صفحات سوريةنجيب جورج عوض

السوريون والحوارات غير المتقاطعة/ نجيب جورج عوض

 

 

لا يستطيع من تتاح له فرصة مراقبة لقاء سوريين مع ستيفان دي ميستورا، مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، والاستماع لحديثه أمامهم عن المشهد السوري ودوره فيه، إلا أن يتوقف متأملاً أمام ما يسمعه ويراه. يبدو دي ميستورا دفاعياً وغارقاً في التبرير الذاتي، لا يخفي استياءه من عدم كسبه تشجيع السوريين له، حين يتحدث عن دوره في المسألة السورية، وما يحاول أن ينجزه فيها. تسمعه يعبر عن صعوبة مهمته، بقدر واضح من الحسرة والإحباط والرغبة بالاعتراف بأن جميع المقربين له نصحوه بعدم حمل مسؤولية تلك المهمة الصعبة والمعقدة. كما تراه يطرح على مستمعيه السوريين أسئلة دفاعية مضادة، ومقابلة لما جاؤوا يطرحونه عليه (وهي أسئلة لم يُحدث السوريون، أصلاً، الظروف التي أدت إلى نشوئها)، قبل أن يبادر محاولاً الإجابة عن أسئلتهم، في أسلوب يبتعد عن الدبلوماسية والأداء المعبر عن ثقة في النفس، أو إحساس بالقدرة على النجاح، وفي رغبة تبدو صادقة بالمصارحة والشفافية وتسمية الأمور بأسمائها. تراه يطرح معطيات ونقاطاً محددة ومباشرة عن ديناميكياتٍ، تتغير في المشهد الدولي، وفي لعبة صراع القوى، ويحاول أن يشارك مستمعيه السوريين ملاحظاته وانطباعاته عن ذهنيات الأطراف التي تحدث إليها، داعياً إياهم، بحرارة، لاغتنام الفرصة الكبيرة الواعدة التي تحملها الشهور المقبلة، لإيجاد حل حقيقي للمأساة السورية، ومتمنياً عليهم بإلحاح أن يتلقفوا الفرصة، ويلعبوا اللعبة بإيجابية، ورغبة في الأداء الصحيح والسليم فيها. وهو يطعِّم هذا كله برغبته المحمومة بتبرير نفسه، والدفاع عن مواقفه وخطواته، وهو العالم بأن ثقة السوريين به مهزوزة، ولومهم له يفوق تفاؤلهم بحراكه.

في المقابل، لا يستطيع المشاهد أيضاً حوار بعض السوريين مع ميستورا إلا أن يلاحظ أنهم لم يأتوا ليخاطبوه، بل جاؤوا ليقولوا ما يدور في خلدهم، حتى لو لم يتقاطع الأخير بأي شكل مع محتوى الكلام المقابل. هناك منهم من لا يعرف إطلاقاً طبيعة دور الأمم المتحدة المؤسسي والدولي وعملها كمنظمة، ومنهم من يجهل أجندة عمل مبعوث هيئة الأمم المتحدة، وطبيعة دوره الاحترافي والوظيفي. ترى بعضهم يلومه على مقابلة بشار الأسد، ويعتبره غير أهل للثقة، لأنه قام بذلك، من دون أن يدرك أن من بديهيات ومتطلبات وظيفته التي اختارته هيئة الأمم المتحدة للقيام بها أن يلتقي بالجميع، وأن يتحدث إليهم. ترى بعضهم يتحدث إليه، وكأنه رئيس الكرة الأرضية، أو من يتحكم بمصيرها ويقرره بحركة من أصبعه، من دون أن يبدو مدركاً حقيقة أن المبعوث المذكور ما هو إلا “مسهِّل” (facilitator) في المشهد، وليس حتى “وسيط” (mediator). وترى آخرين يتحدثون معه عن الأسد، وفقط الأسد، في وقت يحاول هو أن يحدثهم عمّن يتحكم بالأسد (إيران) وعن دورها المحتوم في إيجاد حل لسورية.

يركز ميستورا على المعطيات والحيثيات ودقائق التعقيدات على الأرض، ويغرق مقابلوه السوريون في العواطف وعقلية التخوين والمؤامرات، ولا يعرفون كيف يخاطبون المجتمع الدولي، ولا كيف يقرأون ذهنيته وآلية تفكيره. لا تفهم آلية تفكير السوريين، كما يبدو، أن ما يسيِّر المنطق السياسي والعملياتي والدبلوماسي الغربي والعالمي (عدا العربي كما ألاحظ) هو منطق “نظرية اللعبة” (توفي صاحبها جون ناش أخيراً)، والتي تقول إن على اللاعبين الانخراط في اللعبة، ومن ثم جعل اللعبة وأدائهم فيها يقرر طبيعة ومضمون قواعدها. أي أن لا تقرير لقواعد اللعبة، ولا اشتراطات، قبل الانخراط فيها، بل الانخراط بها ولعبها حتى النهاية، وإثبات البراعة فيها لكي يتاح بعد ذلك المشاركة بوضع قواعدها. لا يفهم السوريون، كما يبدو، تلك الذهنية، ويأتون إلى أي حوار مع المجتمع الدولي السياسي والدبلوماسي بذهنية “العقد شريعة المتعاقدين”، والتي تفترض أن هناك قواعد ثابتة ومحددة وجامدة مصنوعة، قبل البدء بأي تواصل وأي تفاعل وأي انخراط.

لا يسع المراقب والمستمع لحوار بعض السوريين مع المجتمع الدولي، ومبعوثه الدبلوماسي ستيفان دي ميستورا، سوى أن يلتقط تلك المعطيات جلية لعيان من يعرف السياق السوري وذهنية التفكير العربية-السورية، ومن يعرف أيضاً السياق الغربي-العالمي، وذهنية التفكير السياسية والدبلوماسية الدولية. لا يمكن لهذا المراقب سوى أن يقول إن ما يحدث في مثل تلك اللقاءات هو حوار طرشان مليء بالكياسة واللباقة الدبلوماسية والأدبيات، وخالٍ من أي تفاعل فكري حقيقي، أو حديث متبادل، تتلاقي فيه أفكار المتحدثين، وتتجاوب مع بعضها بالمعنى الحقيقي للكلمة: أقرب لحوار الطرشان، أو لحديثين منفصلين، يجريان على التوازي من دون أن يلتقيا…. أبداً.

إن بقيت الأصوات المعارضة والمعنية بالمأساة السورية مصرة على ألا تدرك هذا، ستظل كل الأطراف الداعمة للثورة السورية خارج المعادلة واللعبة، ولن يكون لها دور حقيقي، أو ملموس، في ما يخطط له العالم لأجل سورية، ولا في أي حل سيبتكره أصحاب القرار الدولي والإقليمي لسورية في المستقبل. ليس في المسألة مؤامرة على السوريين فقط، بل هناك غياب لأي كفاءة حقيقية وبراعة احترافية في التواصل مع المجتمع الدولي، بلغته وآليات تفكيره وبقدرة وحنكة كافية للانخراط في منطق “نظرية اللعبة”، بدل وضع شروط وشروط مضادة، لا تفيد المشهد السوري، ولا تقدمه في طبيعته للآخرين، بل تخدم النظام، لأنها تؤكد الفشل المستديم والمزمن للمعارضة ولأطياف السوريين الداعمين للثورة (راهن عليه النظام، وراهنت عليه إيران وروسيا وما زالتا) في فهم طبيعة القوى التي يتعاملون معها، وكيفية محاورتها وإيصال رسالة مفهومة ومعتبرة لها. سيبقى أي لقاء يهدف إلى حث المعارضات السورية على التحول إلى جهات سياسية محترفة عملية مسرحية أقرب إلى دراما من الدفاع، وتبرير الذات من جهة هيئة الأمم والملامة والاتهامات والتشكيك من جهة السوريين، بينما سورية نفسها تغرق أعمق وأعمق في حرب الآخرين فيها وعليها، ويستمر الشعب السوري في أن يكون حطب محرقة الشرق الأوسط الحالية الأول، وأضحية العالم على مذبح إعادة تشكيل النفوذ في المنطقة. وفي النهاية، سيأتي الحل السوري على طبق جاهز ومفروض على السوريين من الخارج، وبإرادة دولية لا صوت سوري فيها على الإطلاق، أي من جهات فشل سوريي المعارضة والثورة فشلاً ذريعاً، وما زالوا، في التواصل معها وفهمها ومخاطبتها، وجعلها تعتبرهم أكفاء ومؤهلين، وفق أي معيار من معايير الكفاءة والاحتراف والبراعة والمؤهلات المتعارف عليها في العالم المتمدن والمعاصر… عدا العالم العربي طبعاً.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى