صفحات سورية

السويداء «الهادئة»: أقليّات وتاريخ وجمر تحت الرماد


السويداء إحدى المحافظات السورية القليلة التي لا تزال تُوصَف بأنها «هادئة نسبياً» مقارنة بغيرها من المدن. حراكها لم ينفجر بعد، لكن شأنها شأن جميع المدن والقرى تحوي موالين ومعارضين كثراً، غير أنّ خصوصيتها المذهبية والتاريخية والجغرافيّة قلّما تتشارك فيها مع أي منطقة أخرى. المدينة ومحيطها يغليان وإن بهدوء، ويستفيدان من غياب الدولة حالياً

عاصي أبو نجم

السويداء | على طول الطريق بين دمشق والسويداء، الذي لم تكتمل أعمال البناء فيه منذ عشرة أعوام، يترافق الباص مع شاحنات الحديد والإسمنت والرمل، وهي تعود فارغة في الجهة المقابلة. سبب زحمة هذه الشاحنات يشرحه سامر، وهو مهندس معماري؛ فـ «منذ بداية الأحداث، أرخت السلطات قبضتها عن المجتمع، فبدأ البناء بكثافة لم يشهدها تاريخ المحافظة، وفي سجل قياسي للمخالفات والتعديات على الأملاك العامة والخاصة، فالأبنية تفقّس بتسارع متزايد من دون موافقة البلديات ولا حتى نقابة المهندسين، ومن دون توافر رقابة على شروط الأمان أو الكود العربي السوري أو حتى أدنى المعايير الجمالية». المبدأ بات واضحاً: كل من يملك القليل من المال، وضمن فكرة الخوف من انهيار الليرة السورية، يفكر في البناء لأن العقارات هي السوق الأكثر أماناً وغلاءً، رغم توافر ما يزيد على عشرين ألف شقة فارغة في السويداء وحدها قبل بداية الأحداث وفق تقديرات البلديات. أما محمد، وهو مهندس أيضاً، فيشير إلى أن التعدّيات تشمل الأراضي الحرجية وحرم السدود المائية، وتترافق مع عمليات تخريب وتشويه للطبيعة، لافتاً إلى أن «معظم أصحاب البناء حالياً هم متعهدون يتفقون مع أصحاب الأراضي على نسب متدنية وهم لا يكترثون لشيء سوى الربح الذي يراوح بين 200 و500 في المئة داخل المدن، وأدنى من ذلك في الأطراف». رياض متعهد بناء يكشف أن جميع المصارف أوقفت قروضها وصار يجب على الراغبين في السكن أن يسلموا أنفسهم إلى المتعهدين، في ظل عدم انخفاض أسعار مواد البناء، «وما يزيد من التكاليف، ندرة المازوت وانقطاعه. نسلّم المبنى على العظم خلال ستة أشهر من تسلّم الأرض، ونستغل حالياً تغافل البلديات عنّا». يبدو رياض مطمئنّاً، «فيوماً ما، ستقوم البلديات بالتصالح معنا، ويكون الّي ضرب ضرب والّي هرب هرب».

منار محامية، يثير دهشتها واقع أن معظم القضايا المرفوعة حالياً في قصر العدل المحلي في المحافظة، مثلما هي الحال في كامل أرجاء سوريا، هي قضايا تتصل بـ «النصب والاحتيال»، فالقضاء متعب ومترهّل، ولا يصل الحكم إلى درجة القطعية إلا بعد وفاة المدّعين، بما أن القضية العادية المتعلقة بخلاف على أرض أو عقار قد تستغرق سنوات طويلة ليبتها القضاء. هكذا، فقد الناس ثقتهم بالسلطة القضائية منذ زمن طويل، «فهي تابعة ومخترقة من قبل السلطة التنفيذية، والقوانين متخلّفة والمشرِّع غامض وظالم، والفساد صار مكوناً طبيعياً جعل الجميع تحت الطلب، ولم يعد يفاجئنا تورط جهات قضائية عليا في عمليات قمع المتظاهرين، بل حتى تلفيق تهم خطيرة للناشطين تبدأ بالاعتداء على الأملاك العامة والتظاهر بدون ترخيص، وصولاً إلى حيازة الأسلحة والاتجار بها والتعامل مع جهات أجنبية» على حد تعبيرها. لقد دفع كل ما سبق مجموعة من المحامين الشباب إلى رفض ما يحدث في سوريا، وأصدروا عدة بيانات تكرّس القانون للدفاع عن المظلومين ضد الاستبداد السياسي والاقتصادي، فجرى احتجازهم والاعتداء عليهم وضربهم في نقابتهم أثناء اعتصام سلمي لهم، وهوجم مقر النقابة في السويداء بالحجارة وحطّم الزجاج، وجرت محاولات اقتحامها، وكل ذلك أمام أعين الشرطة والقوى الأمنية ومن يشبههم.

في المقابل، يقول عباس، وهو مؤرِّخ وناشط سياسي، وفي معرض رده على كون السويداء ظلت نسبياً بعيدة عن الأحداث الحالية: «لقد شاركت السويداء في الحراك السوري منذ بداياته، في التظاهر والاحتجاج والبيانات والتنظيمات السياسية، ورفض ما يحدث بحق الوطن والمواطنين»، مستدركاً بأنه «للناس هنا ذاكرة حية، ونحن كان لنا تجربة مريرة مع الجيش في السويداء منذ عشر سنين». عباس يتحدّث عن حادثة أليمة حصلت آنذاك على خلفية صدام بين بدو رُحَّل وقطعان ماشيتهم مع فلاحين محليين من المحافظة أخذت منحى جماهيرياً، فتدخل الجيش وحاصر المدينة وأقفلها، وجعل من المدارس والملاعب معتقلات مفتوحة، وضع فيها الآلاف وأطلق النيران الحية على الجموع العائدة من جنازة أحد الضحايا، ما أدى الى سقوط عشرات القتلى، في ظلّ تعتيم إعلامي وأخلاقي قاتل في حينها.

يشدّد المشاركون في التظاهرات المعارِضة من أبناء السويداء على أنّ السلطة درجت تاريخياً على «ترهيب الناس وتخويفهم ومصادرة حرياتهم الوضعية والطبيعية ومحاربتهم في لقمة العيش»، متسائلين عمّا يعنيه وجود أكثر من مئة ألف مهاجر من أصل أربعمئة ألف هم أبناء محافظة السويداء، وهم يمثلون لب ونواة المتضررين الحقيقيين من الناس وأصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير لكونهم من الشباب المتعلّم، المغترب والمبعد عن بلده الأم؟

مروان، موظّف متقاعد، يقول «لقد تحوّل موروثنا الكفاحي كجماعة فاعلة ومؤسسة للاستقلال عن العثمانيين ومن ثمّ عن الفرنسيين، إلى موروث غنائي وحكائي في الأفراح وليالي الشتاء الطويلة، نستعيض به بديلاً عن الواقع القاسي، وعمليات التهميش التي مُورست علينا، وأخرجت الطائفة (الدرزية) مع كل مكونات النسيج الاجتماعي السياسي من المشهد السوري منذ نصف قرن حتى الآن». ويتابع مروان أنه وبقية سكان محافظته «ضحايا النظام، إذ حاولت السلطة على مدى عقود محو شخصية المجتمع واستلابه، عبر توحيد لونه وطمس معالم تنوعه لصالح الفساد والاستبداد».

تتجوّل في شارع أميّة (الشارع التجاري الأهم في السويداء) وتلفتك كثافة الناس والحركة الطبيعية للبيع والشراء، لكن الوجود العسكري كثيف وحائر أيضاً، واللون الأسود طاغٍ على ملابس الشباب، تنفيذاً لدعوة علنية على الإنترنت مفادها «ارتدِ الأسود وانزل إلى الشارع» بغرض كسر الخوف عند مَن لم يشارك في التظاهرات بعد. يعترف أحد أبناء السويداء ممن يُعدون من منظِّمي الحركة الاحتجاجية في المدينة بأنّ «نواة المحتجين المستعدين للتظاهر لا تتجاوز المئات في السويداء، وهم بالغالب من ذوي الشهادات العليا، والخوف كبير من الاعتقال والقتل، ونحن نحاول إيجاد أشكال جديدة من المقاومة السلمية رغم المشاكل التقنية الكبيرة أمامنا، بما أن السلطة نجحت في تفتيت المجتمع المدني إلى حدّ كبير، ونحن نعاني عدم وجود أحزاب أو تنظيمات ذات امتداد أفقي». وعن بنية المعارضة في السويداء، يقرّ الناشط الثلاثيني بأنها «لأسباب مذهبية وتاريخية، علمانية تراوح بين الشيوعيين والليبراليين، مع غياب واضح للحركات الدينية في المحافظة». وفي سرده لأسباب بقاء السويداء حتى الآن هادئة نسبياً، يوضح أن غياب مراكز التجمع ـــــ كالمساجد ـــــ أسهم في عدم مركزة الحركة وتحوُّلها إلى حركة احتجاج شعبية، إضافة إلى أسباب تاريخية تتعلق بالأقليات والدعاية غير الوطنية التي تقودها أوساط مقربة من السلطة بشأن «إذا إجو السنَّة رح يذبحونا»، وهي «الفزّاعة» نفسها المتبعة مع بقية الطوائف.

وعن البرودة النسبية التي لا تزال تطبع الحراك الاحتجاجي في السويداء، يمكن الإشارة إلى عوامل أخرى، من نوع أن النظام «لم يقترف بعد الخطأ القاتل» في التعاطي مع المتظاهرين، أي بكلام آخر لم يتأكّد بعد مقتل أي متظاهر، هذا إن سلّم المراقب بأنّ عشرات المعتقلين أو «المخطوفين» لا يزالون جميعهم على قيد الحياة. أضف إلى ذلك أنّ الحساسية التاريخية الموجودة بين أهل درعا والسويداء المتجاورتين في جنوب سوريا تفعل فعلها، برأي البعض، في إبقاء العديدين في السويداء في منازلهم.

ورغم ذلك، فإنّ في السويداء، نشاطاً لافتاً للنقابات وللسياسة، بدليل أنّ تحركات واسعة حدثت في صفوف البعثيين ظلّت بعيدة عن الإعلام، كما أن الأحزاب الشيوعية الرسمية المنضوية في «الجبهة الوطنية التقدمية» قد تعرضت قواعدها في المحافظة لانشقاقات واسعة احتجاجاً على استمرارها في دعم قياداتها للسياسات الرسمية، كما أنّ لنقابتي المهندسين والمحامين حضوراً مهماً في الاحتجاجات بعد محاصرتهما مراراً من قبل الأمن و«الشبيحة»، والتعرُّض للمهندسين والمحامين بالضرب والاعتقال إثر محاولتهم الاعتصام أو قراءة بيانات معارضة، إضافة إلى ذلك، تميزت منطقتا شهبا والقريّا بزخم شعبي واسع داعم للاحتجاج، وذلك باحتضان تظاهرات دائمة فيهما. وممّا لا شك فيه أنّ للنظام شارعاً مؤيِّداً هنا، يظهر بالصور على السيارات، وخصوصاً سيارات التاكسي، وفي نِسب مشاهدة مرتفعة للتلفزيون السوري الحكومي، والقنوات الخاصة الداعمة للنظام. ويكون للنظام في السويداء آذان صاغية خاصة في المناطق الأكثر فقراً، والمتصحّرة بفعل الجفاف، التي حظيت بمعونات غذائية وبزيارة من الرئيس السوري بشار الأسد قبيل بداية الأحداث. واقع يحاول المعارضون كسره من خلال محاولة ايجاد أشكال تنظيم جديدة «تكسر التصحر السياسي الموجود، وبالفعل بدأنا نجد تجاوباً حقيقياً في أوساط الشباب غير المسيَّس وهي تأخذ شكل التجمعات والتكتلات وأتوقع قريباً تبلور تيار سياسي شبابي واضح» بحسب أحد ناشطي «التنسيقيات». وعن «الحوار الوطني» الذي يدور في المركز الثقافي بالسويداء، يعلّق الناشط المعارض: «لقد اجتمعت قوى المعارضة التقليدية قبل عدة أيام وتداولت بإمكانية الاشتراك في الحوار، لكنها وصلت بالإجماع إلى نتيجة مفادها رفض الحوار مع السلطة»، لينحصر الحوار بـ «ممثلي بعض العائلات التقليدية وبعض الأحزاب الموالية، وليتحول إلى… حين تحاور السلطة نفسها».

رحلة برفقة مسلَّح

الطريق من موقف السومرية في دمشق إلى السويداء تستغرق في الحافلة ساعة ونصف ساعة عادةً، لكنها الآن باتت تطول أكثر من ساعتين مع ثلاثة حواجز أمنية، وصوت المذياع الذي لا يكل وهو يتحدث عن «العصابات المسلحة والإرهابيين المعترفين بجرائمهم وتمويلهم وأهدافهم في ترويع المواطنين». الشخص القادم عبر ممر الباص وفي يده بطاقة الحجز، يبدو كأنه سيجلس إلى جانبك. يتهالك على المقعد المجاور، لكن شيئاً معدنياً في خاصرته يصدمك. تسأله: يا سيد هل لديك شيء ما على جنبك؟ فيبتسم ويقول إن المقاعد ضيقة! تكرّر بفضول المندهش: هل هو مسدس؟ فيبتسم ذلك المدني المسلح ثانية بثقة وكبرياء ولا يجيب. عند أحد الحواجز، يبرز الجار المسلَّح هويته الأمنية ببرودة أعصاب، ورجال الأمن لا ينظرون إلى وجهه، ولا يهمّهم من بطاقات الهوية سوى مكان الولادة، ربما لأن ما يهمهم حالياً هو الفرز المناطقي كبدايات واضحة للفرز الطائفي في البلاد.

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى