زين الشاميصفحات سورية

السوريون يدفعون ضريبة الجغرافيا والتاريخ وضريبة الحرية أيضاً


زين الشامي

ربما يسأل الكثير من السوريين والعرب المتابعين لما يجري في سورية منذ نحو عام وتسعة اشهر عن اسباب عدم سقوط نظام الرئيس بشار الاسد وكيف يستطيع الاستمرار عسكريا وماليا واقتصاديا في حرب ضد غالبية من شعبه قررت الانتفاض عليه بحيث وصلت رقعة الاحتجاجات الشعبية والمقاومة المسلحة لاكثر من ثمانين بالمئة من الجغرافيا السورية، ومنها المدن الكبرى، دمشق، حلب، حمص، اللاذقية، دير الزور، درعا، حماة، ادلب وغالبية ريف دمشق.

وربما يتساءل البعض أيضاً من المتابعين كيف يمكن ان يفشل مجلس الأمن الدولي اكثر من مرة في التوصل الى صيغة قرار يدين النظام السوري على جرائمه، وكيف يفشل المبعوث الدولي كوفي عنان في مهمته، وكيف تواجه خلفه الاخضر ابراهيمي عقبات جمة من شأنها ان تنهي مهمته، وهو امر متوقع قريبا، كما فشل سلفه. وايضا ربما يتساءل البعض عن سر الخلاف الايراني – السعودي – العربي حول مستقبل النظام السوري، وسر الخلاف التركي الايراني على نفس القضية، وسر سياسة النأي بالنفس التي اختارتها الحكومة اللبنانية، واسباب وقوف حكومة نوري المالكي في العراق مع النظام السوري سواء بالسر او بالعلم رغم انها الحكومة التي اكتوت بنيران النظام السوري ومتفجراته، وهو النظام نفسه الذي كان يسهل حتى الأمس القريب دخول كل «الجهاديين العرب» الى العراق ليعيثوا إرهابا وتفجيرا وضربا للاستقرار الذي بالاصل هو استقرار هش.

وأخيرا وليس آخراً، من حق الجميع ان يتساءل عن سر موقف الغالبية من المسيحيين السوريين، لا بل غالبية الأقليات السورية من حقيقة ما يجري، موقفهم من النظام وموقفهم من المعارضة والثورة، وسر هذا التأخر في الاعلان عن تضامنهم مع بقية افراد شعبهم الذين يتعرضون للموت اليومي وتدمر مدنهم وقراهم بطريقة بربرية لم يواجهها اي بلد عربي او اجنبي من قبل، نعم لم يصادف ان عمل نظام سياسي مهما بلغت درجة ارهابه وفاشستيته على تدمير مدن عمرها آلاف السنين كمدينة حلب…وهناك الف والف سؤال محق حول هذه المعضلة او حالة الاستعصاء الداخلي والدولي المتعلقة بالملف والقضية السورية.

بكل صراحة لا يمكن فهم ما يجري في سورية او بالأحرى لا يمكن الاجابة عن كل هذه التساؤلات ما لم نفهم الجغرافيا اولا والتاريخ ثانيا، نعم الجغرافيا والتاريخ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى أكاديمي وجيوسياسي.

في الجغرافيا، اولا، يجب التذكير ان سورية وفيما لو نظرنا بتمعن الى مجسم صغير للكرة الأرضية او خارطة صغيرة للعالم سنكتشف دون أدنى جهد ان سورية تقع في قلب العالم وهي تتوسط قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهو الامر الذي يجعل منها بلدا في غاية الأهمية الجيوسياسية والعسكرية، ولهذا السبب دون غيره نعرف انها كانت جغرافيا معرضة دائماً للاحتلال والغزو عبر التاريخ خلال صراعات الحضارات بين كــــل من الشــــرق والغــــرب او بيــن حضارات الشــــعوب المـــجاورة.

فقد احتلها الاسكندر المقدوني في عام 300 قبل الميلاد وذلك نظرا لاهميتهما ثم صارت جزءا من الامبراطورية الرومانية عام 64 قبل الميلاد، وبقى فيها الرومان مئات السنين، لا بل ان هناك سوريين حكموا التاج الروماني باعتبار ان سورية في ذلك الوقت اصبحت مقاطعة رومانية مثل فيليب العربي وهو من محافظة السويداء الحالية. ونظرا لأهميتها العسكرية على حدود الدولة البيزنطية فقد فتحها العرب المسلمون لاحقا، ثم تعاقب العثمانيون والفرنسيون. هذا طبعا اذا استثنينا التاريخ الذي كان ما قبل الاغريق والرومان، وهو عبارة عن صراعات بين حضارات قديمة مثل البابليين والكلدانيين والآشوريين والفينيقيين والكنعانيين، وخلال كل تلك الحقب التاريخية كانت سورية بلدا يغري جميع القادة العسكريين نظرا لأهميتها الجيوسياسية والعسكرية. ان الآثار والقلاع الموجودة الى اليوم في مناطق الثغور السورية كإدلب وحلب واللاذقية ودرعا تروي قصصا طويلة من الحروب والصراعات على سورية.

طبعا لا ننسى العصور اللاحقة حين احتلها العثمانيون والفرنسيون وتلك الحروب بين اسرائيل وسورية التي انتهت باحتلال الجولان نظرا لأهميتها العسكرية بالنسبة للإسرائيليين.وقبلها حين استولى الاتراك على لواء اسكندرون السوري عام 1939 بعد اتفاقية مع المحتلين الفرنسيين الذين تلقوا وعدا من الاتراك بالوقوف معهم في الحرب العالمية الثانية. الجولان ولواء اسكندرون هما اهم منطقتين عسكريتين وطبيعيتين في سورية، منذ فجر التاريخ وحتى اليوم.

لذلك فإن ما نشهده اليوم من اختلافات وتناقضات روسية أميركية غربية وصينية، او تركية إيرانية او حرص عربي على عدم التدخل العسكري كما هو معلن، يعود في جزء منه الى إدراك كل هذه الأطراف اهمية سورية الجغرافية في قلب العالم. انها بمثابة الجسر الذي يربط قارات العالم القديم ببعضها البعض.

هذا عن الجغرافيا فماذا عن التاريخ؟

ان فهم الجغرافيا السورية يسهل فهم التاريخ وقراءته، فعلى هذه الرقعة ومنها انطلقت الديانة المسيحية عبر الرسول بولس الى اوروبا وكل العالم، وقبلها كانت اليهودية منتشرة بين غالبية ابناء شعوب المنطقة، والى اليوم ما زالت تحتفظ منطقة جوبر في ريف دمشق بأقدم كنيس يهودي في العالم. أيضاً فتح سورية المسلمون القادمون من شبه الجزيرة العربية ومن دمشق تأسست الدولة الأموية التي وصلت الى الاندلس او اسبانيا غربا وشمالا، والى نهر السند في بلاد الهند شرقا، ثم أتت الدولة العباسية، ثم فتح سورية العثمانيون وصولا الى الاحتلال الفرنسي في العصر الحديث. وخلال ذلك، خلال هذه الحقب التاريخية كان من الطبيعي ان تكون سورية بلدا غنيا بتاريخه وثقافته وأديانه وطوائفه وسكانه.

غير ان هذا التنوع الثقافي والطائفي او الديني لا يمكن اليوم فصله عما يجري في دول المنطقة من صراعات إقليمية او تنافس، سواء بين الإيرانيين والأتراك او بين الروس والاميركيين او الغرب عموما. الموقف الايراني من النظام يحمل في طياته مصالح قومية فارسية وتطلعات لاستمرار السيطرة على نظام الحكم كما هو الواقع الحالي، وهذا الموقف يكتسي بعدا دينيا اليوم بسبب طبيعة الحكم الايراني الديني وبسبب طبيعة الحكم العائلي الاقلّوي في سورية، والنظام الايراني لم يخف طموحاته لتصدير الثورة الإيرانية الاسلامية الى بلدان مجاورة.

الاتراك أيضاً لهم مصالح كبرى في سورية التي تسكنها غالبية سنية ولهم مصالح اقتصادية وسياسية خصوصا بعد رفض الأوروبيين فتح ابواب الاتحاد الاوروبي أمامهم، لذلك من الطبيعي ان يتوجهوا شرقا وجنوبا الى المنطقة العربية واهم بلد فيها سورية التي تشاركهم بحدود يبلغ طولها 850 كيلو متراً.

الفاتيكان أيضاً والغرب «المسيحي» يتطلع الى سورية والى الأقليات المسيحية فيها، كذلك تتطلع اسرائيل اليوم حائرة فيما لو كان ما يجري في سورية يخدمها ام يشكل خطرا استراتيجيا عليها.

وقبل كل ذلك، اي قبل الجغرافيا والتاريخ لا ننسى انها معركة حرية بالاصل اختارها السوريون للتخلص من أعتى نظام استبدادي في المنطقة…انها حقا لوحة وخارطة معقدة هي اللوحة والخارطة السورية…وانه لمن المؤلم جداً ان يدفع السوريون وحدهم ضريبة الجغرافيا والتاريخ وضريبة معركة الحرية أيضاً.

الراي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى