رستم محمودصفحات الناس

السوري ضيفاً على أرمن باريس

رستم محمود

من دون التسمية وفي غياب صورة كمال أتاتورك، ما من شيء في “مقهى آرارات”، في ضاحية ألفونتفيللا الباريسية الجنوبية يبدو تركياً تماماً. صرخات لاعبي الشدّة، المتوزعين على كافة طاولات المقهى، يتبادلون الشتائم بلغة تركية مغلظة، حيث تفخيم القاف والطاء والرّاء. سحنات وجوههم السمراء وعيونهم الصغيرة وأنوفهم البارزة، شواربهم الكثة غير المعتنى بها، وحركات أياديهم السخيّة بالإشارات الجنسية، سراويلهم الواسعة وقبعاتهم الشبيهة بتلك التي كان يرتديها الزعيم التركي “عصمت أنينو” قبل قرن من الزمان. جدران مقهى الأرمن ذاك، مليء بأعلام أرمينيا وصور قادة وشهداء الانتفاضات الأرمينية، مناظر طبيعية من جبال وأنهار البلاد البعيدة، أيقونات لصلبان وقديسين وكنائس.

 تستطيع مجالسة لاعبي أي طاولة، من دون أن تكون لك أي معرفة مسبقة بأي منهم. وقتها ستنهال عليك التراحيب التركية “خوش كالدنز أرقدش”، ومن ثم سيسألونك عن بلد قدومك، وحين سيعرفون أنك قادم من سوريا، سيشرق محيا أحدهم: “تتكلم العربية يا فندم؟”، وسيذكرك بأنه أرمني من الإسكندرية، هاجر إلى فرنسا في خمسينات القرن المنصرم، حين أممت “الثورة” شركة والده السياحية هناك. وحين ستخبرهم بأصولك الكردية، فإن لاعباً آخر سيحدثك بالكردية الكلاسيكية، وسيخبرك بأنه من أرمن ولاية سيواس جنوب شرق تركيا الحالية، حيث هاجر أهله أثناء المجازر التي حدثت في العقد الثاني من القرن المنصرم، وأنهم كانوا يخشون حتى جيرانهم الأكراد، الذين لم يكونوا يعرفون لغة سوى لغتهم. وحين ستخبرهم بعدم إتقانك للغة الفرنسية، سيبتسم أحدهم وسيخبرك بحالته الشبيهة بحالتك، منذ هاجر بغداد في العقد الأخير من القرن المنصرم، بعدما استولى تجار من حاشية النظام، على إحدى مستودعات تجارته. سيبقى أحدهم هادئاً من دون أن يلج في الحديث. سيخبرونك بأن “الباشا” من أرمن اليونان، ففي السبعينات من القرن الماضي ومع صعود الموجة القومية، خيرّته الحكومة التركية بين الاستغناء عن إحدى جنسيتيه، التركية أو اليونانية، حيث كانت عائلته متوزعة بين الدولتين، فقرروا الهجرة إلى باريس جميعاً. وحين ستعبّر عن سخطك من هذه الخيارات القاسية، سيعودون إلى لعبتهم، وسيخبرونك بقرب قدوم “سيروب”، الشاب الأرمني الحلبي الذي هاجر أخيراً من المدينة، بعد ما ألمّ بالبلاد من أحداث.

 في الأحاديث المتبادلة بينهم، يبدو رواد مقهى “آرارات” مشغولين تماماً عن الأحداث السياسية الحالية في المنطقة؛ سوى بعض الحذر التقليدي من مثل هذه التحولات، حيث كانوا الضحايا الأكبر لمثيلها، قبل قرن من الزمن. كما أن شعوراً آخر بالخيبة يلفهم، تجاه مستقبل المسيحيين المشرقيين، وهم المعبأون بنزعة أورثوزوكسية غير قليلة، وإن كانت أوضاع الأرمن في سوريا ولبنان تحديداً، تلاقي اهتماماً خاصاً في مجالسهم حتى الآن. فأرمن باريس، يعيشون في الذاكرة أكثر مما يعيشون في الحاضر، ما زالوا يجترون حكايات بلادهم التي قدموا منها، عن الحارة القديمة وأنواع الأطعمة، عن الموسيقيين الكلاسيكيين وبطولات المعارك، عن شكل الحب القديم وأصول التكاره، عن الأعياد والأفراح والأحزان، عن سيرة تنقّل كل عائلة من بلد لبلد، سنة بعد سنة، عن مدافن الأهل وطرائق موتهم، عن الماضي والماضي والماضي، وفقط الماضي.

 في إحدى أجمل حكاياته، يروي القاص الأرمني وليام سارويان حكاية أبيه المهاجر إلى الولايات المتحدة، حيث تعرف صدفة على مهاجر عربي، لكن المسنّان لم تكن تجمعهما أية لغة مشتركة، فوالد سارويان كان يتقن الأرمنية فقط، والمهاجر العربي كان يتقن العربية فقط، لكنهما كانا يصرّان على اللقاء كل فترة، يجمعهما الإحساس العميق والغريب بالقدوم من الجغرافيا نفسها، تلك الجغرافيا التي كان سارويان يسميها في قصصه بـ”البلاد البعيدة”.

في مخرج باب مقهى “آرارات” ينتابك شعور بالانقباض: ما الذي يمكننا، نحن وأجيالنا المقبلة، أن ندفعه من أثمان جراء هذا القرن الجديد؟ شعور مليء بالفزع فحسب.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى