صفحات الناس

السويداء اليوم/ طلال شامي

 

 

الموحدون الدروز موجودون على امتداد بلاد الشام. ومع أنّ قراباتٍ وطيدة ومصاهراتٍ كثيرة تجمع بين دروز فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، إلا أن حسّهم الجمعيّ يتبع للدولة التي ينتمون إليها: ولاء الدروز في لبنان لدولة لبنان، ووولاء الدروز السوريين للدولة السورية. وهكذا.

في سوريا ينتشر الدروز في ريف إدلب، وريف دمشق والقنيطرة وفي السويداء ريفاً ومدينة. وتعتبر السويداء في الجنوب السوريّ عاصمة جبل العرب (جبل الدروز) الذي استوطنوه منذ القرن الثامن عشر. كانت للسويداء ولا تزال مكانتها وأهميتها السياسية والإدارية في الدولة السورية. تعداد سكانها قرابة 400 ألف نسمة بينهم المسلمون والمسيحيون، لكن غالبية سكانها العظمى من الموحدين.

لم يستتب للاستعمار العثماني أمنٌ في جبل العرب طوال فترة حكمه، ولم يتمكن من السيطرة عليه. وحين انطلقت الثورة العربية الكبرى ضد الاحتلال العثمانيّ عام 1916 اندفع الدروز للمشاركة في هذه الثورة والانضواء تحت رايتها العربية بقيادة الشريف حسين.

في عام 1921، وفي نطاق التقسيمات التي فرضها لتفكيك سوريا خمس دويلاتٍ صغيرة؛ أعلن الانتداب الفرنسي قيام دولة جبل الدروز، وألّف فيها حكومةً ذات مؤسسات رسمية مستقلّة. لم يعلن زعماء الجبل أو هيئة الروحية رفض هذه الحكومة فوراً، إنما علا صوت الحراك الشعبي في العام التالي إثر حادثة اعتقال الثائر أدهم خنجر الشهيرة، التي أطلقت شرارة الثورة في الجبل بقيادة سلطان باشا الأطرش ضدّ المحتل الفرنسي. وكان الفرنسيون طاردوا خنجر في ريف الشام، فاستجار بمضافات أهل الجبل الذين يعتبرون المسّ بضيفهم إهانة لكرامتهم. واختير الأطرش لاحقاً قائداً عاماً للثورة السورية الكبرى عام 1925 تحت شعار “الدين لله والوطن للجميع”.

في حقبة الاحتلال الفرنسي تعرضت المحافظة لقصف الطائرات الفرنسية واجتياح دباباتها، ولم ينزح السكان خارج حدود جغرافيتهم، ولا مرة. كان لهم تكتيك متفرد حين التعرض لأي هجوم: إجلاء السكان جميعاً نحو أماكن آمنة ومحصنة على أكتاف جبالهم أو قممها، أو إلى المغاور الصخرية المنتشرة حول كل منطقة آهلة. فحين اجتاح القائد الفرنسي غاملان السويداء بحملته التأديبية الشهيرة، لم يجد في المدينة أو قراها أحداً من السكان.

استقطب حزب البعث الذي تأسس بعد استقلال سوريا أعداداً كبيرة من الدروز، ومنهم من كان ساهم في تأسيسه ثم الدعوة إليه حين رأوا فيه حزباً قومياً اشتراكياً لادينياً يناغم تطلعاتهم العروبية. وكان للضباط الدروز أيضاً أدوارٌ مؤثرة في فترة الانقلابات العسكرية التي أعقبت جلاء الفرنسيّ عن سوريا.

السويداء محافظة اغتراب. اعتادت على هجرة شبابها في طلب الرزق إلى أي بلدٍ يفتح لهم أبوابه بعدما انغلقت في وجوههم أبواب بلدهم، بحيث شكّل المال الذي يرسلونه إلى ذويهم من مغترباتهم في الأميركيتين والخليج ولبنان والأردن، أهم مصدرٍ للدخل إلى جانب محاصيلهم الزراعية.

أثناء حكم الرئيس حافظ الأسد التحق شباب السويداء بالوظائف الحكومية المدنية والعسكرية، وأُنشئت في المحافظة مراكز التطوير الزراعي، فيما لم تقم فيها أي مراكز صناعية أو تجارية، في الوقت الذي بدأ الأهل ينتبهون إلى حضّ أبنائهم على التحصيل العلمي العالي من غير أن يترافق ذلك مع تأمين فرص عملٍ لهم ضمن اختصاصاتهم التي عادت المهاجر لاستقطابها حين أهملتها حكومة البعث.

في أول حكم الرئيس بشار الأسد جرى ما سمّي “حوادث البدو” عام 2000 حين هبّت المدينة وقراها في ساعات قليلة وأعلنت الإضراب العام واعتصم الألوف أمام السرايا (دار المحافظة) حدّ أن الأمر فهم أن في نيتهم إسقاط حكومة الرئيس الجديد، في حين كان مطلبهم أن تفي الحكومة التزامها في حماية الأهالي، وأن تكفّ عن تحريض البدو على ترك مواشيهم ترعى في منطقتي الاستقرار الأولى والثانية، وألا تتغاضى الحكومة عن تكديسهم السلاح وإشهاره في وجه الأهالي.

لم يكن البدو الرحّل والدروز الحضريون يوماً أعداء. تعايشوا دوما كفئتين لا تستغني الواحدة منهما عن الأخرى، حتى قبل أن يتوطّن البدو في أطراف ريف السويداء والمدينة. هم مثل باقي سكان المكان لا يبغون أكثر من السعي خلف رزقهم. يعتني البدو بمواشي الدروز طوال العام ويعطونهم منتجاتها وفق اتفاقٍ معلوم، ويحصدون زرعهم ويقطفون ثمار بساتينهم كعمالٍ مياومين لا يستغنى عن يدهم العاملة. اعتمد أهالي السويداء في أمنهم دوماً على الدولة ولم يحاولوا امتلاك أسلحة فردية، فيما اعتاد البدو على التسلح اللازم لحياة الترحال. دأبت الحكومة على افتعال الانتهاكات عبر بعض ضعاف النفوس من البدو حتى تُشعر الأهالي دوما بحاجتهم لحمايتها، ولم تتدخل حين كان عليها أن تفعل. كانت اللعبة مفضوحة إلى الحد الذي ولّد احتقاناً كبيراً تفاقم مع مقتل أحد شباب الدروز على يد بدويّ أطلق أغنامه في كرمه، فاحتجّ الأهالي وتدخل الجيش الذي بدوره قتل نحو عشرين شاباً من الدروز أثناء احتجاجهم، جميع إصاباتهم كانت في الرأس والصدر. ومن ذلك اليوم أنشئ في السويداء فرع المخابرات الجوية السيئ الذكر.

إنهم بنو معروف

دروز السويداء كمجتمع: بنو معروف. تصنيفهم الديني: طائفة الموحدين الدروز. انتماؤهم الوطني: سوريون. وانتماؤهم القومي: عرب.

المجتمع الدرزي شديد الخصوصية. هو مجتمعٌ يتماهى فيه العامل الديني بالثقافي والاجتماعيّ حدّ الانصهار. يحال هذا التماهي على طبيعة هذا المذهب المختلف جوهرياً عن باقي مذاهب الإسلام من حيث باطنيته وسريّته وانغلاق شروحه على مَن هم من خارجه. وكذلك ما تنطوي عليه تعاليمه من انغلاق باب الانتماء إليه على من قد يرغب في ذلك بعد انتهاء فترة الدعوة إليه التي بدأت في عهد الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله عند مشارف عام 400 للهجرة وانغلقت نهائياً في نحو العام 428 للهجرة. ويستند في هذا المسار إلى الإيمان بالتقمص، أي انتقال الروح من جسد إلى جسد عبر تتابع الأجيال. أي أنّ من اختار مذهب التوحيد في عهد الحاكم بأمر الله لا يزال يحيا بهذه الروح منذ بدء الخليقة إلى يوم الدين. وأن أسلاف دروز اليوم هم أنفسهم من اختاروا مذهب التوحيد في عهد الحاكم بأمر الله. أي أن المجتمع الدرزي أسقط من حساباته مشروع الانتشار المحليّ أو العالميّ، ولا يملك مشاريع تبشيرية توسعيّة لاستقطاب أفرادٍ أو جماعاتٍ جديدة، كتلك التي تسعى إليها باقي فئات الإسلام، وأنه يكتفي بأتباعه المختارين. أقصى طموحاته في هذا المجال أن يحافظ عليهم ويصون وحدتهم وكرامتهم ويحفظ كيانهم من التفكك ومن كلّ عدوانٍ خارجي محتمل.

نسبة محدودة من أبناء المجتمع الدرزيّ تتبع تعاليم الدين. هؤلاء يسمّون “الأجاويد” الذين يمكن أن يرتقوا بطاعتهم لله إلى مرتبة “العقّال”، في مقدمهم مشايخ العقل الثلاثة الذين يعتبرون المرجعية الروحية للدروز كافة. أما غالبية المجتمع الدرزي فيسمّون الجهّال (الجسمانيون، الجاهلون في أمور الدين)، أي غير المتدينين الذين ينتمون بحكم المولد والنشأة والموروث الاجتماعي إلى هذا المجتمع إلا أنهم لا يعرفون شيئاً عن عبادات دينهم، ولهم من مذهب التوحيد الاسم ولا سواه، ومع هذا فهم يضمرون الانتماء لإرث هذا المجتمع وثقافته، ويحترمون مكانة رجال الدين (الأجاويد)، وقد يستشيرونهم في ما يعسر عليهم من أمور دنياهم، أو يطلبون مباركتهم لمشروعٍ حياتيّ يقدمون عليه. في شأن الزواج مثلاً، لا يكفي تسجيل الزواج في المحكمة الشرعية، ولا يعتبر عقد الزواج شرعيّا بين عريسين درزيين إلا إذا أبرمه وأشهره رجل دين مختار من بين الأجاويد. في الملمات التي تعصف بالمجتمع الدرزي تبقى كلمة الأجاويد هي الأولى والمتبعة، وحين يرمي الأجاويد الحرم على مَن ارتكب الكبائر في حق نفسه أو في حق الجماعة؛ يصير هذا الحرم نافذاً.

لكلّ من فئتي الأجاويد والجهّال أسلوب حياة مختلف كليّاً عن الآخر، ومنغلق عنه. فالمتدين (الجويّد) لا يتزوج إلا من متدينة، ولا ينتسب لأي حزبٍ سياسيّ أو غيره، ويزاول الأعمال الحرة، ويرفض كسب رزقه من الوظائف الحكومية، ولا يكترث بالتعليم الدنيوي مع حرصه على التبحّر في أمور دينه. والعكس صحيح. فالجسمانيون منهم اختاروا طريق العلم. وفّروا لأبنائهم وبناتهم على السواء أعلى ما يستطيعون من تحصيلٍ علميّ، وانخرطوا بفعالية عالية في الأحزاب السياسية السورية على تنوعها، وخرج بعضهم على عُرف الجماعة حين اقترن بزوجةٍ من خارج الطائفة.

لكنّ في موروث المنتمي إلى المجتمع الدرزي بأجاويده وجسمانيّيه خصالاً جامعة ساهمت في تكوينها الحياة المشتركة. فمثلاً: تتواصل الفئتان في محطات الحياة لكل منهما، كطقوس الولادة والزواج والطلاق والمآتم، وحلّ القضايا الخلافية، بحيث تتبعان كلتاهما سلوكاً جامعاً قد لا يعثر له على تفسير، لكنه يُتّبَع كإرثٍ ديني -ثقافيّ – حياتي في آن واحد، بحيث لا يمكن فصلُ أحد هذه المؤثرات عن الآخر.

مذهب التوحيد يقدس الإنسان، ويقدس العقل في الإنسان. أتباعه – كعقلٍ جمعيّ: وطنيّو الولاء. يوصي كبارهم صغارهم: وأطيعوا الله وأولي الأمر. وتقضي تعاليم دينهم بالاقتران بزوجة واحدة فقط، والطلاق عندهم وحيدٌ وبائنٌ لا رجعة عنه. وهم يحفظون حق العائلة والقرابة والجيرة ويندمجون في كل مجتمع آخر ينوجدون فيه خارج حدود سكنهم، ولا يبادرون باقي المعتقدات بالعداوة، وفي الوقت نفسه لا يسكتون على ضيم، ويستميتون في الدفاع عن أنفسهم. أباةٌ، شجعان، ذادة حياض، كرام النفوس، قراة ضيف.

يضمر الجسمانيون، على رغم عدم تدينهم، تقديراً عالياً للأجاويد ويمنحونهم صدر المجالس في المحافل العامة حتى وإن كانوا الأصغر سناً بين الحاضرين، ويتكلمون أولاً، وتحترم تعاليمهم ووصاياهم. ويدرك كل فرد من الجماعتين في لا وعيه أنه ينتمي إلى هذه الجماعة في المصير، ولذلك حين يستشعر الطرفان أي خطر خارجيّ يصيرون كلاًّ واحداً يقتدي بمواقف العقّال بحيث يصعب على من هو من خارج هذه الجماعة أن يميّز: مَن منهم هو العقل المخطط.

هذا في الموروث؛ الموروث الذي لن يستيقظ إلا في أشدّ الشدائد، أي إذا هدّدهم خطر وجودي.

أما واقع الحال في السنوات الأربع الماضية، التي اعتبرت السويداء خلالها محافظةً آمنةً مواليةً للنظام على الرغم من أن الفساد، والقمع وإذلال الإنسان، قد استشرت في الدولة السورية كلها، بما فيها السويداء. ومع أنّ النخبة المتعلمة والمثقفة من محامين ومهندسين وأطباء ومعلمين قد انخرطت في الثورة منذ أيامها الأولى؛ فإن الشريحة العظمى من الناس ظلّتْ على حيادها اقتداءً بموقف مشيخة العقل التي دأبت على إحقاق صلاحياتها عبر حكومتها. وهذا لا ينفي الاحتقان الشعبي المزمن عبر خمسة عقودٍ تكرّس فيها تهميش المحافظة، وإهمالها، وتفقيرها، وتهجير أبنائها، والتنكيل بأصحاب الرأي فيها ورميهم في السجون، الأمر الذي بالغ النظام في تكريسه منذ أيام الثورة الأولى، وحشد له بذكاءٍ وخبرة وبكل وسائل البطش كلَّ ما يستطيعه من ترهيبٍ لمناهضيه، ومن امتيازاتٍ لمناصريه الذين بهم يضرب مناهضيه بوحشيةٍ يصعب حتى تخيّلها. استحدث لجاناً شعبيةً أمنية وحزبية وضع أمامها مهمة صارمة وحيدة: أن تمنع نزول الناس للتظاهر في الشوارع، وخوّلها إهانتهم وضربهم وسحلهم وسجنهم وتلويث سمعتهم بالعمالة للحركة الوهابية التي واظب في إعلامه على اعتبارها المحرّض الأساسيّ على عصيان الشعب السوري لأولياء نعمته، التي يعلم الدروز أنها تكفّرهم وتحلّل استباحة كيانهم كاملاً. وبما أن نصف الشباب المقيم في السويداء متطوع خلال العقود الأخيرة في المؤسسات المدنية والجيش والشرطة والأمن، وهذه الفئة بالذات تدافع عن لقمة عيشها في وظيفتها الحكومية، والنصف الآخر إما في المغترب وإما عاطلٌ فعلياً عن العمل، فقد سارع النظام إلى تشكيل جيش الدفاع الوطني الذي استقطب كل العاطلين عن العمل والزعران الذين كان أودعهم في سجونه بأحكامٍ جرميّة، وأصحاب السوابق. ومنح هؤلاء رواتب شهرية وسلّحهم وأطلق يدهم كمخبرين على الثائرين والصامتين، وكمشعلين للفتنة بينهم بأعمال السرقة والخطف ونثر الشائعات عن المسلحين الإسلاميين وقرب دخولهم إلى السويداء لذبح رجالها وسبي نسائها. هكذا انزوى العاقلون في بيوتهم، وصارت الكلمة العليا للسلاح. في الوقت الذي بدأ فيه تسليح الثورة، واستبدال مطلب الحرية والكرامة برفع الشعارات الإسلامية على راياتها، مما أدى بالجموع الصامتة إلى أن تبالغ في حيادها وصمتها، والنأي بنفسها عن معارك لا تعتبر نفسها أحد أطرافها.

لم تبدّل النخبة المتنورة موقفها. شاركت أيام التظاهر في التظاهرات الخجولة في السويداء، وناصرت المتظاهرين في درعا ودمشق وريفها وفي حمص، وتلقت التعذيب والسجن والترهيب والمحاربة في لقمة العيش. نُبذ المعارضون من ذويهم وجيرانهم، واتُهموا بالعمالة للخارج ولم يبدّلوا موقفهم، ولم يتراجعوا، وتفانوا في احتضان النازحين إلى السويداء من كل بقعة سورية قصفها النظام. ساهموا بمالهم وبوقتهم وبجهودهم في أعمال الإغاثة، ومنهم من تفرّغ لها كعملٍ طوعي خالص على رغم الخطر الأمني المحدق به، وتقاسم مع النازحين (المسلمين السنّة) السكن وأغراض البيت. للحق، ظلت لأعمال الإغاثة صبغة أهلية في أكثر من 80 في المئة من نشاطاتها، إذ ساهمت فيها جميع الشرائح الشعبية بغض النظر عن موقفها السياسي، لأنها، من غير أن تقصد، كانت تتصرف وفق موروثها الاجتماعي الذي سبق ذكره والذي يكرم الضيف أياً كان. في حين تقاعست الحكومة عن أداء واجبها تجاه النازحين السوريين الذين يفترض أنهم فرّوا من نيران الإرهابيين المسلحين.

مع استمرار التسليح كعدوى طالت كل الأراضي السورية، صار الأهالي يحاولون شراء الأسلحة الفردية بأي ثمن، وأعلنوا أنهم لن يستخدموها لا لصالح النظام ولا الثورة، إنما لدرء أي خطر قد يهدد أهل بيتهم.

للدروز كباقي الطوائف مشكلاتهم: هناك انقسام في مواقف مشايخ العقل: الذين يختلفون في مدى مناصرتهم للحكومة، وفي مدى إنصاتهم إلى نبض الشارع الذي أنهكه انفلات الأمن، وقبله الفقر والغلاء وتدني الخدمات المعيشية إلى الحضيض. ففي حين يتخذ أحد المشايخ موقفاً حازماً من النظام لمصلحة جماعته على الأقل كي تبقى على الحياد، يبالغ آخر بالارتماء في حضن النظام الذي يعده بامتيازات إضافية. أقصى ما فعلوه هو رمي الحرم على كل متطوعٍ في جيش الدفاع الوطني يشارك في عمليات دهم البيوت خارج محافظة السويداء، وما قد يتبع ذلك من قتلٍ أو سلبٍ أو تشليحٍ أو سرقة تلك البيوت. مع ذلك ضرب بعض عناصر الدفاع الوطني بهذا الحرم عرض الحائط وشاركوا في دهم الجيش للبيوت في مدن سورية كثيرة، وحرص الإعلام على إبراز دورهم في قتل إخوانهم السوريين لتأليب الجميع على الجميع.

في صفوف المعارضة لا يختلف الأمر عن حال المعارضة السورية ككل. لم يتفقوا على قيادة موحدة في ما بينهم وظهرت بينهم أصوات إقصاء الآخر المعارض، والتشكيك في أدائه ونياته، وحتى تخوينه.

المخاوف الوجودية اليوم

للدروز الآن مخاوفهم الوجودية بالتأكيد. فقد أفاقوا بعد ثلاث سنواتٍ سوريّة دامية، وفي هذه البانوراما السورية الشديدة التعقيد الآن؛ أفاقوا على حالٍ صاروا فيها خارج حسابات النظام وخارج حسابات المعارضة.

مخاوفهم كثيرة، وإيرادها هنا لن يكون حسب أهميتها، فكل سببٍ منها كفيلٌ وحده زعزعة استقرارهم، بل وجودهم.

مخاوفهم تأتي أولاً من غموض المخططات العالمية التي تحاك للمنطقة ككل، من تلويحٍ بالتقسيم، وبوادر لتجزئة الوطن الواحد واستبداله بكيانات أو إمارات ذات صبغة دينية. الأمر الذي لم يطلبه الدروز عبر تاريخهم الوطني، ولم يكن له مكان في أجندة طموحاتهم؛ بل أعلنوا رفضهم له حين فرضه عليهم الاحتلال الفرنسي ذات يوم، ولم يرتضوا الانسلاخ عن الحضن السوري الجامع لكل السوريين على اختلاف أديانهم وقومياتهم، ولم يتصوروا أنفسهم يوماً خارج هذا النسيج أو أصحاب امتيازات أقلّ أو أكثر من سواهم. كانت المواطنة السورية الجامعة دوماً السقف الذي ينشدون العيش تحته في وطن سوريّ موحّد وكريمٍ وحرّ وحضاريّ.

لا يعوّل الدروز على حمايةٍ مزعومةٍ من أميركا أو الاتحاد الأوروبيّ (أو حتى إسرائيل أو غيرها) ممن يتشدّقون بحماية الأقليات. يرون أن مصيرهم مرتبطٌ بمصير سوريا، ومن لم تحمه مواطَنته، لن يحميه أحد.

ثانياً من بيانات القوى الإسلامية المتطرفة دينيا (داعش وغيره) التي تعلن الجهاد على جميع من تعتبرهم مرتدّين عن الإسلام وفق معاييرها، الأمر الذي يثير مخاوف عالمية تطال الدروز كما تطال سواهم.

ثالثاً مخاوف نابعة من فهم طبيعة النظام الذي يضحّي بأيٍ كان في سبيل بقائه. النظام الآن يستشرس في إيقاد الفتن بين الدروز (بين المحايدين الصامتين وعناصر الدفاع الوطنيّ التي انتشرت كالجراد في كل مكان، وأشهرت أسلحتها في وجه أهلها أمام أي خلافٍ شخصي تافه)، وبينهم وبين البدو الذين يستوطنون الجبل مثلهم. يؤلّب ضعاف النفوس في كل فئةٍ ضد أخرى، ويجعل من هؤلاء جميعاً طعاماً لتكريس بقائه. وكذلك بين أهالي السويداء وجيرانهم في درعا، إلى أن تشتدّ الفتنة ويروح ضحيتها عشرات الأبرياء في كل حادثة قبل أن يتدخل النظام ويتظاهر بفضّها ويظهر في المحصلة بطلاً منقذاً وضامناً للأمن، وهو يعرف تماماً أنها لم ولن تنطفئ قبل أن يشعلها وتعود الكرّة من جديد.

الآن تتوارد الأخبار عن حشودٍ للقوى الإسلامية شرق محافظة السويداء على شريطها الحدوديّ الطويل الممتدّ من حدودها مع الأردن إلى شرق غوطة الشام. بعض المصادر تقول إنها قوى “داعش” التي ستنقضّ على أهالي السويداء (المرتدّين، الكفرة)، وبعضها يفنّد هذه المزاعم ويقول إنّه مجرد عبورٍ دوريّ للكتائب الإسلامية التي تدخل سوريا عبر الأردن، وتعبر هذا الشريط الحدوديّ قاصدةً الغوطة أو أبعد منها للقتال في الشمال السوري، وبعضها يقول إنه لا وجود لقوى عسكرية معتبرة، وإنما هذا الترويع مجرد شائعاتٍ يطلقها النظام لتكريس رعب الأهالي من الخطر الإسلامي المرابط على حدود محافظتهم ليزدادوا التفافاً حوله وثقةً به.

لا أحد يعلم الحقيقة. فهذا الأمر يحتاج لاستخباراتٍ على مستوى دولة، بينما دأب الإعلام الرسمي السوريّ على تضليل المواطنين بأخبارٍ واهمة مقصودة، أو التعتيم الكامل على حقيقة الأخبار. إنما أياً تكن الأخبار، فإنها تنبئ بخطرٍ محتمل. مع ذلك سحب النظام في الشهرين الأخيرين 80 في المئة من قطعاته العسكرية المنتشرة في السويداء منذ أول الأزمة، ووزعها على جبهاته المشتعلة في درعا وريف دمشق وربما أبعد، في حين لا يزال أبناء السويداء العاملون في الجيش موزعين على الخطوط الأمامية في كل هذه الجبهات بعيداً عن جبهتهم التي رُحّلتْ عنها دفاعاتُ الجيش.

أخيراً يدرك أهالي السويداء أن النظام لن يحميهم إذا تعرضوا إلى خطر لا يعتبره خطراً عليه، وقد يبيعهم حين تفترق المصالح. وأن أبناءهم المجندين في الجيش العربي السوري لم يكونوا إلا وقوداً لحروبه، ويعرفون أن كل هذا السلاح الذي وزّعه النظام على أنصاره كان له هدفٌ وحيد: فقط لحماية النظام، ولن يُسمَح باستخدامه لاستتباب أمن السويداء التي انفلتت فيها كيانات الدولة في العامين الأخيرين، ولا للدفاع عنها من خطر الإسلاميين المتطرفين. ولهم في هذا درسٌ قرأوه في ما حصل في الجزيرة السورية وحلب حين احتلتها “دولة داعش”، فلم يطلق النظام تجاهها رصاصةً واحدةً ولا قذيفة هاون ولا قصف طائرات ولا براميل متفجرة، علماً أن في الجزيرة السورية وحدها سلّة قمح سوريا، وآبار نفطها الوحيدة، وثروتها المائية، ومنبع طاقتها الكهربائية. فماذا قد يبذل من أجل محافظةٍ فقيرة كالسويداء لو كان الاحتفاظ بها سيكلّفه ما لم يعد يطيق بعد أربع سنوات حرب؟!

يدركون أيضاً أنه إذا سقط النظام فإن “قوى الدفاع الوطني”، التي اختيرت ممن يبيعون أهلهم لقاء حفنة مال، والتي تصرفت في السنتين الأخيرتين كعصابات مرتزقة؛ وحدها، وبمعونة السلاح الهائل الذي بين أياديها كفيلةٌ أن ترجم البلد وتغرقه في بحر الدم.

للغرابة: ومع استطلاع رد فعل الأهالي الذين يستشعرون كل هذا الخطر، تبدو الثقة في قدرتهم على التصدي له كبيرة، على رغم أنهم لا يملكون خياراتٍ كثيرة!

في الحقيقة هم لا يملكون أي خيار! يعرفون أنهم لن ينزحوا إذا استُهدفوا! فهم أصحاب أرض وليس من عاداتهم النزوح عن أرضهم عبر تاريخهم. ثقتهم مستوحاةٌ من أن هذا الخطر كفيلٌ نبذ خلافاتهم وتوحيدهم، ومن أنّ معركتهم، لو اضطروا إليها، لن تكون أقلّ من معركة وجودٍ إذا ما هوجموا في عقر دارهم. وثقتهم مستوحاةٌ من عزيمة هذا الشباب الذي توارث من أسلافه نفوساً شجاعة ترخص الروح وترتمي إلى الموت من دون حساب، وتؤمن أن لكلّ منية أجلاً، وأنّ من العار أن يحيوا أذلاء أو يموتوا جبناء.

قد تبدو مقومات هذه الثقة ضعيفةً حيال خطر وجوديّ محتمل قد تُرصد للحرب عليه جيوشٌ وترسانات أسلحة.

نعم. لكن لا خيار. هذا كل ما في الإمكان.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى