صفحات مميزةعمر قدور

السوريون وعبء “التاريخ المشترك”/عمر قدور

لنتخيل انتصاراً نهائياً للنظام السوري واستتباب الأمور له ثانية، وأنه سيكتب التاريخ على الشاكلة نفسها التي يقدّم بها إعلامه ما يجري الآن. بالأحرى، التاريخ يُكتب حالياً، بصرف النظر عمّا سيدونه المنتصر، أياً كان. منذ بدء الثورة «المؤامرة» انقسم السوريون بين سرديتين؛ الأولى هي قصة الثورة على الطغيان والثانية الرواية التي يتبناها مؤيدو النظام عن مؤامرة خارجية ينفّذها السلفيون التكفيريون من العملاء الكثر في البلد. ومع العدد المتصاعد من القتلى بين الجانبين، لا بد من تقديم أجوبة على الأقل للأطفال الذين فقدوا ذويهم، ولا بد للأجوبة أن تكون ضمن الروايتين السابقتين، أي أن أجيالاً أخرى ربما لم تشهد أحداث اليوم سيتبنى كل قسم منها رواية مختلفة تماماً عن القسم الآخر.

لن يكون ممكناً هذه المرة الصمت عن التفاصيل أسوة بما حدث إزاء مواجهة الثمانينيات بين الإخوان والسلطة، فحينها اختُزلت المواجهة تحت مسمى «الأحداث»، ومع التجريم التام للإخوان واتهامهم بالعمالة، إلا أن الرواية الرسمية تحاشت الدخول في التفاصيل تهرباً من استحقاقاتها. لكن ما ساعد السلطة حينذاك اقتصار المواجهة الكبرى على مدينة حماة، والتعتيم الإعلامي الشديد في زمن لم تكن فيها وسائل الاتصال واسعة الانتشار، فبقيت رواية أهالي حماة أسيرة أصحابها مع القلائل من المتابعين، وأيضاً بقيت تلك الروايات الشفاهية، التي تدور في الأوساط المؤيدة للنظام، فاعلة حتى في التعاطي مع الثورة الحالية، التي لا تمت بصلة إلى الماضي.

لكن، لكي نكون منصفين، الأمر لا يقتصر على مواجهة الثمانينيات أيضاً، فالتاريخ المشترك الذي تتباهى به الرواية الرسمية للبعث لم يكن يوماً مشتركاً إلا على الصعيد التعليمي المدرسي. أما التاريخ الشفاهي، الأكبر تأثيراً على الوجدان والمخيال الجمعي، فهو ليس بذلك الصفاء أو الانسجام، حتى إن لم يكن يحمل مباشرة بذور الشقاق أو الاحتراب، هو بالأحرى تاريخ جماعات لم يُتح لها التحاور حول ماضيها والإقرار به كما هو، ومن ثم تكريمه بدفنه في الكتب. ولكيلا نقلل من شأن تلك المرويات القديمة جداً أو القريبة العهد، فإن استدعاءها في المواجهة الراهنة كان له أثر واضح في تفاقم الاحتقان والانقسام بين الطرفين، ولعل أقلها تأثيراً استدعاء ذلك الخلاف السياسي القديم بين السنة والشيعة.

قبل عشر سنوات من الآن قال أحد الآثوريين، (وللعلم فإن آشوريي سوريا يطلقون تسمية الآثوريين على أنفسهم بدل آشوريين الشائعة عنهم)، قال ذلك الشخص مداعباً الكرد والعرب: «أنتم هنا ضيوف في أراضينا، ومع ذلك تتقاتلون على ملكيتها، اخرجوا من أرضنا وتتقاتلوا في مكان آخر». هذه العبارة الخفيفة، المازحة، تحمل في طياتها ثلاث روايات متباينة عن منطقة الجزيرة السورية، فسكانها الأصليون من سريان وآشوريين وكلدانيين يرون أنفسهم ضمناً الأحق بنسبها على الصعيد المعنوي، بينما كانت الغالبية العربية تنظر إلى الكرد بوصفهم مهاجرين جددا من تركيا ولا يحق لهم الادعاء بنسب المنطقة إليهم، في المقابل يرى الكرد أنفسهم أصحاب الأرض بالمطلق، ويصفون العرب الذين وزعت عليهم السلطة أملاكاً هناك بالمستوطنين.

التاريخ الشائع يرسّم الشيخ صالح العلي كمجاهد ضد الفرنسيين، ويذكر من بين مآثره معركتي القدموس ومصياف، مع تلميح خجول أحياناً إلى عملاء الفرنسيين لا يشير مباشرة إلى أهالي المدينتين، ولا يشير إلى التباين الطائفي حيث يغلب عليهما المذهب الاسماعيلي، بل راحت المواقع المقربة من النظام تشير متأخرة إلى أن مهجّري القدموس إلى مدينة السلمية هم سنة تحولوا إلى المذهب الاسماعيلي فيما بعد. قبل سنوات كان يمكن الاستماع إلى مسنّين من القدموس أو مصياف عايشوا تلك المرحلة، أولئك لهم رواية مختلفة عن الأحداث في المدينتين، وهي رواية متوارثة تتداولها الأجيال الجديدة أيضاً، مفادها أن الشيخ صالح العلي قد هاجم أولاً الأهالي في القدموس ومصياف فاستنجدت المدينتان بالفرنسيين، وهناك تفاصيل عن الانتهاكات التي تعرض لها الأهالي وقتها. ثمة رواية ثالثة عن كون ثورة الشيخ صالح العلي تحمل في طياتها بعداً طبقياً داخلياً، كثورة فلاحية ضد كبار الملاك، لكن هذه الرواية التي تحاول إقامة توازن بين الروايتين غير متداولة سوى في بعض أوساط المثقفين اليساريين.

ليس مستغرباً، في هذا السياق، أن يسترجع بعض الأقلام الروايةَ عن المذابح التي تعرض لها المسيحيون في دمشق عام 1860؛ للمفارقة أيضاً تطلق الكتب التاريخية على تلك الأحداث تسمية مبهمة الدلالات هي «الطوشة». ففيما عدا الاستثمار السياسي المباشر لتلك الأحداث، فإن استرجاعها يعني أنها لم تصبح طي النسيان للجمهور المستهدف من إحيائها في الذاكرة اليوم، لا يقلل من أهميتها أنها وقعت في ظل الدولة العثمانية، فالذاكرة المستهدفة ترى فيها مشاركة حثيثة من مسلمي دمشق السنة. غير بعيد عن ذلك، يروّج النظام اليوم لعثمانية جديدة بسبب عدائه مع صديق الأمس «أردوغان»، وهو بذلك يستثير المظلوميات القديمة لدى الأقليات خاصة، ولا يخلو الأمر من استثمار داخلي فيها غمزاً من الأكثرية المذهبية المشاركة للعثمانيين («العصملي» حينها). في الواقع، العامل الخارجي لا ينفصل عن الداخلي في مرويات أخرى، أرمن سوريا مثلاً ينظرون إلى الكرد كمشاركين فعليين في المذابح التي تعرضوا لها في تركيا، ولا تخلو نظرات بعضهم من شماتة تجاه المجازر التي لحقت بالكرد بعد ذلك بنحو عقدين، بينما يرى كرد سوريا أسوة بأكراد تركيا أنهم لم يكونوا سوى أداة لا تملك القرار في مذابح الأرمن. ما يتفق عليه الطرفان هو العداء العميق لتركيا، وهذا ليس بلا تأثير شديد على موقفهما من الثورة التي تلقى دعماً تركياً ملموساً، وفيما عدا المذابح القديمة، هناك سيل من الدماء الكردية لما يزيد على عشرة آلاف كردي سوري متطوع قُتلوا في الصراع الحالي الدائر في المناطق الكردية من تركيا.

عند الاضطرار إلى ملامسة أيٍّ من الوقائع السابقة، وغيرها كثير، درجت كتب التاريخ المعتمدة على إلقاء اللوم على الخارج، تماماً بالعقلية نفسها التي يتعاطى فيها النظام الآن مع الثورة، فالداخل منسجم ومستقر لولا المؤامرات التي تُحاك لضرب انسجامه واستقراره. ذلك يعني فيما يعنيه أن السوريين لم يتصالحوا يوماً مع تاريخهم القريب والبعيد، ولم تصبح لهم ذاكرة مشتركة حقيقية تؤسس لمواطنة معاصرة متخلصة من عقد الماضي، ولو كانت الأحداث التاريخية مثار رؤية مشتركة متخلصة من الحساسيات لما كانت فاعلة في الأحداث الحالية، ولما حذّر البعض من الخوض فيها خوفاً من تفاقم آثارها السلبية.

ثمة كلام يتردد عن الحاجة إلى عدالة انتقالية بعد إنجاز التغيير، في الواقع أول ما يذهب إليه الاهتمام هو رفع المظلوميات الناتجة عن مجريات السنوات الثلاث الأخيرة، إلا أن العدالة الانتقالية إذا كانت ستؤسس لمرحلة جديدة من سوريا فينبغي أن ترفع الحظر عن التاريخ أيضاً، وألا يعود التاريخ مقدساً بوصفه «تاريخاً مشتركاً». التاريخ المشترك إما أن يُصنع راهناً بإرادة مشتركة أو أن يبقى التغني به لغة المنتصر، ما مضى ربما لا يعدو كونه من ضرورات التعايش في حيز جغرافي مشترك. لذلك «التاريخ المشترك» ربما ينبغي إقامة متحف خاص من متاحف العدالة الانتقالية، ومن ثم إغلاق الباب عليه مرة أخيرة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى