صفحات سوريةمصطفى كركوتي

السوريون عند حدّ السكّين والمجتمع الدولي… مستريح/ مصطفى كركوتي

 

 

مهما بدا المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا متحمساً، فالمشهد في سورية يزداد قتامة يوماً تلو الآخر. منذ رد فعل نظام بشار الأسد المتوحش على تظاهرات مدينة درعا السلمية في 2011 واتساع دائرة القتل لتشمل مدناً أخرى في الأشهر والأعوام التالية والتحاق تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) بهذه الدائرة، هناك عملية تجري على قدم وساق تهدد بتدمير سنوات التكوين الأولى لجيل كامل من الشباب السوري. وهذه الحال لا تقتصر على مناطق دوائر المواجهة في حقول القتل المنتشرة بغير تناسق في البلاد، بل تمتد إلى الجوار من مناطق يفترض أنها توفر اللجوء الآمن والتي بات العيش فيها يتصف بشراسة غير مسبوقة لا يجدها المرء إلا بين المُذِلِّ والمُذَلّ. والمرعب في الأمر الانعدام شبه التام لردود الفعل، بحسب مدير عمليات وكالة الأمم المتحدة للاجئين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أمين عوض، إذ قال في الأسبوع الفائت: «عندما نتحدث عن مليوني نازح خلال شهرين أو نصف مليون في ليلة واحدة، فإن العالم لا يتحرك قيد أنملة». وفي تقرير الوكالة يوجد الآن 7.2 مليون نازح في سورية (هناك تقدير آخر بتسعة ملايين) حوالى 3.5 مليون منهم لاجئون في دول الجوار (لبنان والأردن وتركيا والعراق).

إنها الجريمة الأكبر والأبشع منذ جرائم «تطهير» حاكم كمبوديا السابق بول بوت لشعبه من «آفات» العلم والفن والابتكار والحب وكل ما ليس بدائياً، وقتله حوالى ثلاثة ملايين منهم (من أصل ثمانية حينئذ) في فترة تاريخية (1975-1979) سادها الصمت العالمي أيضاً، وغُيٍّب الضمير الإنساني عنها ومنها.

تجوال دي ميستورا في مدينتي حلب وحمص أخيراً ولقاؤه المسؤولين في دمشق قد يُنعِش الأمل في نفوس هؤلاء بتمديد عمر النظام لفترة إضافية قد تطول أو تقصر، ولكنه لن يبدد حجم جرائمه على مدى عقود حكم أسرة الأسد الأربعة. فتصنيف الدولة السورية، أيضاً وفقاً لأرقام هيئات دولية، تراجع من مرتبة العالم الثاني في منتصف الستينات إلى مرتبة العالم الثالث بدءاً من أواخر السبعينات. يضاف إلى ذلك أن 75 في المئة من سكان سورية يعيشون في حالة الفقر و50 في المئة من إجمالي السكان يعيشون حالة الفقر المدقع الآن. كذلك فـ50 في المئة من أطفال سورية ليسوا في المدارس فيما معدلات البطالة بلغت رقماً قياسياً في العالم الثالث إذ تبلغ 54 في المئة، إضافة إلى أن معدل النزوح داخل البلاد يبلغ الآن 45 في المئة.

الروايات التي يسمعها المرء من أقرباء أو أصدقاء عن تفاصيل الحياة اليومية في مدن كحلب وحمص والرقة ودير الزور مثيرة للرعب والحزن وتفطر القلب في آن. ولكن ما يثير الهلع فعلاً عندما تسمع أو تقرأ عن أطفال في عمر العشر سنوات أو أكثر قليلاً يقوم رجال قساة بتجنيدهم لصالح التنظيمات الإسلامية الإرهابية، مذكرين بأساليب التعبئة العامة القاسية لنظام بول بوت في كمبوديا الذي كان رجاله يخطفون الأطفال من منازلهم وينتزعونهم من أسرهم إلى معسكرات «الخمير الحمر» لتنشئة جيل غير ملوث بالحضارات. «داعش» تنهج هذا الأسلوب في التعبئة بمساعدة مأجورين محليين يبحثون عن أي فرصة للاسترزاق فيسلبون البراءة من أطفال لا يزالون في مرحلة التبرعم. ويبدو أن الحرب في سورية تهدف قصداً إلى تدمير سنوات التكوين لجيل من المراهقين على الأقل. تقرير أخير للأمم المتحدة كشف كيف أن «داعش» تقوم بتجنيد الأطفال على نطاق واسع بالقوة إذ يداهم عناصرها المنازل، لا سيما تلك الواقعة في الأرياف، ويخطفون الأطفال ويهددونهم بقتل آبائهم وأمهاتهم إن لم ينضموا إلى «داعش» التي بات لديها فصيل مقاتل يطلق عليه اسم «أشبال داعش»، وقد عُرِضَ مؤخرا شريط فيديو على شبكة الإنترنت بهذا العنوان، حيث يتدرب الأطفال على السلاح بأرديتهم العسكرية المرقطة وراية «داعش» السوداء ترفرف وراءهم.

وفي تقرير آخر لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» الأميركية أطلق على هؤلاء اسم «الجنود الأطفال» الذين يُجندون كانتحاريين مهيئين لتنفيذ عمليات فردية. كما عرضت محطة «بي بي سي» قبل أسبوعين تقريراً مصوراً وثائقياً من موقع الحدث، أظهرت فيه الطفل «أبو حطاب» البالغ من العمر 13 سنة يعيش مع أسرته ضمن لاجئي سورية داخل الأراضي التركية المتاخمة للحدود مع سورية، وهو يتلقى التدريب على أسلحة متنوعة وتفخيخ الحزام الناسف. ويخضع «أبو حطاب» لعملية غسل الدماغ متوحشة عبر التحدث مع مدربيه واستعراض أشرطة فيديو لعمليات سابقة نفذها انتحاريون سابقون. وقد تم زفّ «أبو حطاب» كأحد «أشبال داعش» إذ تقرر نقله إلى الرقة، عاصمة التنظيم الإرهابي.

المأساة في سورية لم تعد غير مألوفة إذ تزداد تعقيداتها مع كل يوم، وهي الآن في عامها الرابع ولا يبدو في الأفق أي حل أو حسم لها. على العكس يزداد عدد المتفرجين على دينامية القتل والعبث الفوضوي على رغم سقوط الضحايا بالعشرات والمئات يومياً. وفي تقرير آخر لوكالة برنامج الغذاء العالمي التابعة للأمم المتحدة أشير إلى أن الوكالة كانت تزود أطراف القتال المتنوعة في ريف مدينة حلب وحدها بأكثر من 800 ألف وجبة طعام. وأوضح كيف أن أحد مطابخ الوكالة كان يوزع 48000 وجبة غذاء يومياً في مناطق غرب المدينة.

خيبة أمل المدنيين السوريين لا حدود لها إزاء انعدام الاهتمام بمآسيهم المتكررة والمتنوعة جراء تزايد واتساع جرائم «داعش». ويتذكر جميع هؤلاء كيف أن حكومة بشار الأسد قامت قبل عام مضى بقصف عشوائي بقنابل غاز السارين لمناطق سكنية في الغوطة، الحزام الأخضر حول خاصرة دمشق. مفتشو الأمم المتحدة للأسلحة الكيماوية أكدوا أن صواريخ جيش النظام سببت وفاة ما لا يقل عن 1250 مدنياً أعزل، معظمهم من النساء والأطفال ممن هرعوا إلى ملاجئ تحت الأرض، خلال دقائق بعد تنشقهم هذا الغاز القاتل.

من المعيب أن تمر تلك المذبحة وغيرها الكثير من دون عقاب، وكأن المجتمع الدولي ذهب في استراحة أخلاقية حتى أجل غير محدد.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى