صفحات الرأي

السياسات العالمية والمحلية تبدّل جلدها ولا تستقر على قواعد منتظمة/ إينزو ترافيرسو

 

 

لم تضطلع المنظمات والاحزاب «المعتدلة»، في الأعوام الأخيرة، بتجديد الحركات اليسارية في أوروبا ولا في الغرب عموماً. ومن الأدلة على ذلك بروز جيريمي كوربين على يسار حزب العمال البريطاني، وبيرني ساندرز على يسار الحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة. والتياران تبلورا خارج الأجسام السياسية التقليدية، واستعملاها لأغراضهما. ففي الولايات المتحدة، تسلل تيار جسده «احتلوا وول ستريت» إلى قلب الانتخابات التمهيدية الديموقراطية، وتوسل بموقعه إلى استمالة المؤيدين لساندرز، والتأثير في الذين يؤيدون كلينتون من غير تبنيها تماماً حتى في مواجهة دونالد ترامب، بعد أشهر من الانتخابات التمهيدية. وفي بريطانيا، حلَّق كوربين حوله كتلة من الشباب الذين انتسبوا إلى حزب «العمال»، وهم يخططون لانتخاب رجلهم إلى رئاسة الحزب… من غير التعويل على الحزب.

وهذه سمة من سمات الحركات اليسارية الجديدة: فهي ضعيفة الثقة في الأحزاب، ولكنها «تستعملها» أداة وذريعة موقتة إلى غاياتها. ومثَّل ساندرز وكوربين على دينامية ولدت ونمت خارج هذه الأحزاب. ولا يبدو لي أن مثل هذه الدينامية يلوح في دائرة الحزب الاشتراكي الفرنسي. وانتصار بينوا هامون (المرجح يومها) في الانتخابات التمهيدية قرينة على اضطراب البقية الباقية من الحزبيين وقلقها، وعلى انقلاب الموازنات الداخلية، فوق ما هو علامة على تجدد الحزب. وإذا ترشح هامون عن الحزب فلن ينفك محشوراً بين نيوليبرالية إيمانويل ماكرون ومناهضة ميلونشون الليبرالية. وهو صادق في معارضته هولاند على يساره.

واليسار الأوروبي، شأن اليسار في الولايات المتحدة، على منعطف تاريخي. فالشوط الذي بدأ مع الثورة الروسية انتهى في 1989. وتظهر اليوم، أعراض استنفاد هذا الشوط. فاليسار يواجه عالماً جديداً، فريد الخصائص، بأدوات وأفكار تبلورت في القرن العشرين. ومثال الثورة الروسية الذي ساد القرن الماضي طواه القرن التالي (الحالي). والاشتراكية – الديموقراطية تقتصر في الأثناء، على رعاية التقهقر الاجتماعي. وشل انهيارُ الشيوعية تناقل ذاكرة اليسار وثقافته، وأزَّم عملية التناقل. فالحركات الجديدة، شأن «بوديموس» و «سيريزا» و «الساخطون» و «أوكوباي وول ستريت» و «الليل قياماً»، نشأت في عالم يفتقر إلى «أفق انتظار»، على قول راينهارت كوسيليك، من ناحية أولى. وهي، من الناحية الأخرى، عاجزة عن تصور المستقبل. وهي، إلى الأمرين، يتيمة وعاجزة عن الاندراج في تراث تاريخي متصل.

ولا ريب في أن نهاية الاشتراكية الفعلية (السوفياتية) أوهمت اليسار، لوهلة سريعة، بفرصة تحرر متاحة من وطأة المثال البائد. وحسِب اليساريون أن حملاً أو ديناً ثقيلاً حط عن كاهلهم، وأن اشتراكية أخرى ربما صارت في متناولهم ومطالهم. والحق يقال أن غرق الشيوعية السوفياتية جرّ معه تيارات أخرى معارضة أو منشقة: تيار مناهضي الستالينية، التيار الفوضوي… فاختصرت الشيوعية في بعدها الكلياني (الشمولي). وعجز اليسار عن ابتكار ثقافته المتجددة. واليوم، تجلى بعض عناصر الماضي في حلة مختلفة. فعامية (كومونة) باريس (ربيع 1871)، على سبيل المثل، ألبست طوال قرن كامل صورة المرحلة الأولى من حركة قادت إلى الثورة الروسية، فالثورة الصينية، وأخيراً وليس آخراً الثورة الكوبية… ويراها المعاصرون، أي نحن، في صورة حكومة ذاتية، قريبة من حركات اليوم. وجماعة الكومونة لم يكونوا عمالاً في مصانع منطقة بيانكور، فهم حرفيون، وعاملون موقتون، ووضعاء المكانة، يخالطهم فنانون ومثقفون متشردون. وهذه السمات تقربهم من الهشاشة الاجتماعية التي تصف الفتيان الناشطين الذين يساهمون في التحركات الاجتماعية المعاصرة.

والقول إن عامية باريس انتهت إلى فشل وإخفاق، وقد لا تصلح مثالاً، يغفل عن أن تاريخ اليسار هو سجل إخفاقات! وحين أطاح الثوريون السلطة لم يكن مآل الأمور إلى حال أحسن من الحال السابقة… وهذا هو السبب في ملازمة الكآبة ثقافة اليسار. وفي معظم الاوقات، كبتت نظرة جدلية الى التاريخ هذه الكآبة: فالهزائم، على فداحتها، لم ترتب الرجوع عن حتم الأفق التاريخي المتوقع والماثل وعن أن التاريخ الموعود هو تاريخنا. وهذا اليقين القوي كان عاملاً يساعد على تخطي الهزائم. وهذه الموارد اليوم، نفدت، وعادت الكآبة اليسارية إلى وضح النهار، وكانت بمثابة تراث وتقليد خفيين ومستترين، على نحو ما يجدها القارئ في مذكرات لويز ميشال (من عامية باريس)، وبعض نصوص روزا لوكسمبورغ عشية اغتيالها، أو في لوحة «دفن في أورنان» التي رسمها غوستاف كوربيه على شاكلة كناية فريدة عن ثورة 1848. وهي كآبة مواسية، وقرينة على الرجاء، وعضد معتقد هؤلاء الراسخ.

وتحمل الكآبة، عادة، على حداد مرضي وعجز عن ترك موضوع العشق والهوى، والانسلاخ عنه بعد خسارته، والخطو صوب المستقبل. وأنا أرى، على خلاف الوصف الفرويدي المبسط، أن الكآبة قد تكون شكلاً من أشكال التماسك الذي يغذيه إحساس متأمل ومتدبر. فالتاريخ الذي يكتبه المهزومون، على ما يرى كوسيليك، هو تاريخ نقدي، على خلاف التاريخ المظفر والمختال الذي يكتبه المنتصرون. والكآبة من موارد المعرفة والفعل في الحاضر. وبعض اليسار يقول: «ينبغي الابتداء من الصفر». ولكن الافتقار إلى ذاكرة ينزل الهشاشة في الحركات السياسية. فابتكار الاشتراكية في القرن التاسع عشر هو غير تجديدها في مطلع القرن الواحد والعشرين، وكأن أمراً لم يكن.

وكانت حركات اليسار تلتقي وتنسق في ما بينها من طريق الأجهزة والأبنية المنظمة. وفي 1968، كان الالتقاء بين حواجز باريس، وربيع براغ، وهجوم رأس السنة القمرية بفيتنام، موضوعياً، من غير تمرس هذه الحركات بالحوار في ما بينها. أما ناشطو القاهرة واسطنبول ونيويورك ففي مستطاعهم التواصل، وهم يتواصلون تلقائياً. ويفصل بينهم اختلاف ثقافي عميق… وفي ستينات القرن الماضي، غذى النضال الاجتماعي على الجبهات المتفرقة فكر نقدي مشترك. فما كان سارتر يكتبه يقرأ في آسيا وأفريقيا، بينما يجهل ناشطو حركات الربيع العربي أسماءَ أعلام نقاد ما بعد الكولونيالية. فليس أمراً يسيراً حياكة خيوط ثقافة بديلة.

وأنا أجمع تحت مفهوم «ما بعد الفاشية» حركات تنشأ في مرحلة الانتقال التاريخية الجارية. والمفهوم عون على تحليل حركات اليمين وفهمها، وظاهرتها المائعة وغير المتجانسة إبان انقلابها من حال إلى حال. وبعض هذه الحركات فاشي جديد، مثل حركة «جوبيك» في هنغاريا، أو «الفجر الذهبي» في اليونان. وبعضها الآخر، شأن الجبهة القومية في فرنسا، في طور تحول. ومعظم هذه الحركات ولد من رحم تاريخية فاشية. وأصول الجبهة القومية فاشية، على خلاف ما هي عليه اليوم، وخطابة زعيمتها جمهورية. وترامب زعيمٌ ما بعد فاشي من غير فاشية. وهو مثال الشخصية المتسلطة، على ما عرفها أدورنو في 1950. وبعض بياناته العامة يذكر بعداء السامية الفاشي، وبمديح الشعب المتجذر في أرض وتربة على نقيض النخب المدينية، المقتلعة والمثقفة، الكوسموبوليتية واليهودية (طبقة وول ستريت المالية، الاعلام النيويوركي، رجال السياسة الفاسدون بواشنطن). إلا أن برنامج ترامب بعيد من ملكية الدولة الفاشية، ويخالف نازع اليمين المتطرف إلى التوسع، في ثلاثينات القرن الماضي. وليس وراءه حركة فاشية يقودها.

وأتحاشى استعمال صفة «الشعبوية». فهي تجمع، على النحو الذي تستعمل عليه، أيديولوجيات سياسية متناقضة. ومعظم من يستعملونها يدلون بها على حركة خمسة نجوم وراء بيبو غريلو ورابطة الشمال (الايطالية)، أو على مارين لوبين وجان – لوك ميلونشون، ترامب وساندرز… وهؤلاء لا تجمع بينهم قواسم مشتركة. وحركة «بوديموس» تتبنى التسمية، وهذا من أصداء التاريخ اللاتيني الأميركي ويقصد غاية مختلفة هي دمج الطبقات الاجتماعية الشعبية في نظام سياسي يلفظها ويقصيها. وترى «بوديموس» أن الشعبوية قد تتيح تخطي حاجز بين اليمين واليسار تجاوزه الزمن. وهو معنى لا يجوز تعميمه على أوروبا. فشعبوية حركات ما بعد الفاشية تسعى في رص الشعب على النخب من طريق إقصاء الاقليات المتحدرة من الهجرات، أي من طريق إقصاء شطر من الشعب نفسه.

ويعود انتشار الشعبوية إلى الفراغ الذي لا يملأه من هم يتربعون في سدة السلطة، وتخلفه سياستهم. فلفظ السياسة، والنأي عنها، برز في أواخر القرن العشرين حين اقتصرت على إدارة السلطة وتدبيرها، وخلت من كل مادة أيديولوجية، واقتصرت على التخفف من السياسة. وفي الأعوام الأخيرة انتقل الحكم من طاقم حزبي إلى طاقم آخر كان في المعارضة، من غير فرق في الإجراءات الاقتصادية، على سبيل المثل. وحيث يُفتقر إلى «أفق انتظار»، وإلى توقع طوبي ما، تتولى الأحزاب الما بعد فاشية الزمام: فهي ذات باع في تقويض المؤسسات. والأمة – الدولة شكل تاريخي موقت بوقت وزمن. وتقر الحركات القومية المتطرفة اليوم بفوات المقالات والنزعات القومية العدوانية والتوسعية التي غلبت في النصف الأول من القرن الماضي. وعدوانيتها الحالية موجهة إلى الجماعات المتحدرة من الإدارات الاستعمارية المحلية. وتصاغ الأمة في صيغة «الهوية القومية». ولا يبعد أن يؤدي انهيار اوروبا، إذا انهارت، وانفجرت أزمة اقتصادية عامة على نطاق القارة، وضرب الاضطراب السياسي الدول والأحزاب، إلى تطرف الجبهة القومية وانقلابها إلى حركة فاشية جديدة.

* أســتاذ في جامعة كــورنيل (الولايــات المــتحدة) الأميركية، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 28-29/1/2017، إعداد منال نحاس

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى