أكرم البنيصفحات سورية

السوريون والأمم المتحدة!


أكرم البني

على الرغم من تبوء الحدث السوري مركز الاهتمام بين المشكلات التي تناولتها القمة الأممية الدورية، كان أمرا لافتا عدم اكتراث السوريين بها وعزوفهم عن متابعة ما يجري، ربما بسبب شيوع إحساس عام بأن هذه الاجتماعات والقمم لم تعد بذات قيمة ولا ينتظر منها مردود في ظل تاريخ مثقل بالعجز وخاصة ضد الظلم الصهيوني وتطاوله على الحقوق العربية، والأهم راهنا، بسبب موقفها السلبي مما يحصل في سوريا وتلكئها في تقديم جهد جدي لوقف العنف وحماية المدنيين، وكأن العالم يعترف بعد عام ونصف العام من الثورة، عبر خطابات طنانة لزعمائه ورؤسائه، بأنه عاجز عن أداء واجبه الإنساني، وبأنه فاقد للقدرة على الإمساك بزمام المبادرة في تقرير مصير الحالة السورية، متذرعا مرة باحترام مبالغ فيه لـ«الفيتو» الذي لم يكن له وزن يذكر في معالجة أزمات مشابهة، كأزمة كوسوفو والحرب على العراق، ومرة بالسير وراء الجامعة العربية ومبادراتها، وخلف خطط خلّبية لمبعوثين دوليين، يعرف الجميع أنها عاجزة عن التقدم ولو خطوة نحو تخفيف حدة الأوضاع المتفاقمة.

هو حدث نوعي ومؤسف أن تستخدم روسيا ومعها الصين «الفيتو» ثلاث مرات ضد قرار يدين العنف السلطوي في ظل إذعان واسترخاء دولي مخز يسترخص دماء السوريين ويستهتر بما يحل بهم من خراب، ويمنح النظام المهل والاعتقاد بأنه يستطيع أن يمارس كل أنواع البطش والتجاوزات ضد شعبه دون حسيب أو رقيب، ولا تغير هذه الحقيقة الإدانات الشديدة اللهجة، أو التهديدات العقابية، أو الإكثار من مؤتمرات أصدقاء الشعب السوري، وربما لا يعيبها الإصرار على العمل من داخل مؤسسات الأمم المتحدة ومجلس أمنها، لكن تعيبها الآليات التي تتخذ فيها القرارات وتحويل المنظمة الأممية إلى رمز يفوق في أهميته الأهداف المقدسة التي أنشئت من أجلها.

صحيح أن الحاجة الرئيسية لإنشاء الأمم المتحدة كانت إزالة آثار الحرب العالمية الثانية ووضع ضمانات لمنع حصول حرب جديدة، مما مكن الدول المنتصرة من احتلال موقع متميز في مؤسساتها، وجعل مجلس الأمن، وهو السلطة المهيمنة، أشبه بأداة توافق بينها لتسوية الصراعات والنزاعات، وغالبا على حساب مصالح الشعوب الضعيفة.. لكن الصحيح أيضا أن مياها كثيرة جرت منذ ذلك الوقت كشفت ضرورة تضافر جهود الجميع في معالجة مهام إنسانية حيوية، كتفشي النزاعات المسلحة والاضطهاد وانتهاكات حقوق الإنسان والآفات الطائفية وظواهر العنف والإرهاب، وكشفت تاليا ضرورة التأسيس لبنية ودور أمميين جديدين يقومان على تفهم تطور حاجات العالم وإدارة حالة من توافق المصالح بين مختلف مكوناته على أسس عادلة.

وهنا يجب التمييز بين وجهين للمنظمة الأممية، أولهما الوجه القانوني، ويتضمن ما راكمته الأمم المتحدة ومجلس الأمن من معاهدات ومواثيق وقوانين وقرارات. وثانيهما الوجه السياسي، الذي تكرسه توازنات القوى القائمة، وخاصة بين الدول الكبرى صاحبة حق «الفيتو»، وما تفرضه في لحظة محددة من قرارات تجاه حدث معين.

وإذا كان الوجه القانوني حقيقة واجبة الاحترام لما يحمله من قيم الحرية والعدل والمساواة، فإن ما يعيب الأمم المتحدة هو سيطرة دول قليلة على أعلى جهاز فيها، وهو مجلس الأمن، بما يخالف مبدأ المساواة في التمثيل والتقرير، وتاليا قدرة هذه الدول على تسخير بعض القرارات في صالحها، أو التأثير على أشكال ووتيرة تنفيذها، لنشهد مع كل ظلم أو عجز أممي ارتفاع حرارة الدعوات لإصلاح المنظمة الدولية، مثلا بإعطاء دور أكبر للجمعية العامة، وقد حاولت المجموعة العربية الاستقواء بها لمحاصرة النظام ودعم الثورة السورية، أو بزيادة عدد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، كمحاولة لتخفيف سلبية النفوذ السياسي ومثالب استخدام «الفيتو».

إن انتقاد بعض سياسات الأمم المتحدة وضعف الثقة بقدرتها على تنفيذ مهامها في ظل التوازنات الراهنة والدعوة لإصلاحها، لا يتعارض مع الاعتراف بأهميتها واحترام مؤسساتها ومواثيقها، أو مع إشهار مثالب مجلس الأمن لجهة ما يعرف بازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، أو لجهة الواقع التنظيمي والسياسي الذي لا يزال مجحفا في توفير حد مقبول من التكافؤ والمشاركة.

والحال، هو أمر طبيعي أن يحدث تناقض بين تنظيم أممي عتيق وبين تطور حاجات البشر ومصالحهم، وعادة ما يفرض هذا التطور نفسه ويضغط بقوة على البنى والآليات القديمة ممهدا الطريق لصياغة بنى وآليات جديدة، الأمر الذي يمكن أن نراه اليوم في ما تطرحه معاناة السوريين من أسئلة عن التعارض بين حقوقهم البديهية في الأمن والحياة وبين عجز المجتمع الدولي عن حمايتهم.

ألم يكشف «الفيتو» المستهتر بآلام السوريين وتضحياتهم، حقيقة أنه لا يجوز بقاء القرار الأممي بيد طرف واحد أو بضعة أطراف؟! وألا تعني الدعوات الجديدة لتشكيل قوات عربية لوقف العنف في سوريا، خيبة أمل كبيرة بالمجتمع الدولي؟! وألا تعطي مكابدة الثورة العظيمة ضد آلة قمع تعتقد أنها تحررت من كل القيود، قيمة كبيرة وملحة للمطالبة بالردع من خارج المنظمة الأممية، أو على الأقل، صياغة قواعد قانونية تسمح باتخاذ إجراءات عقابية بحق كل دولة تخرق المبادئ الأممية ومواثيق حقوق الإنسان؟!

يفيق السوريون اليوم من وهم دور أممي راهنوا عليه لنصرة حقوقهم ومطالبهم، وينظرون إلى مواقف الدول الكبرى من ثورتهم، ليس بصفتها منعطفا، كما يعتقد البعض، لعودة صراع القطبين ومناخ الحرب الباردة، بل كجرس إنذار لرفض سياسات الاستئثار الراهنة والجذور الفكرية القديمة التي تحاول الدول الكبرى عبرها تسويغ سيطرتها على العالم، وأيضا كمحك لفضح الدوافع الأنانية لمن يوظف مجلس الأمن في خدمة مصالحه الضيقة دون أن يعبأ بأرواح الناس، ولخلق رأي عام واسع يحفز دور القوى والفعاليات التي تتشارك القيم الإنسانية ولها مصلحة حقيقية في عالم آمن لا ظلم فيه ولا عنف، للضغط من أجل تصويب حضور الأمم المتحدة وتصحيح دور مجلس أمنها وآليات اتخاذ القرار!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى