أحمد عمرصفحات الناس

السوري الأبيض المتوسط/ أحمد عمر

 

 

 

انقضت، في يومين، دهشة المَشاهد الأولى في ألمانيا؛ شوارع  مسطورة مثل بحور الفراهيدي وحدائق لها نواقيس وحناجر صادحة، ليست من إنجازات الحركة التصحيحية، ولا من غيرها. انصرف النازح الشاب، بهدوء. إلى تعلم اللغة الألمانية بنفسه من غير معلم، ونزل في أول يوم إلى جارته العجوز المقابلة لدارته، وفي يده صينية عليها أصناف من الطعام السوري المدبج بعناية عانس، ودغدغ الباب بهدوء ..

هاجر الشاب إلى بلاد النجاشية ميركل باكراً..

ثمت أناس يستشعرون خطر الزلازل مثل العنكبوت والضفادع وبقية الكائنات التي حباها الله بغرائز أقوى من موهبة العقل للإنسان. في الشهر الأول الذي اندلعت فيه المظاهرات، وبعد اعتقال استمر اثنا عشر يوماً، خرج الشاب مجْرَبّاً، ونحيلاً، وذليلاً، فقال له أبوه: جهّز نفسك للرحيل فليست البلد لك بدار مقام.منذ يومين أرى جدارا يريد أن ينقض؛ أولتّه سوريا.

كانت الأحلام كبيرة، وثورة مصر أسوة حسنة، فاستخرج جواز سفر بسرعة، وبسرعة تعني شهراً، وتعني أيضاً رشوة .. وقصد تركيا، وهناك اخترق دولا بلقانية أوروبية تهريباً، ثم قصد ألمانيا، فوقع في خطأ قاتل وهو كمين البصمة.

كانت العائلة من آلاف العائلات التي ذاقت بأس الأسد الأب في الثمانينات، والتي سكت عنها العالم القرد، وهرّبت أبناءها في أنحاء الأرض خوفاً من القتل تعذيباً في ثقوب سوداء لا يعلم بها أحد، واستبقت آخر العنقود. الأب ذاق أضعاف ما ذاق ابنه في الثمانينات، فبات إن رأى قطعة حبل ظنها ثعباناً مبيناً.. سيحرق هذا النظام الكافر الأخضر والأصفر والوردي، شهد الأب قراراً رسمياً بإزالة أحد أصنام الرئيس العملاقة، فخرج الحي الموالي يعارض بشدة، فلا حياة في هذا القطر إلا.. للتقدم والوثنية!

وصل الشاب وهو يندب مستقبله الذي ضاع، كان طالباً في السنة الثالثة من هندسة الالكترونيات، ويظنّ كل الظن أنّ أباه أخطأ التقدير، وأسرف في التشاؤم، فثورة سورية منصورة، وعائلة الأسد زائلة، والأسوأ أن السلطات الألمانية ماطلت في منحه حق اللجوء بسبب لعنة البصمة، وحلاً لمشكلتها، حمّى قدراً على النار، وقبض عليه بأصابعه العشرة، فأذاب نقوشها وطمسها، وبات  محض إنسان ممسوح البصمة .. السلطات الألمانية تعمل بهدوء، وتدرس كل واقعة، ولم تكن زحمة لاجئين كما هي الآن، فرصدت له راتباً شهرياً، واسـتأجرت له داراً صغيرة، بانتظار الإفتاء السياسي والأمني .. أجاب عن سؤال البصمات المطموسة، قائلاً أنه اضطر إلى قذف القدر من فوق النار حتى لا تحترق خيمة أقام بها وهو يعبر الحدود. .. كان الشاب يكره الكذب،  فالكذب ذلٌّ، لكن القوانين الأوربية لا تعرف معنى الصدق والمروءة، فهي آلات  تعرف الخطأ والصواب فقط لا غير. لاحقاً كثر السوريون العامّون، الذين لهم بصمات مطلقة ،هكذا أرادهم أشقى أهل الأرض، ذابح شام الله كما ذبح قدار بن سالف، ناقة الله.

أفتر فم الباب عن ضحكة فابتسم  الشاب ابتسامة ساطعة، وابتعد نصف خطوة عن الباب، وقال بألمانية ركيكة: سيدتي أنا “جيرانكم”  أقيم هنا من يومين، وأشار إلى الدار الصغيرة العلوية: هذه عادة سورية نسميها “السكبة”، فهل تشرفيني بقبولها؟  ورفع البرقع عن وجه الحضارة في الصينية، إغراءً، فاندهشت السيدة الألمانية العجوز، من حسن النضارة والترتيب، استلمت الصينية وشكرته ..

في اليوم الثاني لوّحت له فايغل إشارةً للنزول، فحطّ مثل حمامة إلى الأسفل، فهو لا يفعل شيئاً سوى انتظار فتوى السلطات الاجتماعية وبوليس الهجرة، ويندب حظه، ويعتقد أنه أخطأ بمغادرة وطنه، ويقضي الوقت في منادمة  سوريا في أخوته المبعثرين في كندا وأمريكا وقطر .. فتحت له الباب، وقالت إنها ودّت لو شكرته  لكن صعود الدرج صعب عليها، وأنّ الطعام كان للذكرى، وإنها زارت سورية قبل أربعين سنة  زيارة سياحة،  وتعرف بعضاً من عادات شعبه العريق وحضارته.

كانت تسقي حديقتها، فاقترح مساعدتها، فقبلت، فهي تسقي بالإبريق  من أحواض تنزل فيها مزاريب وسواقي سطوح الغرف المحدبة، لأمرين؛ إما اقتصاداً للماء، أو رفقاً بالنبات و سقياً بماء العافية الصافي، فتهادى بين يديها  وثباً بين مدارس النبات ومعاهد الخضار وأخبية العرائش ، تلحق بهم هرة السيدة فايغل المدللة  وتحتك بهما غيرةً من هررة النبات.

ساءت الأحوال بعد شهور، ونزحت أعداد أكبر من السوريين شهداء إلى السماء، وعرف أن أباه صاحب نظر .. توطدت الصحبة بين فراو فايغل وتامر أبو الخير، فباتا يتشاركان وجبة واحدة، وأحياناً اثنتين في اليوم، وصارت صفوف النباتات تعرفه مثل الهرة، فللنبات كما للمآذن … أرواح.

هي تعلمه الألمانية بهدوء، وهو يشرف على استئناس النيران في المطبخ تحت السميد والحليب واللحوم.. ، فتتأمل فايغل روائع طهوه وأسماء الأطعمة مالحةً وحلوةً : عش البلبل، سوار الست، أصابع العروس، الست زبقي، صفحات حلاوة الجبن، ولفائفها المحشية بالقشطة  .. ثم فاضت سكبات أبو “الكير” إلى الجار السابع..

يرقص أحياناً على صوت صباح فخري أو فهد بلان مقلداً طيوراً خذلها الريش، فالسوري  لا يرقص بخصره، هزّ الخصور للنساء، أو يدبّك بقدميه.. ويؤدي حركتي خفة  بأصابعه المطموسة، لا تجيدهما إلا بهلوانات السيرك، فيبهر بهما فايغل. ويقوم بصيانة  الأعطال المنزلية ببراعة، ويقف معجباً بآلات قديمة معطلة في زوايا الدار، حصادات للعشب، تعود إلى ما قبل الحرب العالمية، موائد خشبية تفتح و تغمض مثل الأكمام ، عربات أطفال، دراجات لها مقعد جانبي شرفي، دراجات عادية، آلة خياطة ..  الشعب الألماني شعب عريق ومبدع  وكريم.

قالت له: أنت تعرف أشياء كثيرة؟ فيقول: إن السوري مسبّع كارات يا حجة. فتسأل عن معنى اللقب؟ فيقول لها أن “الحجة” سيدة زارت الله في بيته العتيق! فتنبهر للمعنى الكامن في تاج اللقب الكريم الشريف كما أدهشتها من قبل ألقاب سادة الطعام و كرائم الحلوى.

يطلب منها إذناً لموعد الصلاة، فتسأل إن كانت الصلاة تجوز في بيتها، فيحضر مثل الطائر سجادته من دارته، ويتجه للقبلة، وبعد أن ينتهي من الصلاة الجهرية، يجدها قد غفت مثل طفل غنّت له أمه أغنية النوم !

استمرت الصحبة ووثقت عراها، إلى أن كان ذلك اليوم الذي فتح الباب، فوجد الشرطة واقفة على الدرج! فهبط قلبه مضرجاً بالأسى، كما كان يهبط  عند كبسات المخابرات، استدرك، فالشرطة موظفون، وإن جل ما يطلبه  هو ألا تعيده إلى ثقوب سوريا السوداء التي حفرها ذابح ناقة الله الثانية.  وأيقن أن شمسه تغرب في عين حمئة ،سيختار السودان، ادفعوني إلى مطلع الشمس في السودان أيها السادة الألمان فقومها أهل كرام… ابتسم الشرطيان في الزي الرسمي، وهما شاب وفتاة باسمان يصلحان عروسين، طلبا منه برفق أن يصحبهما بعد تسليمه كتابا كريما إلى الفرع، عفواً… إلى مركز البوليس. لقد لقي من سفره نَصَبا، لكن أين اختفت الحجة فايغل؟ هل سيمنحونه فرصة لوداعها؟

استخرج كبير الشرطة أوراقاً من مظروف، ليوقعها، وأبلغه بالانجليزية  أموراً ثلاثة، الأول حزين: هو أنّ السيدة فايغل توفيت البارحة فعرف سبب غيابها عن الدار! والثاني أنها  كانت محامية، عتيقة، وقد ساعدته في الحصول على اللجوء، وبات من أصحاب الإقامة لمدة ثلاث سنوات. الثالث، وهو أن السيدة فايغل تركت له كل ثروتها وهي: الدار وسيارتان وعزبة ورصيد يكفي لتهريب عشر عائلات من قبل أسوأ المهربين والقراصنة، ورسالة ترجمها بالمترجم الآلي تقول:

العزيز تامر أبو الخير :

عشت أياماً سعيدة معك، ملأت حياتي بالأحلام، تركت “بصمات” لا تنسى في حياتي، لا أعلم إن كنت سأعيش أطول، لقد اعتبرتك ابني، ولا أظنّ أنك  تمانع أن أكون أمك، أو خالتك أو حجة.. فهي، أيضاً، قرابة رائعة مع الله و لا تقدر.. بثمن.

المحبة أمك فايغل.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى