صفحات المستقبل

السياح.. مواطنو سوريا الجدد/ روجيه عوطة

 

 

حين تروّج الدولة الأسدية، ومن خلال عدد من الفيديوهات المنشورة في “يوتيوب”، للسياحة في سوريا، تبدو، بذلك، كأنها تستكمل المجزرة، التي ترتكبها بحق السوريين، قتلاً وتهجيراً وتدميراً.

فبعدما أطاحت البنيان، كاشفةً عن كونه، في أصل نظرتها إليه، مجرد حطام، لا يقوم من دون هيمنتها عليه. وبعدما اقتعلت المقيمين فيه، كاشفةً عن كونهم، معدومين، لا ينوجدون من دون حيازتها مصائرهم، حان وقت تصنيعها لـ”مواطنيها” الجدد. وهؤلاء هم السياح، الذين، لكي تنتجهم، عمدت إلى تصوير البلد بطريقة معينة، مشجعةً إياهم على زيارته ومفارقته من جهة واحدة، أي من الأعلى، حيث يظهر لهم خلاءاً مستوياً أمامهم.

تدور الكاميرا في أشرطة البعث السياحية فوق الأرض. وبفعل هذا، تحيل مشاهدها مباشرةً إلى المشاهد، التي تسجلها عدسات الطائرات الحربية في حين قصفها للأهداف البشرية والعمرانية وغيرها. فهي لا تلتقط سوريا بنفي رجائها الأوسع فقط، بل أنها، وحين تلتقط ما اختارته منها، تذهب إلى مسحها، أو بالأحرى إلى تفريغها من أناسها، الذين إما يغيبون عن الصورة، أو يحضرون على ضآلة وصغر.

بالإضافة إلى ذلك، تقبض الكاميرا على الأرض عبر تبديلها إلى سطحٍ مضبوط في إطارها، مما يجعلها، في بعض الأحيان، تغير عليه، كما لو أنها تتجهز لإزالته.

ولأن هذه الكاميرا، على ما تشير الموسيقى المستخدمة في صورها، لا تريد أن يعيقها أي تضريس من التضاريس، خصوصاً البشرية منها، فعندما تبلغ واحداً منها، تسرع في إلتقاطه على سبيل إلغائه. بالتالي، من الممكن القول أن هذه الكاميرا، وقبلها دولتها، تسير وفق آلية بائنة للغاية، وهو استدخال الأرض على سبيل إقصائها، وهذا ما لا يحولها إلى فضاء مفتوح طبعاً، بل إلى آخر مغلق ومقلوب. فلما تبين الكاميرا المعالم والآثار، تضعها في الأسفل، في العمق، ثم تسترها بالعراء، الذي تدعو به مواطنيها الجدد إلى القدوم من ناحيته، كما لو أنه بوابتهم.

على هذا النحو، تصنع تلك الكاميرا “سوريا السياحية”، بدءاً باختيارها أو تحديدها عبر نفي كل سوريا منها، مروراً بقلب تضاريسها، ووضعها في أسفل الأرض العارية من ناسها، وصولاً إلى مسحها، وتسويتها. وفي هذه الـ”سوريا السياحية”، سيظهر المواطنون الجدد، أي السياح، الذين لا يمضون إليها من خارج حدودها فقط، بل من داخلها أيضاً. فعلى الساكنين فيها، وبهدف البقاء، أن يستحيلوا سياحاً، وأن يلتزموا بتصور دولتهم عنهم، كغائبين عن أمكنتهم، أو كحاضرين على ضآلةٍ تامة فيها. فالمواطن الجديد هو السائح المقيم الذي يستقبل السائح الزائر.

في هذا السياق، يندرج كلام وزير السياحة بشر يازجي، الذي أكد في تصريح له على أن حملة وزارته الترويجية لا تهدف إلى “جذب السياح الأجانب”، بل السياح المحليين، الذي، بحسبه، ارتفعت نسبتهم كثيراً. كأن تهجير دولته للسوريين هو بمثابة طريق لتحويلهم إلى سياح، وكأن العلاقة بين نمو الإقتلاع ونمو السياحة هي علاقة طردية، بحيث أنه كلما ارتفعت نسبة التهجير، ترتفع نسبة السياح.

تمحو فيديوات وزارة السياحة أي إختلاف بين “السائح الأجنبي” و”السائح المحلي”، إذ تساوي بينهما، وتجعلهما مواطناً واحداً. وهو، لكي يصير على وضعه هذا، عليه أن يمتثل للدولة المستضيفة له، أكان من المقيمين على أرضها، أو من زائريها. وأول ذلك الإمتثال هو تعامله معها كأنها، ومثلما ظهرت في حركة كاميراتها، سيدة على كل تضريس، ما يخولها أن تعادل بين استضافته واستدخاله ومراقبته وقصفه. فهذه الدولة السياحية هي المقلب الثاني للدولة الأسدية، أي أنها الوجه المُرفِه والمُمْتِع لكل فاشية.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى