أحمد عمرصفحات الناس

السوخوي تتكلم وسورية تتألم/ أحمد عمر

 

 

كنا ثلاثة في سيارة امتحان شهادة السواقة، المهندسة سابينا، وحضرتي وجنابي، وثالثنا المدرب إحسان اوغلو. كل أفلام التدريب على شبكة اليوتيوب، والتي تطوّع لإنشائها سوريون كثر، فتكاثرت مثل الفطر، تنصح بالحنان على المشاة، تودداً إلى المهندس الفاحص.

أول وصايا السائقين العشرة: حال وصولك إلى ممرات المشاة الآمنة، هدئ السرعة أيها السائق المغوار. كنت أبطئ وأمشي كما يمشي الوجي الوجل، وأهدئ السرعة، حتى في حالات خلو ممرات المشاة، رأفة بأطيافهم، التي مرت احتراماً لذكرى حمير وحش، التصق جلدها بالأرض. وكنت أمشي بجانب مجموعات صيانة الطرق، والطرق الألمانية في حالة صيانة دائمة، كما تمشي الحافية على جسر الذهب.

قلت للسيدة الفاحصة، والمدرب يصفها بالمهندس، فلعل كل الفاحصين مهندسون، وقد استنفرت مقدراتي اللغوية الألمانية، فكان لفظي يخرج شبيهاً بكلام طفل في أول نطقه، خالطاً ضمير المذكر بالمؤنث، أو المخنث (الضمير المحايد)، ثم وجدت أني انزلقت إلى الحديث بالإنكليزية وأنا أشير إلى دمية القرد على مقدمة السيارة:  هذا القرد  من أجل اختلاس الحظ من القدر.

وعندما أتحدث بالإنكليزية، ألتزم بأزمنة أربع، هي ماضي الجاهلية البسيط، وماضي السلف الصالح التام، والحاضر الملتهب، الذي يعاني من السارين والنار، والمستقبل المظلم إلى الأبد.

في ألمانيا يهتمون بالحيوانات، وسياراتهم فيها دمى حيوانات، لتوسل أقدار الحظ، مثل: كف القرد، وورقة البرسيم، والهرة.. الترك يدفعون بالخرزة الزرقاء، على أبواب بيوتهم، وفي سياراتهم، الشرَّ وعين الحسد. وقد رأيت أناساً يتعوذون من الشر بحدوة الفرس. وفي الإسلام هي من أبواب الكبائر، والشرك، والكفر، لكن المسلمين العرب يضعون صور الرئيس، أو الملك في مكاتبهم من أجل إغراء الحظ، ودرء الحسد، والاستعاذة من شياطين الإنس، حتى ولو كان الملك من المقعدين، والأرذلين. والحيوانات أقل شركاً وكفراً. لعلها عودة ناعمة إلى عهد الطواطم وعبادة الحيوانات.

قالت: قرد جميل

قلت: جبر الله خاطرك.. كله من ذوقك اللطيف.

وقلت: قردي، يحبُّ الرقص، ويرقص حتى من غير موسيقى، و وحده من غير قردة. والكرد يسمّون الحظ بالقرد! وقد خسر الكرد غوريلا كركوك، وأما قردهم الثاني كينغ كونغ، فهو هدية من حدائق الحيوان الأمريكية. والأمريكان أكثر البشر غدراً على الإطلاق، فقد عقدوا 175 معاهدة مع الهنود الحمر حتى انقرضوا، وقد يكون سبب حبُّ الأمريكان للغدر، هو الديمقراطية الأمريكية، فالرئيس الذي يعقد المعاهدة، يختفي بعد بضع سنوات، ثم يأتي غيره، فيقول الجديد: وهل أنا الذي عاهدتك ياماي دارلينغ. سنباد بالديمقراطية الأمريكية الذرية.

وكنت قد وضعت قردي على منصة القيادة، حتى يذكرّني بكسر رقبتي عند عبور المنعطفات، لقد تعلم الإنسان من الحيوانات كثيراً من الفنون والعلوم، فعباس بن فرناس تعلم من الطير صناعة الريش الحديدي، وتعلم أندريه جاك كارنان الهبوط بالمظلة من تصميمات لليوناردو دافنشي، مقلداً فيها العنكبوت. ورجال الضفادع البشرية قلّدوا الضفدع كامل، وسلاحف النينجا. وتعلم السيسي من الببغاء فن الخطابة، ومن الزرافة تعلم الأسد فن الجري إلى الأمام من غير التفات وارعواء، وتعلم الرؤساء العرب صناعة إكسير الخلود من شرب دماء الشعوب، الذين مسخوهم حيوانات.

على السائق أن يهتم بواجبه، ويتجنب الكلام، لكن الكلام الحرّ غير ممنوع، الحديث بالهاتف من غير سماعات هو المحظور، لم أكن أتكلم إلا عندما يخلو الطريق، أمامي ثلاثة أرباع الساعة، وهي مدة الفحص، وهي وقت طويل.

قلت لها: هواي ليس في القرد، حيواني المفضل هو البعير، لكني لم أجد بعيراً في ألمانيا كلها، بينما القرود كثيرة.

وجدتْ في حديثي وتأتأتي ما يثيرها، فقالت: البعير حيوان مثير جداً وممتع.

قلت: نسميه في بلادنا سفينة الصحراء، لأن مشيته، تشبه ضرب مجاذيف القارب، وأضفت: ومشروبي المفضل هو بول البعير.

قفزت من مقعدها ورائي، مثل حبة ذرة لفحتها لفحةٌ من النار، وقالت: حقاً!  سررتُ بما أحدثَتْه قنبلةُ السكر، التي فجرتُها طرفةً، وقلت: أمس زارني جاري ساشا، ووجدني أشرب بول البعير من غير نديم، فقال ما هذا يا جاري؟ فقلت: جعة إسلامية.

وقدمت له كوباً، وجعلته نديماً، فقال بعد أول رشفة: أطيب من الجعة الألمانية.

قلت: خالية من الغول. العقل هو الحد الفاصل بين الحيوان والإنسان.

كنت لا أزال أوهمها أنني أراقب الطريق من خلال المرايا الثلاث، وأخاف من فتنة جمالها في المرآة.

كانت المهندسة ما تزال تؤدي واجبها وترشدني، وترمي علي بأنواع الهموم مثل ليل ذي القروح، وأبواب الكيد، التي يلقيها الفاحصون على السائقين، امتحاناً، فأنجو منها، وأنا أنظر إلى الملك كونغ الصغير، يجب ألا أنسى كسر الرقبة عند المنعطفات، والتزم بالسرعة، لكل شارع سرعة، ولكل فارس كبوة.

قلت لها: هل تتفضلين بسماع نكتة عربية مشهورة، متصلة ببول البعير، والجعة الحلال يا مولاتي؟

قالت بصوت فيه بحة الناي المنقوع في عصير العنب حولين كاملين: منى عيني.

قلت: روايةُ طرفةٍ قديمة، أشبه بالعائد في قيئه، تقول الطرفة: إنّ ممرضة دخلت كي تبلغ المريض العجوز البدوي نتيجة التحليل الطبي، فقالت له بأسف: بولك طلع فيه سكر.

فنشط العجوز ووثب، وعاد إلى ميعة الشباب وقمة الأمل، وقال لها: أنت بولك عسل.

ضحكت بصوت عال، وغرّد الناي في حنجرتها، وخرخر عصير العنب، وضحك إحسان أوغلو، ولم أعلم هل يضحكان من جهلي باللغة، أم من حرقة العسل.

كدت أسقط في امتحان إشارة ضوئية، فالسائق إذا كان على بعد أربعين متراً، وتحولت إشارة المرور إلى البرتقالية عليه أن يبادر إلى الوقوف، وإذا كان على بعد عشرة أمتار عليه أن يتجاوزها، قبل أن تتحول إلى الحمراء، الوقت والتوقيت مهمان في الطرقات الألمانية الوعرة بعلاماتها وشاخصاتها.

شبّهت المرور في ألمانيا بالشطرنج، إلا أنه بالقمار أشبه. أظن أني كنت سأسقط، لولا محاسن المقادير، دستُ البنزين، ونجوت.  مدربي إحسان، كان قد صار لونه مثل لون بول البعير، فهو يشفق علي، ويتمنى لي النجاح بعد كل معارك التدريب، التي تكسرت فيها الرقاب على الرقاب، وصار فيها القرد قائداً ومرشداً روحياً.

اجتزت مفاوز كثيرة من الفحص، وأشرفت على المراحل الأخيرة، قيل لي أن الألمان في المدن الكبرى يسافرون إلى المدن الصغيرة، ويجرون فيها الامتحان، لأن إشاراتها أقل، ومكائدها أسهل. قردي لا يزال يهزُّ رأسه ويضحك.

سألتني: ومن أين تحصل على بول البعير؟

قلت: هذا مستورد من بلاد الأفغان، بول البعير العربي أطيب، لأنه يأكل من شوك السدر الطيب.

وصلنا إلى ختام الرحلة، سأقوم بعملية ركن السيارة، وفعلت، وأغمدت السيارة بين سيارتين، كما الميل في المكحلة.

نزل مدربي من السيارة. النزول من السيارة أيضاً له سنن وفرائض وأركان، يجب أن ينظر السائق في المرآة، حتى يأمن لخلو الطريق من العابرين، ويفكَّ الحزام، ويضع المفتاح على منصة السيارة الأمامية بجانب السيد القرد. تركني مع الحسناء سابينا، وثالثنا القرد، قالت لي: أخطأت خطأً واحداً، سأغفره لك. يبدو أن طرفة بول البعير كانت رشوةً حلالاً، وأنّ جعة سابينا فيها الكثير من العسل.

نزلت سابينا من السيارة، وهي تبتسم لي مباركةً، وغادرتْ، تخطر في مشيتها الملكية، مثل الرمح الكعوب، الذي لا ينكسر، ولو نقع في الشعر والقصائد سنة كاملة.

نظرت إلى القرد الواجم، كان ينظر إلى قدّها المياس، قال: ربحت الشهادة، لكن النصر أمر آخر.

المدن

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى