صفحات سورية

السوريون بين إعلامين

 

ثائر الزعزوع ()

مرت سنتان، والثالثة بدأت، تغيّر المشهد كثيراً، منذ الخامس عشر أو الثامن عشر من آذار/مارس عام 2011 أي منذ اندلعت الشرارة الأولى للثورة، بروايتها التي بات يعرفها الجميع، حكاية أطفال درعا الذين عذبهم ضابط الأمن الذي تربطه صلة قرابة بالأسد، تحوّلت أيام الجُمع بعدها إلى أيام تظاهرات، ولم تسلم جمعة منذ جمعة الكرامة من تسمية حُمِّلتها، وبات السوريون يترقبون ما سيكون عليه اسم الجمعة المقبلة، حتى يُعدّوا العدة لاستقبالها، وبدا أنهم انقسموا منذ الأيام الأولى للثورة بين مؤيد لها، ومعارض… وتوزّعت رؤاهم وأفكارهم، فصارت سوريا بلدين، لكل واحد منهم تطلّعاته، وأفكاره، وإعلامه أيضاً.

الشارع المؤيد لم يُتعب نفسه كثيراً في البحث، فاختار أن يضع في اللائحة المفضّلة على جهاز تحكّمه، القنوات التي تعبّر عن وجهة نظره، وتمثّلت في التلفزيون الحكومي وقناتي الدنيا والإخبارية، وبعض القنوات اللبنانية، والإيرانية، وبالطبع، قناة روسيا اليوم.

وأما الشارع المعارض، فقد رتب قنواته لتضم الجزيرة والعربية وفرانس 24 ثم قناة المستقبل اللبنانية، وبعدها بي بي سي، وأل بي سي، وبشكل أقل قناة الجديد، التي لم يكن قد تبيّن توجّهها بعد، وقد ضمّت قائمة المعارضين أيضاً قناة أواثنتين من القنوات السورية المعارضة، التي التحقت بركب الثورة.

ومع مرور الأيام، ظهر تشدّد غير طبيعي لدى كلا الطرفين تجاه ماذا يرى الطرف الآخر، ونشأت حرب شبه معلنة بينهما على تكذيب كل ما يراه الطرف الآخر، فلم يعد مستغرباً أن يتعرّض المرء للّوم من أحد أصادقائه، وربما أخوته، إن كان يتابع قناة يعتقد هو بأنها شريكة في المؤامرة على الشعب السوري، في ما بعد ستظهر مفردة المؤامرة بكثرة، وستميز الحالة السورية لدى كلا الطرفين.

وباستمرار الثورة، ووصولها إلى السنة تقريباً، برزت قنوات خاصة للثورة، قنوات أنشئت لتبنّي الثورة، ورفعت علم الثورة في فترة بثّها التجريبي، وغنّت للثوار، ولعل ما ميّزها هو أنها حملت تسمية سوريا كذا، أي سوريا الغد، وسوريا الشعب، وبعد ذلك ستظهر سوريا الكرامة، وهذه القنوات اعتبرت نفسها معبّرة عن رأي الشعب السوري الثائر، وأنها جاءت لتكون مغايرة للإعلام الحكومي المتخلّف، الذي ينتمي لإعلام القرون الوسطى، والتشبيه هنا مستمد من إحدى المقدمات لواحدة من هذه القنوات، التي شكلت مع قناة الأورينت جبهة العمل الإعلامي ضد ترسانة النظام الإعلامية، فعمدت إلى “تكذيب” ادعاءاته، و”توضيح الحقيقة” ودعم الثوار في نضالهم، فحاربت النظام بأدواته نفسها، ومفرداته أيضاً، وإن كانت من حيث الصورة البصرية أقل احترافية من إعلام النظام، بل وهي تفتقر إلى المواد المصوّرة عالية الجودة، ما جعل صورتها أقل قدرة على الإقناع. واللافت أن تلك القنوات اعتمدت على كوادر من العاملين السابقين في إعلام النظام، الذين قرروا الانشقاق، والتحول إلى الطرف الآخر، وكان حالهم كحال الجنود المنشقين، ثائرين لكنهم في غالب الأحيان غير قادرين على إعطاء أكثر مما تعلموه في مدرسة إعلام النظام. من حيث رتابة الأفكار، وعدم القدرة على المغامرة، والإتيان بما هو جديد في عالم التلفزيون.

وتشابه البث بين المؤيد والمعارض، أغانٍ حماسية، هذه تشجع قوات النظام، وهذه تتغنى بالجيش السوري الحر، وبرامج حوارية، ونشرات إخبارية تضع المهنية جانباً في الكثير من الأحيان لتتحول إلى وصلات من القصائد والأغاني، كما تفعل قناة الدنيا، بل وحتى التلفزيون السوري، وأما قناة الإخبارية السورية فإنها تحلّق خارج السرب الإعلامي معتمدة على وصلات متقطعة من التقارير التي تم تصميم مقدمات لها، ليظهر كل تقرير كياناً خاصاً بذاته، طبعاً ولا تخلو تلك التقارير من وجدانيات، وموسيقى مصاحبة، واللافت للنظر أن وضع المهنية جانباً لم يقتصر فقط على النصوص التي تكتب والتي تميل إلى استخدام ما هو متاح في اللغة العربية واللهجات العامية، بل إن عملية تقطيع الصور ومونتاجها تنحو منحاً استعراضياً، وكأن منفّذه يريد من خلاله إثبات قدرته على استخدام برامج المونتاج بكافة مؤثراتها، من حركات بطيئة إلى حركات سريعة إلى زخرفات تظهر على الشاشة وتغيب فجأة من دون أي مبرر لوضعها، والحقيقة، أن ما تقدمه الإخبارية السورية تحت عنوان “الأخبار السريعة” قد يكون المادة الوحيدة التي تحمل بعداً إخبارياً، أو التي تراعى فيها أوّليّات العمل الإخباري الخالي من الديباجات التي تبعث على الضحك في الكثير من الأحيان.

ولعل التمحيص والتدقيق في مجمل التقارير والأخبار التي تعرض سواء على إعلام النظام أم على الإعلام المعارض، يقود إلى نتائج لا يمكن القول إنها مخيبة للآمال فحسب، بل وصادمة في المجمل، فالاعتماد على التهويل والمبالغة، والذهاب إلى أبعد ما يمكن الذهاب إليه في إثبات أحقية وصدقية ما يبثه كلا الإعلامين، جعل من الصعب بل من المستحيل على المتابع الحيادي، أي من خارج المعادلة السورية، معرفة الحقيقة، ولا حتى بأضعف الإيمان معرفة جزء يسير منها.

بل إن القنوات التلفزيونية المحترفة باتت في الكثير من الأحيان نهباً لبث الأخبار، وفقاً للتهويل الذي تتلقاه من الداخل، والذي يريد شيطنة النظام بأي شكل من الأشكال، ولعل حادثة قصف فرن الخبز في مدينة حلفايا بريف حماة خير دليل يمكن الاستشهاد به، فقد أوردت إحدى القنوات خبراً عاجلاً يفيد أن مئتي قتيل قد سقطوا جراء قيام قوات النظام بقصف الفرن، وتناهبت قنوات المعارضة الخبر على علاّته، ونقلته، مئتا شهيد في حلفايا، ومع استمرار المتابعة تبين أن من سقطوا في حادثة قصف المخبز هم قرابة الستين شهيداً، وهو رقم كبير ولا يستهان به، لكن الرغبة في تهويل الحدث قادت ناقله إلى إطلاق رقم أولي، تحوّل عبر الشاشات إلى حقيقة، وصار من الصعب التراجع عنه، والطريف، بل لعل المؤلم في الأمر، أنه وفي اليوم التالي للحادثة، تم تصحيح الخبر ليقال سقوط أكثر من ستين قتيلاً/شهيداً في قصف لقوات النظام… كذا، من دون أن يتم التنويه إلى الخطأ الفادح الذي ذيع فور ورود الخبر.

وأما إعلام النظام فإنه لم يتطرّق لذكر مدينة حلفايا لا بنفي ولا بتأكيد، ولم يكلّف نفسه عناء تكذيب الخبر كما حدث في مرات سابقة، حتى إنه لم يتّهم من يسميهم بالعصابات الإرهابية المسلحة في قتل المدنيين، تحقيقاً لأجندة خارجية إلى آخره.

يضيع الدم السوري هكذا، بينما لا يستطيع إعلام النظام ولا إعلام المعارضة الارتقاء بأدائه من أجل الوصول إلى نقطة تلاقٍ تكون كفيلة بالحد من هذا النزيف المتواصل، بل إن التصعيد والشحن من كلا الطرفين على أشده، ويبلغ ذروته في بعض الأحيان ليتحوّل إلى نوع من الإعلام العنيف، والحال ينطبق أكثر على إعلام النظام الذي يكثر من تحريض “جيش الوطن” على قتل أبناء الوطن، فيتحوّل الأمر إلى نوع من التراجيديا اللاأخلاقية، التي يديرها النظام باستهانة وبتعمد، وصولاً إلى تحليل فعل القتل، بل وجعله أقرب إلى النتيجة التي لا بد منها، من أجل القضاء على المؤامرة، ولعل تعمّد التلفزيون الحكومي والقنوات الأخرى استضافة “أشخاص” مثل خالد العبود العضو في مجلس الشعب، والذي يكثر من استخدام مفردة القتل ومرادفاتها في أثناء حديثه يجعل من الصعب التصديق أن لدى النظام أية رغبة في الوصول إلى حل للأزمة، بل إنه يسعى إلى حسمها على طريقته، وأي حديث عن حوار أو تفاوض ليس سوى ذر للرماد في العيون.

وبالعودة إلى إعلام المعارضة، الذي وبعد أن حدد وجهته في الوقوف إلى جانب الشعب الثائر، وجد نفسه مغلوباً على أمره في أي الخيارات ينبغي عليه الدعوة لها، وخاصة بعد الازدحام الهائل في المواقف السياسية، والتناقضات اللامنطقية التي تميز مواقف السياسيين متصدري المشهد المعارض، فلم يعد كافياً، من وجهة نظر القائمين على هذا الإعلام، نقل ما يصدر عن هذا التيار أو ذاك، ولا نقل التصريحات، لأن الموضوع يمسّ سوريا الوطن والشعب والخارطة، ولا يمسّ فلاناً من دون سواه، ولا يتعلق الأمر بزوال نظام بشار الأسد، بل يتعلق بالدولة بأسرها، بماضيها وحاضرها، وصورة مستقبلها، ولعل هذا التخبط إن صح قول ذلك هو ما جعل الإعلام المعارض يفقد بريقه في الكثير من الأحيان، ولا يستطيع تصدّر المشهد على اعتبار أنه قادر على نقل الإعلام السوري من كونه بوقاً للنظام وأداة في يده ليصير شريكاً في صناعة الوطن، وسلطة رابعة قادرة على إحداث التغيير المطلوب.

() كاتب سوري مقيم في مصر

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى