صفحات المستقبل

السوري الأمثل هو الميت أكثر/ روجيه عوطة

 

 

 

الدولة العدمية، التي تحجر على العالم، تريد من السوريين أن يواصلوا موتهم

مع أنه خرج من تحت الركام، الذي خلفه القصف الروسي على مدينته حلب، حياً، غير أن الطفل عمران دقنيش سرعان ما استحال موضوعاً للبكاء والكدر، بحيث أن صورته، وبعبارة رائجة، “حركت تعاطف وإهتمام العالم” حياله. فتلك “العاطفة”، وذلك “الإهتمام”،  لم يظهرا إلا على أساس محدد، وهو اختزال الطفل td جروح وجهه ودمائه، وجعلها علامة على انقضائه حصراً. بالتالي، ما عادت قصة عمران، تفيد بأن جسده احتمل القتل النازل عليه من السماء، بل باتت تدور في فنائه، الذي ظهر على خلقته وجلده وثيابه. على هذا النحو، تفرج الجمهور، الذي ابتأس واغتمّ، على الطفل، ومدّ معه علاقةً، استقرت على حذف حياته، والإبقاء على المثير في وجوده: موته، وموته فقط.

لا يمكن لهذا الجمهور من المأهولين بالنظام النيو-رأسمالي، بنظام الإستعراض والإستمتاع، أن يتصل بالسوريين سوى من خلال احتجازهم في موتهم، فحتى لو اجتازوه بعدما تخطوا الأبد، فهم، على مرأى حشود المكتئبين والمتجهمين، رهط من الموتى التامّين، أو من المحتضرين، الذين سيغدون موتى عاجلاً أم آجلاً. فالجمهور يريدهم على هذا الوضع، كي ينقلهم إلى خشباته المسرحية، واستديوهاته السينمائية، وجدرانه الإنترنتية، حيث يتصل بهم “كممثلين”، يؤدون الفجائع والمصائب أمامه، ليُشعروه بها، فيبكي، وبالفعل نفسه، ليطهّروه منها، فيبتهج. إذ كلما أدّوا الموت أمامه، كلما أثبت هذا الجمهور لذاته بأنه ليس ميتاً، فقناع حزنه يستر قناع نشوته.

من هنا، لا بد من ثلاث ملاحظات. الأولى، أن هذا الجمهور، المصنوع في معامل نظامه، ولأنه يجد في السوريين ثلة من الممثلين، يحول السوريين إلى موتى، لكنه، وفي الوقت عينه، لا يأخذ بموتهم كحال فعلية، أنتجها قتلهم. الثانية، أن هذا الجمهور يتأرجح بين تجهيل قاتلهم، أي نظام بشار حافظ الأسد وحلفائه، وتسميته، بالإنطلاق من الإعتقاد بأنه مخرجهم إلى الملأ. فمع إخفائه القاتل، وكتمه، يبغي الجمهور أن تكون التمثيلية، الذي يحسب أنه يتفرج عليها، تمثيلية أمضى، وذلك بسبب أن بيان المخرج في أثناء التأدية، يُبطلها، أو يُضعف التأثر بها على الأقل. أما حين يكشف عن القاتل، ويذيع اسمه، فعندها، يبغي الجمهور تكريم المخرج، وتنزيهه. الثالثة، أن هذا الجمهور، ولأنه يتطهر بقتل السوريين، بموتهم الذي يحسبه تمثيلاً، فهو يطالبهم بالمزيد من التأدية، يشجعهم على الإمعان فيها، وذلك من خلال آلية واضحة، وهي آلية المسابقة.

فمن دفق الصور، التي تسجل قتل السوريين وإبادتهم، يختار معمل الميديا، وهو من معامل النظام النيو-رأسمالي، صورة واحدة، مشدداً على عرضها، وإشاعتها. ومع فعله هذا، يطرح مقولته الباطلة، أي “صورة هزت ضمير العالم”، وإلى جانبها، ينتشر إستفهام “لماذا تأثر العالم بها؟” كأنه لغز. طبعاً، هزة ضمير المتفرج تعني تحويله السوري إلى مؤدٍّ للموت، بنفي قتله. وحذف حياته وتأثره به، يعني التطهر من خلال متابعة تأديته.

في هذا الصعيد، يبدو معمل الميديا كأنه ينظم، من فترة إلى أخرى، مباراة بين السوريين، مؤكداً لهم بأنها السبيل الأوحد لـ”التعاطف” معهم، وذلك، قبل أن يسحب اسماً من أسمائهم، ويغيره إلى فائز بجائزة أفضل ممثل بين أشباهه. وعلى إثر ذلك، هو يحثهم على التسابق في مباراته، التسابق على التمثيل، على الإمعان في التسليم بقتلهم، في الإستسلام لقاتلهم، وفي الخضوع لاعتقالهم في موتهم، كي يُقترع لواحد بينهم، فيفوز بذيوع صورته، وبتطهير الجمهور: “تباروا على هلاككم، على إطاعة قاتلكم، على إطاعة مخرجكم، كي أختار الممثل الأقوى بينكم، وعندها، ينتبه جمهوري إليكم”. فالسوري الأمثل، بالنسبة لهذا المعمل ونظامه، هو الميت أكثر، أي العالق في موته، والمفرط فيه على سبيل تأديته.

فممنوع على الطفل عمران أن يبني علاقة مع العالم بالإنطلاق من حياته، من جسده، الذي تحمّل به القصف، بل، ومثلما يريد منه النظام النيو-رأسمالي، بالإستناد إلى موته، وتمثيله. ثمة دين عدمي، على السوريين أن يستبدلوا إيمانهم بالحياة بإيمانهم به، وأن يستبدلوا إيمانهم بالعالم بالإعتراف به وله، وهو يطالبهم دائماً بأن يموتوا، وألا يتوقفوا عن الموت، علّهم بذلك يثيرونه، فيقبلهم فيه، واضعاً إياهم على مرأى جمهوره، الذي يذرف دموعاً عليهم، فيصفق لقاتلهم.

فإذا كانت “الدولة الإسلامية” تريد من السوريين أن يميتوا أنفسهم أو غيرهم كي يدخلوا “جنان الخلد”، فالدولة العدمية، التي تحجر على العالم، تريد منهم أن يواصلوا موتهم، ويفرطوا فيه كسبيل إلى تمثيله، وذلك كي ينتقلوا إلى فردوسها، وما هذا الفردوس فعلياً سوى نظام الأبد. فمثلما أماطت الثورة السورية اللثام عن كون الوجود معتقلاً في سجون نظام بشار حافظ الأسد، تميط اللثام أيضاً عن كون العالم معتقلاً في سجون النظام النيو-رأسمالي، ولا أحد سيحرر الوجود والعالم أكثر من تكرارها.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى