سوسن جميل حسنصفحات الناس

السوريون… الموت غرقاً/ سوسن جميل حسن

 

 

عدّاد الموت السوري تحديداً، والعربي عموماً، يتنوّع. منذ الشهور الأولى لانطلاق انتفاضة الشعب السوري، صارت لازمة نشرات الأخبار على مختلف الشاشات الكثيرة “بلغت حصيلة القتلى في سورية”. ومع تقدم الحرب، وازدياد العنف وارتفاع عدد الضحايا، تحوّل المواطن السوري إلى رقم، سقطت عنه رتبة الإنسان، التي أصلاً انتفض لأجل استردادها من الأنظمة التي حوّلته إلى كائن ينتمي إلى قطيع، وتحوّل إلى رقم في كل المجالات. رقم مستهدف من جبابرة الحرب، يصطادونه، ويلعبون به لعبة الموت بأدوات القتل المتنوعة، جملة وتفريقاً. حتى صار اختيار الموت غاية بحد ذاتها عند شعب يطارده الموت الإجباري، في صحوه ونومه، فكيف لجذوة من كرامة ألاّ تتوهج وتدفعه لأن يختار موته؟ هل من يموتون في عرض البحار ويصبحون طعاماً لأسماكه، بعد أن تاجر بهم سماسرة الأقدار والمصائر، لا يدركون مصيرهم؟ وهل لم يسمعوا أو يشاهدوا من سبقهم في رحلات الهجرة المسكونة بأحلام الاحتضار، ونشوة اللحظات الأخيرة؟ كلهم سمعوا وكلهم رأوا وشاهدوا بأم أعينهم وبصائرهم، وجميعهم يعرفون أن مراكب التهريب ليست أكثر من رحلة بحرية أخيرة إلى قيعان العدم والظلام. لكنهم يرحلون، وهل لديهم، وهم المحكومون بالعدم،

أن يختاروا سوى طريقة موتهم التي يتمسكون بها على أنها الخيار الوحيد المتوفر لاستقلال الإرادة؟

متى انتبه العالم إلى استغاثة الشعب السوري؟ ها هم قادته، أو على الأقل قادة الكبار يلتئم شملهم، مرة أخرى، لدرس مشكلة اللاجئين، طالبي الموت، ووضع الحلول لها وفق رؤاهم ومصالحهم، يوجّهون دفة الحلول نحو الخيار العسكري في الدرجة الأولى. هي تجارة رابحة على المدى القريب ومن منظور بعيد، الساحة العربية ميدان خصب لتجارة السلاح ومسرح نشيط وفعّال لإزهار ما تزرعه الحرب واستثمار ما تخلفه من دمار تحتاج بعده الأوطان إلى إعادة إعمار، وانهيارات مجتمعية، تخلّف وراءها شعوباً منهكة مشلولة، عاجزة عن التفكير السليم وغير قادرة على ابتداع طرق إدارة حياتها. وبالتالي، من السهل السيطرة عليها بعد إضعافها حدّ التناحر الدائم الذي يجرّ خلفه طرق الوصاية الشرعية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

لدى القادة الكبار مطامعهم ومطامحهم، ولم يكونوا نزيهين في يوم مضى من التورط فيما نحن، شعوب هذه المنطقة، عليه اليوم، ولن يكونوا كذلك. فمشكلة المهاجرين غير الشرعيين ليست وليدة اليوم، هي نشاط يقوم به اليائسون من إمكانية العيش في بلادهم والباحثون عن أمل في تحقيق حلم ما أو طموح ما، منذ زمن بعيد، كان يمكن لهذه الدول التي تدّعي تضررها، كما ادّعت الخوف من المقاتلين العائدين من الحرب في سورية، أن تضع لها حلولاً وضوابط في ظروف أكثر ملاءمة لوضع حلول واستراتيجيات وتطبيقها. أما أن تبقى تلك الدول وقادتها متفرجين، ظاهرياً، على محنة تلك الشعوب وعلى حمّام الدم الفوّار فيها، وعلى الدمار والقتل بكل أشكاله، وهي في الواقع ليست بعيدة عن التورط في هذا الوضع، ثم تنتظر، حتى الرمق الأخير بالنسبة إلى أولئك العزّل الملاحقين بالموت، اللائذين بالبحار وجبروتها والمرتهنين لإرادة تجار الأزمات والمقادير والمصائر، لتأتي بعدها وتتداول القضية بشكل إسعافي، نظراً لما تؤثر به على مجتمعاتها، ثم تدفع التدارس باتجاه الحلول العسكرية، أي مزيد من القتل والتهجير، ومزيد من الإرباك وإضرام النيران في البلدان التي يتم الهروب عن طريق شواطئها، فهذا موقف يدعو إلى

التفكّر واستبعاد النوايا الطيبة، فالاتحاد الأوروبي وقادته “سيمارسون ضغوطاً على الأطراف الليبية للوصول إلى اتفاق سياسي، هذا الاتفاق يمكنه تسهيل إطلاق العملية العسكرية لكونها تحتاج تفويضاً لتشريعها، إما بطلب من السلطة الشرعية في ليبيا، أو بقرار من مجلس الأمن، ليس مضموناً بسبب التردد والحذر الروسي” هذا كما تردد على لسان بعض المسؤولين الأوروبيين. فأين كانوا من الحرب الدائرة في ليبيا إلى اليوم؟ ولماذا لم يمارسوا هذا الضغط للوصول إلى عملية سياسية، يتفق خلالها الليبيون، ويضعون حداً لحربهم وأزمة بلادهم، ويمشون في طريق بناء دولتهم؟ وهل تحتاج مشكلة اللاجئين إلى أضخم أسطول ملكي بريطاني، تبرع وزير خارجيته بإرسال أهم بوارجه، مع مروحيات وسفن دوريات إلى البحر المتوسط “لإنقاذ الأرواح” كما صرّح كاميرون؟

“الديمقراطية والدولة الحديثة فكرة ترعب الغرب، على ما يبدو، بالنسبة إلى مجتمعاتنا وشعوبنا، فهي خطوات في طريق الاستقرار والتحرر من التبعية”

لم يكترث العالم بموتنا، ولا يكترث حتى اليوم، هم ما زالوا يتفاوضون على أرضنا بدمائنا ومصائرنا، لم ينتهوا إلى اليوم إلى حلّ مشكلاتهم العالقة على موائد التفاوض التي يتقاسمون فيها حصصهم، ويضمنون مصالحهم، ولن يكون الأمل كبيراً في أن يكون لنا قيمة اعتبارية في النتائج النهائية لمفاوضاتهم، وليس من مصلحة الدول الكبيرة المستبدة بالسياسة العالمية أن تقوم لنا قائمة، ولا أن يكون هناك إزهار لأحلامنا في دولة حديثة مدنيةٍ، تقوم على المواطنة، وتحترم مبادئ الديمقراطية والعدالة وسيادة القانون.

ليس ماضي الانتفاضة السورية بعيداً، وليست التظاهرة السلمية التي ضمت ما يقارب نصف مليون في مدينة حماة، بعد أشهر من الحراك السوري، والتي زارها السفير الأميركي، غير دليل على رفض الغرب أن يكون هناك بوادر من هذا القبيل، والأدلة كثيرة وعديدة، أهمها النفاق الأميركي والتلاعب بالمواقف والتصريحات. العالم المستبد لا يريد لشعوبنا أن تقوم لها قائمة، بل هو ينحو نحو قذفنا إلى الخلف، إلى رمينا في متاهات التاريخ، وحمولته المريضة المثقلة بأسباب الخلاف والشقاق. ها هو الحلم بوطن ديمقراطي يتحول، بسبب الحرب المدفوعة بإرادة محلية وإقليمية ودولية، إلى واقع مثقل بالفتن والثأرية والضغينة المذهبية والدينية. الديمقراطية والدولة الحديثة فكرة ترعب الغرب، على ما يبدو، بالنسبة إلى مجتمعاتنا وشعوبنا، فهي خطوات في طريق الاستقرار والتحرر من التبعية، وهذا يجرح أحلامهم في استغلالنا. آن لنا، نحن السوريين، أن نقتنع أن قرارنا يجب أن ينطلق من سوريّتنا، وأن نجتمع على أسس البناء للمستقبل الذي يشارك في صناعته كل السوريين، وإلاّ ليس الموت غرقاً آخر حلم للسوريين، سيكون هناك مركب جامع، يغرق في بحر الموت، مركب اسمه سورية.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى