صفحات سوريةعمر قدور

السوريون: أرمن أم يهود؟/ عمر قدور

 

 

نستطيع أن نقرأ بسخرية ومرارة إعلان منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) أن “سبعة ملايين طفل سوري وعراقي، عالقين في النزاع الدائر في بلديهما، سيواجهون شتاء قاسياً هذا العام، مع اقتراب موسم الشتاء برياحه الباردة… إلخ”. وجه السخرية والمرارة ليس أن موسم البرد قد بدأ فعلاً، وهناك خيام للنازحين قد جرفتها السيول في بعض دول النزوح المجاورة، وليس تالياً أن القائمين على الأمر أو أقله على صياغة البيان لا يملكون معرفة كافية بطقس المنطقة، بل لأنه الشتاء الرابع على التوالي الذي يعاني فيه أطفال سوريا المأساة نفسها من دون أن تتخذ المنظمات الدولية أو الدول القادرة الإجراءات الكفيلة بتخفيف معاناة أولئك الأطفال. ولو أحسنا الظن في استجابة “المجتمع الدولي” لبيان اليونيسيف، ومن ثم جمع تبرعات للأطفال وتحديد سبل صرفها وتوزيعها، فمن المرجح أن يكون حينها فصل الشتاء قد انقضى.

ما لا يثير السخرية أن تلك الدول والمنظمات غير مستعدة لإعلان السوريين كشعب منكوب، وغير مستعدة للتعاطي مع مأساة النزوح بوصفها مأساة مستمرة، مع أن الدول الفاعلة لا تتوقف عن تصدير التقارير التي تشير إلى استمرار “النزاع” في سوريا لما لا يقل عن عشر سنوات. فما يُسمى “المجتمع الدولي” غير مستعد لوضع الأساس القانوني والسياسي للتعاطي مع مأساة تهجير السوريين، لأن ذلك يقتضي أن يبنى على القاعدة مقتضاها، لا الإنساني وحسب وإنما السياسي أيضاً، وعلى الأخص توصيف أعمال النظام السوري كأعمال تطهير شاملة ومتكاملة غايتها إفراغ البلاد من “نوعية” محددة من السكان. التعامل مع النازحين كهاربين فقط من “العنف” أمر لا يخلو من النزاهة فقط، إنه يتغاضى عن عمليات الحصار والتجويع، وكل أنواع العقاب الجماعي التي تؤدي إلى الكارثة.

أيضاً، التعاطي مع مشكلة النزوح بـ”التقسيط” يمنع عملياً تكوين رؤية شاملة لسلوك النظام الممنهج على هذا الصعيد. فقد سبق مثلاً لمنظمات دولية الإشارة إلى مأساة آلاف الأطفال الذين يعانون بسبب عدم تسجيلهم في دوائر “الأحوال الشخصية” السورية، وسبق لمنظمات أخرى أن أشارت إلى مأساة حاملي جوازات السفر المنتهية الصلاحية مع إصرار النظام على عدم تجديدها، ولا ننسى تدمير السجلات العقارية إثر اقتحام بعض المناطق للتخلص من سندات الملكية الأصلية. ولو ذكرنا جميع الانتهاكات التي يرتكبها النظام يومياً فسنحظى بسجل واضح من العقوبات الجماعية التي تستهدف المدنيين، والتي لها طابع “صامت” من حيث أنها تمر بلا انتباه في الوقت الذي ينصرف فيه الأخير إلى متابعة الحرب الصاخبة. الحرب الصامتة هذه تكمل بدأب شقيقتها لنكون أمام خطة متكاملة لأضخم ترانسفير يشهده العصر الحديث، بل تتواضع أمامها عمليات الترانسفير التي ارتكبتها المنظمات الصهيونية، بعد أن تواضعت الأخيرة في المقارنات التي تخص أرقام المجازر والإبادة أيضاً.

في كل دائرة “مدنية” سورية هناك مفرزة مخابرات، مهمتها التدقيق في هوية المراجعين والقبض على المطلوبين منهم، والتضييق على أهاليهم بعدم منحهم الوثائق الضرورية. التوكيلات القانونية الصحيحة تماماً لم تعد مقبولة في هذه الدوائر بغية إجبار مئات آلاف المطلوبين على تسليم أنفسهم، أو إجبار الملايين من ذويهم على التخلي عن حقهم في الوثائق. ذلك عدا الإجراءات غير المباشرة التي تدفع إلى الهجرة، ومنها مثلاً طلب عشرات آلاف الشبان لتأدية الخدمة الاحتياطية في مناطق يسيطر عليها النظام، ولا تعدّ من مناطق موالاته، حيث يعمد أولئك الشبان إلى الهرب خارج البلاد بدون وثائق سفر نظامية، ويؤدي هروبهم إلى مزيد من التدهور الاقتصادي لأنهم القوة العاملة النشطة، ومن ثم إلى مزيد من النزوح للأهالي عموماً. ذلك فيما عدا إقامة مناطق فصل خدمية، حيث يجري التضييق على سكان مدن ومناطق بأكملها وحرمانها من الخدمات العامة لخدمة المخطط المذكور، أي أننا في المحصلة أمام مجموعة مدروسة من الإجراءات لا محل فيها للإعتباطية أو المصادفة، والنظام ماضٍ بها تحت أعين العالم كله من أجل تجريد السوريين قانونياً من سوريتهم وقطع الطريق نهائياً على إمكانية عودتهم.

ما يتعرض له السوريون اليوم هو الهولوكست الثالث خلال المئة عام الأخيرة. وإذا كان النصف الأول من القرن الماضي قد شهد الهولوكست الأرمني واليهودي، فربما تكون تجربة المحرقة اليهودية هي ما يجب أن يتعلم منه السوريون للدفاع عن قضيتهم. لقد وصف منشد حزب الله أعداء حزبه في سوريا باليهود، وكم سيكون جيداً إذا أصبحوا يهوداً، بمعنى أن يمتلكوا القدرة على دفع العالم ليتحمل مسؤولياته إزاءهم، وإرغام “الضمير” العالمي على الإحساس بالذنب جراء سكوته على الهولوكست الحالي. إذا كان العالم يبشّر بحرب قد تمتد عقوداً، فذلك يعني ملايين من النازحين السوريين الذين سيفقدون الأساس القانوني لمواطنتهم، وقد لا يتبقى لهم سوى السعي لإيجاد الأساس القانوني الدولي للاعتراف بمحرقتهم. ربما يكون هذا التشبيه صادماً للبعض، لكن ما هو صادم أكثر أن مجازر الأرمن التي راح ضحيتها ما يزيد على المليون شخص تحظى بالاعتراف الرسمي لحوالي عشرين دولة فقط، بينما يكاد الغرب كله يجرّم من يشكك في الأرقام المعتمدة لضحايا المحرقة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى