صفحات الحوار

السوري محمد سيدا: الكاريكاتير عدو الدكتاتور

                                            حاوره/ هيثم حسين

فن الكاريكاتير يربك الديكتاتور، هكذا درجت العادة وهكذا تثبت الوقائع. ترى المستبد يخشى ريشة الفنّان ويحاول كسرها عساه يكسر إرادة الفنان ومريديه، لكن الفن الحقيقي لا يستسلم ولا يتهرب من مسؤولياته، وفي سوريا مثال جلي على هذا الأمر، وهو الفنان العالمي علي فرزات.

 لم يخرج الفنان السوري الشاب محمد سيدا عن هذه التوجه، وهو الذي يعتبر الكاريكاتير وسيلته لمقارعة الطغيان وتعرية المستبد. ويرى أن الكاريكاتير فن لماح، مكثف، ينقل رسائل بليغة بصور وكلمات قليلة ويلتقطه معظم الناس، فلا يحتاج إلى أية لغة.

 رحلته مع الفن رحلة حياة ومعاناة، فيها من الطرائف بقدر ما فيها من الأوجاع، وفي كل الأحوال هي رحلة شحذت شخصيته، وساهمت في تميّز لوحته. الجزيرة نت التقت الفنان محمد سيدا المقيم في السويد، وكان الحوار التالي:

 أقمت معارضك في ظلّ المنع والقمع، حوربتَ في لقمة عيشك، تمّ طردك من عملك، هل يمكن تذكّر أيّة بداية لرحلتك مع فن الكاريكاتير؟

– بداياتي كانت مع جريدة الجماهير، كنت حينها أبلغ 19 عاما، في حلب. كنت أرسم الكاريكاتير، حسب اتّفاقي معهم، في مواضيع كنت أختارها بنفسي، وهم بدورهم كانوا يملكون حق رفض عرضها -منعوا الكثير من لوحاتي- شرط أن لا يطلب مني ما سأرسمه.

 هذا الاتّفاق لم يدم طويلا، إذ طلبوا مني رسم الرئيس ومدحه بمناسبة “أعياد” ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي. حاولت جاهدا التهرب، تارة بحجّة أنّي أنتقد بالكاريكاتير ولا أمدح، وتارة أخرى بحجة عدم مقدرتي على رسم الأشخاص.

 لم تنجح محاولاتي بالتهرب، فتركت العمل مباشرة، حتى دون المطالبة بمستحقّاتي المادّية. عدت إلى عامودا وأقمت معرضًا “فرديًّا” بعد أن تمّ منع 20 لوحة من العرض من أصل 50.

في كلّ معرض لي كانت هنالك زيارتان إلي من الأمن العسكري وأمن الدولة قبل العرض، إضافة للجنة الحزبية من البعثيين. كانوا يقترحون فرز اللوحات ومنعها حفاظا منهم على “مشاعر المواطن” كما كانوا يقولون.

في دمشق أقمت معرضا فرديا في المركز الثقافي الروسي، ومن ثم أتيح لي العمل في جريدة الثورة الرسميّة، لكنّني رفضت العمل بعد مقابلة رئيس تحريرها، لأنه رفض الرسم والحديث إلا عن السياسة، والسياسة في مفهومهم أن تسب إسرائيل عشرين مرة في الشهر دون أن يكون من حقّك أن تقول: “الأكل غال” أو “الخبز غال يا سادة”! قرّرت بعدها أن أقيم المعارض فقط، وأرفض العمل في الجرائد الرسمية، حماية لفكري ولاسمي وحفاظا على مبادئي في حرية التعبير ضد كل خلل.

تقول الوقائع إن المستبدّين يخشون فناني الكاريكاتير، وبخاصة في سوريا، هل ينتعش فن الكاريكاتير في ظلّ الطغيان والدكتاتورية أم يتقهقر؟

– الدكتاتور إنسان غبي بالضرورة، حتى لو بدا ذكيا في اللعب بالعواطف الدينية أو القومية أو الإيديولوجية لفترة ما لا تدوم طويلا عادة، بينما الفن ديمومة واستمرارية، وما يتناوله الأثر الفني يبقى مخزنا في ذاكرة الحضارة البشرية، وهذه الصفة تجذب كل دكتاتور يظن نفسه الأهم والأوحد.

الكاريكاتير هنا فن وإعلام، ومن الطبيعي، مثلما هو محظوظ في حمل التعريفين، فهو سيئ الحظ في تحمل الظلم الحاصل على كليهما. أنت متهم كفنان لو خرجت عن الحدود المرسومة لك، ومتهم كإعلامي لو تجاوزت حدودك المرسومة. أضف إلى ذلك أنك سواء أكنت فنانا أو صحفيا أو مواطنا كغيرك، فأنت متهم لو فكرت أن تنتقد السلطة، فما بالك لو كان هذا الانتقاد من مختص؟!

الطغاة الباحثون عن التمجيد يكرهون كل من لا يمجّدهم. الكاريكاتير يعري، والطغاة يكرهون كل مَن يكشف عريهم. في التاريخ الإنساني لم يحصل أن فاز دكتاتور في حربه مع رسام كاريكاتير، حتى ولو غيب الدكتاتور جسد الفنّان. والخشية بعد كل ما ذكرت تكمن في أن الكاريكاتير سهل الفهم، ذكي ومكثّف، ومحبوب من كل الشعوب، وهذه الصفات تمنحه سرعة الانتشار، وكسب الرافضين لكل فساد أو ظلم بشكل غير مباشر ومباشر أيضا.

لك أنشطة سياسية فضلا عن لوحاتك الكاريكاتيرية المنتقدة للسلطة والنظام، أين يتداخل الفنّان والسياسيّ في اللوحة والحياة عندك؟

-الكلام في الخبز هو كلام في السياسة، الكلام في الدين هو كلام في السياسة، والكلام عن الثقافة هو كلام عن السياسة في بلدنا وشرقنا. ولدت وتربيت في بيت كردي سياسي معارض للسلطة، كبرت وتعلمت في مدينة سياسية معارضة للسلطة، شهدت ظلم السلطة على أهلي، وشهدت ظلم السلطة في مدينتي، وعندما رسمت عن كلّ هذا أصبحت سياسيًّا وفنّانا.

لا يمكننا فصل السياسي عن كل تصنيف آخر في ظل الحكومات الشمولية “الراعية” للدولة والمجتمع معا، وأشارك كفنان وكناشط سياسي منخرط في التوجه السياسي العام للثورة منذ بدايتها بكل طاقتي في كل ما من شأنه إسقاط رئيس النظام السوريّ.

هل ترى أن المثقف السوري يعيش أزمة بين المعارضة والموالاة، وكيف تنظر إلى مستقبل الفن والثقافة في سوريا؟

-المثقف السوري مشارك بشكل أو بآخر في الثورة. هناك منهم من يساند الثورة، وهناك مَن يعاديها، ولا يخلو الأمر من فئة تزعم الحياد. بغض النظر عن الجهة التي يقف فيها المثقّف فهو، مع وجود استثناءات من كلا الجهتين، يطالب بالسلمية وبالحل السياسي الحاقن للدماء، والقاطع للطريق أمام أسلحة المجتمع السوريّ بكل أطيافه.

المثقّف وباعتباره البوصلة الفكرية لكل مجتمع، مطلوب منه أن يحلّل ويستشفّ الحلول بناء على معطيات فكرية ومادية ملموسة، هي في وضعنا الراهن متشعّبة إلى حد التعقيد والتشابك في أكثر من مكان.

المثقف نفسه أمام أزمة متعددة الأوجه. فالمجتمع لم يعتد سماع صوته الفكري والثقافي المستقل، لكون السلطة كانت شمولية ولا تقبل بالمختلف إلا في سياق لعبة لصالحها. وقد حورب بقسوة، اعتقل وسجن وهدد، مما أفقده القدرة على التواصل مع المحيط الخارجي في بيئة وظرف مناسبين.

لو لم تغير الثورة ما نحن فيه من تيه لا إنساني، فلن تكون ثورة، حتّى ولو أسقطت السلطة. لكنني أعتقد أننا تجاوزنا الكثير، وغيرنا الكثير من المفاهيم التي كان مجرّد النطق بها جريمة. والمطلوب منا عدم ترك الثورة وحيدة مع سلبيات “ثوّارها”. في الثورة وحتّى بعد الثورة، “ثقافيا” لا نهاية للثورات.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى