خلود الزغيرصفحات مميزة

السوريون الصامتون ضحايا ‘الأخطاء الفرديّة’ من الطرفين


خلود الزغير

في سورية اليوم حقيقتان منفصلتان تقفان كصخرتين صلبتين، لكلٍّ منهما واقعها، شخوصها، دلائلها وشهودها.. وبين الواحدة والثانية يغرقُ سوريون كُثر في بحرٍ من الأسئلة والشائعات والصور والشاشات الدامية، الغاضبة والصارخة. قلّة هم من فكّروا برمي جسر لهم أو قارب نجاة ينقذهم من هذا التخبط طوال عشرة أشهر، الجميعُ من الجهتين مشغولٌ بدمهِ .. بحزنه.. وبحربه مع الآخر.

كلا الطرفان يحاولان منذ أشهر القفز عن هذه الإشكالية دون مواجهتها.

أي: لماذا يعجز النظام عن كسب هؤلاء الصامتين والمترددين ليكونوا ‘منحبكجية’ بالمعنى الحقيقي للكلمة. أي أن يملكوا الاستعداد للانخراط في فرق التشبيح والقتل والسرقة والإرهاب ويكونوا مخبرين له، وأن يعبّروا عن حبهم وولائهم في وسائل الإعلام المحلي بالتملّق المطلوب؟ وبأن لا يكتفوا بالخروج مجبرين في المسيرات التأييدية فقط بل أن يرقصوا ويغنوا؟

بالمقابل، لماذا تعجز الثورة و المعارضين تحديداً عن تحريك هذا الشارع السوري الصامت والمتردد، وتشجيعه على المشاركة بالثورة عن طريق التظاهر أو بالحد الأدنى المشاركة بالإضراب أو التبرعات؟

يبدو أن إشكالية هذه الشريحة من السوريين أو من يطلق عليهم صفة ‘الصامتون والمترددون’ هي إشكالية صمتها وترددها تجاه ال’خطاب’ المقدم لها. وبشكل أكثر دقة ضياعهم بين خطابين يُصفعان بهما لحظيّاً دون جذب أو إقناع. الأول عاطفي أخلاقي إنساني هو خطاب الثورة وشهدائها ونبض شعبها واستحقاقاته السياسية والاقتصادية والانسانية، بينما نخبته المعارضة بصراعاتها واختلافاتها وشعاراتها تزيد تخوفهم من المستقبل. والثاني واقعي من حيث ميزان القوى، آمن ومستقر هو خطاب النظام لكنه يوجع الضمير.

لم يكن غريباً أبداً افتقاد النظام لثقافة الوعي بالآخر وحواره، وغباء آلته الإعلامية، فهذا أمر معروف من أربعين سنة، ولأجله قامت الثورة. لكن الغريب هو افتقاد (بعض) تيارات المعارضة لهذه الثقافة وممارستها الإقصاء والتخوين والاستفراد على رفاقها في المعارضة أيضاً. لذلك كان من نتائج افتقادهم هذه الثقافة عجزهم عن استقطاب الشارع الوسطي المتردد في سورية قبل أن يفكروا أصلاً بالشارع المؤيد.

فكما أن إعلام النظام ومخابراته وأجهزته الأمنية يتصرفون بقناعة ساذجة أن كل السوريين يحبون رئيسهم بشار وعلى استعداد لافتدائه بالروح والدم ويقعون بمفاجأة كلما سمعوا منتقداً أو معارضاً لسيّدهم فيخونونه ويتوعّدونه. للأسف (البعض) في المعارضة اتبع ذات الثقـــافة وذات الخطاب تجاه الآخر ‘السوري’، وسار بالثورة اعتماداً على هذا المنطق. موجهاً خطابه للشعب السوري معتبراً أن كل السوريين مع الثورة وضد بشار الأسد، غير مكترث بالمؤيدين ‘الخونة’ ومتجاهلاً الفئة ‘الصامتة والمترددة’ دون إعمال التفكير والجهد بكيفية استقطابها.

هنا يطرح سؤال لهؤلاء إذا كنتم تقومون بثورة لأجل سورية جديدة دولة مدنية تعددية ديمقراطية تكون بديلاً لدولة الاستبداد، إذاً ستكونون جزءاً من حكومة لكل السوريين، أي الثائرون والمؤيدون والصامتون. هذا يعني أنه يتوجب عليكم تقديم خطاب يحاكي آمال وطموحات الجميع ويلفت نظرهم ككل وليس كجزء. لا أودّ أن يفهم من كلامي أبداً تقديم خطاب وسطي مُراوغ كما فعلت بعض هيئات المعارضة، لكن المقصود طرح خطاب كاريزمي يليق بتضحيات الشعب الثائر أولاً، يفضح فساد وإجرام النظام واستغلاله واستبداده لكن بدون لغة سوقيّة واتهامات غير موثّقة وتخوين دون دلائل أو لغة استفزازية طائفية، بل بلغة سياسية بنائية تحاكي المواطن بدل ابن الطائفة وتقدم البديل لسورية المستقبل بوضوح. سورية الدولة التي تغري كل سوري كي ينزل للشارع ويضحي لأجل مستقبل أولاده. لكن بنفس الوقت تطرح خطاباً ‘ممكناً’ دون مبالغات في الوعود والمواعيد بل بواقعية وصدق وأمانة.

هذا الكلام لا يعني التعميم أبداً على كل من في المعارضة وينشط بالثورة، فقد كان الشعب المنتفض سبّاقاً بتوجيه خطاب جامع وشعبي بوسائله البسيطة وأبطاله الشعبيين في الأحياء والقرى وعبر لافتاته وشعاراته، قام به أيضاً شباب التنسيقيات اللذين يمثلون النخب الشبابية الفاعلة على الأرض أولئك الأبطال الذين قادوا المظاهرات ونظموها وضبطوا هتافاتها وصوّرا القمع واعتقلوا واستشهدوا غالباً تحت التعذيب. لا ننسى أيضاً دور شباب الحراك المدني وحملاتهم ضد العنف والطائفية وحملات الإغاثة وشباب الفيسبوك وحملاتهم الإلكترونية وأهمية حشدهم للثورة. كما قدم الكثير من المثقفين والكتاب السوريين مقالات مضيئة في أرشيف الثورة، كذلك التيارات المعارضة التي قدمت بيانات ورؤى بهذا السياق كأحزاب أو كأفراد. لكن كل ذلك لا يمنعنا من نقد الأخطاء التي بدرت من تيارات أخرى احتلت وسائل الإعلام وقادت الشارع المنتفض.

إذاً عدنا للسؤال الأساسي لماذا عجز كل من النظام والمعارضة عن استقطاب الشارع الصامت والمتردد لجهته؟ سيكون الجواب بسيطاً جداً بالنسبة للنظام لأنه بإيديولوجيته وتركيبته الفكرية وإعلامه لم يمتلك يوماً ثقافه الوعي بالآخر أوحواره ولم يقبله إلاّ تابعاً له وموالياً ومصفقاً.

لكن بالنسية للثورة ومعارضتها، علينا الاعتراف ببعض الأخطاء التي ارتكبت وتصحيحها ولو بعد عشرة أشهر. أولها: حين بدأ قسم من المعارضة يطرح حل التدخل الخارجي والحظر الجوي على الطريقة الليبية كحل جذري وسريع لإنهاء النظام منذ الأشهر الأولى للثورة. طبعاً لا يُلام المتظاهر حين ينادي بهذا الشعار لينهي مأساته وموته اليومي. لكن يُلام من يعتبر نفسه قيادياً وسياسياً ولا يقدر شعور باقي السوريين تجاه التدخل الأجنبي، ويُلام حين يبيع الشعب أوهاماً وأكاذيب عن قرب التدخل وإمكانياته دون وعود حقيقية من هذه الدول. يُلام حين لا يُعلم المتظاهرين والشعب، الذي يرفع شعار التدخل، كم شهراً أو سنة سيحتاج التدخل الخارجي لينهي حربه مع الطيران السوري وصواريخه ومضاداته، ليتمكن بعدها من فرض حظر طيران على سماء سورية، هذا طبعاً إذا لم تتدخل أي دولة إقليمية. يُلام عندما لا يشرح تبعات وتفاصيل التدخل من دمار مادي وانساني ليكون المواطن السوري على دراية بما هو مقبل عليه؟ ويُلام أيضاً حين يتجاهل الحساسية السورية، المرضية أحياناً، تجاه الغرب وتدخلاته ورفضه القاطع لها؟

هذا الخطاب الموجّه لاستجرار مساعدة الغرب العسكرية منذ بداية الثورة كان سبباً بتحييد هؤلاء المترددين عن الانخراط بالثورة، ليتساءلوا هل هذه الثورة التي ستحررني بيد الغرب ثورة شعبية؟

ثانياً: تسميات أيام الجمع. تعتبر أحد أهم أسباب ردع الشارع السوري عن الانخراط بالثورة لما تعطيه من انطباعات وما تفرضه من استبداد بالرأي. فبعد عشرة أشهر عجزت عن اختيار تسمية مدنية تحاكي المجتمع السوري ككل، تسمية ترتبط بشعارات الثورة وأهدافها (دولة مدنية ديمقراطية تعددية، دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية) تسمية تلتفت لإحدى أزماتنا الإقتصادية مثلاً أو الحقوقية الإنسانية كوننا نقوم بثورة الحرية والكرامة. إنما ينظر مطلقي هذه التسميات للمجتمع ويحاكونه كفئات وجماعات على طريقة النظام تماماً (عشائر، أكراد، صالح العلي’للعلويين’، الجمعة العظيمة ‘للمسيحيين’، جمل ودعوات قرآنية ‘للمسلمين’…الخ). الكارثة الثانية بالتسميات هو أسلمتها بطريقة فاضحة، وبشكل يوحي بأسلمة الثورة ويحيلها للثنائية الاتهامية التي يسعى النظام ليحشرها بها منذ البداية وهي تمرد إسلامي سلفي رجعي على الدولة المدنية العلمانية ‘العلوية’. متناسين بنية المجتمع السوري وتنوعه ومشاركته بالثورة، مؤكدين على بروبغندا النظام التي تتهم هذه الثورة بخلفيتها الاخوانية والسلفية! مشكلة ثالثة للتسميات ضربت الثورة هو تصعيد الشعارات وتوجيهها نحو الخارج وليس الداخل، وكأن شعار يوم الجمعة هو دعوة للولايات المتحدة وأوروبا ليخرجوا ويشاركوا هم بالثورة وليست التسمية للشارع السوري لتعطيه عنواناً سياسياً شعبياً يمثل التطورات والمنعطفات التي تسم حراكه في هذه المرحلة وتدفعه للمتابعة. حيث كانت جمعة الحماية الدولية أول اتهام للثورة وتبعتها جمعة الحظر الجوي وبعدها التدويل. أسماء ليست تليق بشباب الثورة وروحه الثائر لما فيها من استجداء واستعطاف وتوسل لمساعدة ليست ببال الآخر ‘الغرب’ حالياً، بل ناتجة عن مزاودات بعض المعارضين وأوهامهم. كان نتيجتها عدم استجابة الغرب وابتعاد باقي الشارع السوري عنهم.

لو تمكن القائمون على تسمية أيام الجمع من قراءة الواقع الاجتماعي- السياسي لبنية مجتمعهم وعرفوا مفاتيح شعبهم العظيم لكنا رأينا اليوم شيئاً مختلفاً وأكثر غنىً وفاعلية. إن ما ينقص هؤلاء هو النظر للآخر وللثورة بعين الآخر وليس بعين الذات.

لو أطلق قياديو الأحزاب ومعارضو الداخل والخارج على السواء ‘فتوى’ سياسية بعدم تخوين بعضهم، وقدموا مثالاً يحتذى به في النقاش والنقد والحوار وتقبل الآخر، لو كثّفوا خطابهم للداخل لاستنهاض الهمم وتسليط الضوء على عشرات الأسباب التي تدفع السوريين للثورة وقدموا البدائل لهم ولواقعهم المغتصب سياسياً واقتصادياً وحقوقياً لكان حجم ونوع الشارع المنتفض الآن مختلفاً وأكثر تجانساً على الأرض.

لو قدّم ‘رجال الدين’ الذين يتصدرون قنوات معينة اليوم أمثلة عن التسامح وقبول الآخر، وحرّموا الدم السوري والطائفية، وأكدوا على العدالة والحرية والكرامة بلغة دينية عقلانية حكيمة، لغة تدين القتل دون انتقام وتطالب بالمحاكمة في ظل القانون دون ترهيب وتقطيع وتكفير. لما رأينا بعض ‘الشيوخ’ اليوم فزاعات لترهيب السوريين من مستقبل الثورة بينما يغيب شيوخ غيرهم يناضلون بالداخل.

لو توقف البعض عن إعطاء الآمال والوعود والمزاودات للناس التي تموت بأن الغرب قادم بين يومٍ وليلة بالشكل الذي يُظهر أن جيوش العالم تحت سلطتهم وطلبهم بالتدخل. لما انعدمت الثقة بهم والتخوف منهم.

كثيرة هي الأخطـــــاء التي يتوجب تداركـــها ولو متأخراً للّحاق بالشارع الثائر والماضي حتى إسقاط النظام، يبدو أهمها الالتفاف للحشد الداخلي وكسب باقي الفئات عبر خطاب ثوري كاريزمي جديد يقود ما تبعثر مؤخراً وسابقاً تحت مظلة جامعة، أول ما يفعله هو وقف تحارب المعارضات التي تقدم مادة إعلامية دسمة لإعلام النظام ليشكك بوطنية المعارضة والثورة. أخيراً الطلب من كل من يتكلم باسم الثورة معارضاً كان أو ثائراً أو فناناً أو مثقفاً أو ناشطاً أن يأخذ بعين الاعتبار في خطابه المكتوب أو المرئي أو المسموع أن الثورة السورية هي لأجل سورية كوطن، كشعب، كمجتمع وكدولة. أي أن خطابه ليس مقتصراً على مؤيديه وأتباعه وجماعته. خطاب الثورة هو خطاب سورية المستقبل سورية الجديدة لذلك على هذا الخطاب أن يتميّز عن خطاب النظام كليّاً لنشعر نحن قبل الآخر بالتغيير وأن يغري سامعه بالالتفات إليه.

الشعب السوري الخلاق لن يعجــــز عن اكتشاف أسرار ومفاتيح قلوب وعقول وضمائر باقي السوريين المترددين والصامتين حتى الآن. الجمعة الماضية كان حوالي ستة ملايين سوري يكتبون تاريخاً جديداً للبلد، إذاً مشاركة عدة ملايين أخرى ربما تحسم الكثير على الأرض بدل انتظار هدايا الغرب من السماء.

‘ باحثة في جامعة السوربون الجديدة باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أوافق الكاتبة تماما من وجهة نظر وطنية مثالية ولكن أحيل سبب ذلك الى أربعة عقود قام بها النظام بتقطبع أوصال المجتمع المدني طبقبا و مناطقيا و طائفيا و أقتصاديا و ألغى المشروع الوطني السوري و دمر الطبقة الوسطى قهرا و تهميشا و تهجيرا .
    يا سيدتي هذه المعارضة هي نتاج فعل النظام خلال تلك العقود الأربعة البائسة . وليس بالأمكان أفضل مما كان .
    أما لماذا لا تنضم الكتلة الصامتة للثورة فأعتقد أن السبب المذكور يؤثر حتما ولكن السبب الأكبر هو الخوف من بطش النظام المرعب والذي يعرفه كل أبناء تلك الكتلة حيث عاشوا على حافة ذلك الرعب خلال تلك العقود … والا فلماذا يقمع النظام مظاهرة حتى لو كانت من بضعة عشرات ……

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى