الدولي هو مصدر شرور أخرى داخلية و إقليمية و دولية. (جاء التعريف في مقدمة كتاب : مرصد السلم الأهلي والذاكرة في لبنان ، إشراف انطوان مسرّه، المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، المكتبة الشرقية، 2004، 656 ص).

    كيف يمكن تحقيق الأمن الاجتماعي :

    عبر.تبني خطط وبرامج الحد من الفقر وإدارة المخاطر والبناء المؤسساتي المتضمن إنشاء شبكات أمان يتولى أمرها القطاع العام ـ الرسمي من قبل الدول ـ وبالتوازي مع الجهات المانحة والمساعدات الخارجية و المنظمات غير الحكومية، والشركات الخاصة، والجمعيات الخيرية، والتحويلات غير الرسمية المنزلية، ما يعني أن عملية تشييد مظلة شامل للأمان الاجتماعي تتطلب تضافر الجهود الرسمية الحكومية والمنظمات الأممية والقطاع الخاص وهيئات المجتمع المدني ـ الجمعيات الخيرية ، الهيئات الاغاثية ، المشاريع المالية والبنكية لتمويل القروض الصغيرة والمشاريع العائلية ـ الهيئات الاجتماعية الراعية لتوفير فرص الزواج للشباب ،حلقات الوصل بين المانحين والمحتاجين ـ

    ويقع على عاتق الهيئات الرسمية الحكومية وما هو في حكمها خلال المراحل الانتقالية العبء الأكبر والمسؤولية الأهم حيث أنها وحدها القادرة على تنفيذ شبكة الأمان الاجتماعي والاقتصادي بتوفيره للشروط التالية :

    1 ـ ضمان ضروريات الحياة والعيش الكريم للعائلات الشهداء والمقاتلين ورعاية الأسر التي فقدت معيلها

    2 ـ إبلاء قضية الإسكان والأعمار أولوية في مخططاتها السياسية والاقتصادية

    3 ـ دعم أسعار الأغذية والوقود والكهرباء والنقل العام

    4 ـ توفير الطبابة المجاني الجيدة المستوى وكفالة المتضررين والمصابين بإعاقات جزئية أو كاملة جراء الصراع الحربي

    5 ـ التخطيط التنموي المتوازن والعادل وخاصة للمناطق الريفية والمهشمة تقليديا .

    6 ـ إعفاء الفقراء والطبقة الوسطى من الرسوم والضرائب وتحقيق العدالة الضريبة

    7 ـ التعليم المجاني والديمقراطي بحيث لا يكون التعليم العالي حكرا على الميسورين ومساعدة الجهات المانحة للبعثات التعليمية الداخلية والخارجية

    8 ـ تأمين المرافق العامة ـ طرقات ، وسائق النقل العامة ، النوادي الرياضية والثقافية والفنية ـ بعروض مجانية أو شبه مجانية

    أن تحقيق الأمن الاجتماعي ليس مجرد علميات اجتهادية أو تحركات فدرية أنه خطة وطنية شاملة وإستراتيجية سياسية واقتصادية متكاملة زمنيا وجغرافيا ، لذلك من الضروري جدا تأمين الموارد اللازمة والعاجلة لإقامة شبكات الأمن الاجتماعي على مستوى الدولة والوطن، وليكن معلوما بأن غياب الأمان والضمان الاجتماعي هو فيروس عضال سيفتك بكل المنجزات الثورية وسيحرف مسار التحرير ويدخل البلد في متاهات الصراعات ، فالمواطن الأمن المكتفي والواثق بحاضرة ومستقبل أطفال هو المواطن المستقر والمشارك بفاعلية في العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الوطنية .

    ينبغي على شبكة الأمان الاجتماعي توفير التغطية لثلاث مجموعات مختلفة إلى حد ما:

    الحالة الأولى : الأسر والفئات الفقيرة المزمن حتى في الأوقات الاعتيادية وفترات الازدهار الاقتصادي هذه الفئات فرصها محدودة للحصول على الدخل وتتصف بندرة بل وانتفاء المدخرات اللازمة لإدارة المخاطر الطارئة والأزمات المستجدة ، الحالة الثانية: تمتلك دخولا لكنها لا تغطي الاحتياجات ولا تفي بلوازم الضمان الصحي أو متطلبات التعليم وتخفيضات صغيرة في الدخل حتى يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة بالنسبة لهم. الحالة الثالثة: وهي الفئات التي فقدت مصدر رزقها وتدمرت مساكنها ومنشاءتها الاستثمارية، زراعية كانت أم صناعية أم تجارية مما اضطرها للتحول إلى جهة المجموعات الأكثر حاجة والأشد تضررا من الحرب وهذه المجموعة عابرة لخط الفقر حيث أنها لم تكن قابعة تحته قبل الثورة .

    يمكن لبرامج شبكات الأمان الاجتماعي أن تلعب أربعة أدوار في سياسة التنمية:

    1 ـ إعادة توزيع الدخل للفئات الأفقر والأضعف، بحيث يحقق تدخلها تأثيرا فوريا على محاربة الفقر وتفكيك قواعد عدم المساواة بتوفير فرص العمل المتساوية وتحقيق تكافؤ الفرص

    2 ـ تمكين الأسر المنتجة من الاستثمار في الحاضر والمستقبل القريب، عبر القروض والمشاركة الاستثمارية والمنح الحكومية ، وتسهيل حركة المنتجات العائلية ، والتعريف بها

    3 ـ مساعدة الأسر على إدارة المخاطر، بتقديم التعويضات تعويض عن الأضرار ونشر استراتيجيات مواجهة الأخطار والكوارث وإتاحة فرص متعددة لتوفير الوظائف وسبل كسب الرزق

    4 ـ تشكل صلة الوصل بين المحتاجين والمانحين وتؤمن للمؤسسات الرسمية التعرف على الفئات والمناطق الأكثر حاجة وتضررا بحث تضع الحكومات أطروحات وأفكار ونتائج تحركات وأبحاث شبكات الأمان في خططها التنموية والاقتصادية الوطنية شبكات الأمان بحث تكون المؤسسات الرسمية أكثر كفاءة وأقرب إلى الوقع .

    ولتتحقق فاعلية شبكات الأمان بتدخلها المباشر في تفاصيل عمليات التخطيط والتنفيذ لمشاريع الأمن الاجتماعي وبأن يكون العاملون في تلك الشبكات من أصحاب المصلحة المباشرة أو قريبين منهم بصورة لصيقة ، وتساعد تلك الشبكات في عملها وضع برامج ومخططات بيانية تسجل المحتاجين والمستفيدين بدقة وإجراء أبحاث استقصائية لتحديد الحاجات واستقبال المقترحات من أصحاب الشأن ودراسة الحالات المشمولة على أرض الواقع لوضع شروط عملية لكيفية استقبال المنح وسبل تسديد القروض وإيصال البرامج لهدفها المقرر ، وعليها تحديد المهام والمسؤوليات بوضوح

    وعلى شبكة الأمان التحلي بالمرونة والانفتاح على اقتراحات الفئات المستهدفة والاستفادة من الخبرات المحلية والتجارب الدولية المشابهة.

    آليات ووسائط بناء السلم الأهلي :

    1 ـ من الضروري التكلم عن خصائص المجتمع السوري وتسخيرها لتحقيق خصائص السلم الأهلي عموما فلكل مجتمع خصائصه الفريدة ويفترض الانتباه إليها ما سيسهل مهمة الخبراء ويساعد في تبني السياسات المناسب والمخططات الناجعة ، فالمجتمعات الإسلامية والشرقية تعلي قيمة الشرف والعرض وترفع من شأن خصوصية العائلة ولا ترتاح كثير لعمليات الدمج بين الجنسين ومعرفة تلك الخصوصية سيساعدنا من أجل الوصول لنتائج إضافية وعملية

    2 ـ إنشاء مركز متخصصة للتدريب والتخطيط في الحفاظ على السلم الأهلي وفض النزاعات سلميا

    3 ـ تعزيز الثقة بين مكونات المجتمع ودعم المبادرات المحلية الرامية لتحقيق التعايش السلمي

    4ـ تعزيز التوفقات الوطنية والتركيز على القضايا الوطنية الإستراتيجية الجامعة واستنهاض الذاكرة الجمعية

    5ـ نشر مبادئ ومفاهيم المجتمع المدني وبناء السلام ونشر ثقافة حل النزاعات بالوسائل السلمية

    6ـ تمكين الفئات المتوجسة من التغيير والخائفة من التعبير عن مخاوفها وطرح مشاكلها إلى العلن

    7ـ دمج المقاتلين السابقين في مؤسسات الدفاع الوطني وتحويل المدنيين منهم لوظائف مدنية

    8ـ توفير الدعم النفسي والمادي للضحايا وإعدادهم للحياة في المجتمع السلمي

    9 ـ تبني سياسة إعلامية وتعليمية على المستوى الوطني ترسخ قيم السلم والإخاء والحوار والتواصل وتحض على الفضيلة والمعرفة ، وتنبه إلى مخاطر القيم السلبية ـ الثأر ، الانتقام ، الجريمة بدافع الشرف ـ وترفع من قيمة الإنسان المكرم في الشرائع والأديان السماوية

    وكما سق ذكره أعلاه فإن الأمن الاجتماعي هو ذروة السنام والسكة الموازية التي لا مفر من وجودها لضمان مسيرة المجتمع بيسر وأمان نو المستقبل المشرق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى