صفحات سورية

السياسة الخارجية القطرية تجاه سوريا… من البراغماتية الى البراغماتية


منذر عيد الزملكاني

روجت قطر لسوريا الأسد وحزب الله بطريقة رسمت من خلال إعلامها لهما صورة الأبطال. بادل الأسد ونصرالله، الشيخ حمد الود بالمثل. اليوم نعيش تعريفات تقلب الأمور كلها. فالأبطال صاروا مجرمين، وأمير المقاومة صار أمير المؤامرة.

منذ عام 1995 دأبت دولة قطر على رسم خط جديد للدولة يميزها عن أي دولة خليجية أخرى ويعطيها وزنا سياسيا أكبر، ليس في محيطها الخليجي فحسب بل والعربي ايضا. والحاكم الذي يكون همه رفع شأن أمته ما من شك بأنه مخلص لوطنه وشعبه. لقد دخلت قطر عالم السياسة العربية والدولية من باب الاعلام. لأنها علمت أن الاعلام في عصر العولمة، عصر السنوات الخداعات هو الخافض الرافع. فمن خلال قناة الجزيرة رفعت دولة قطر أقواما وأذلت آخرين، والأقوام هنا أحزاب وأفراد وربما دول. ووزعت عليهم الألقاب والأوسمة بحق أو بغير حق.

لكن دخول دولة قطر السياسة الدولية من باب الاعلام وضع على كاهلها أعباء كبيرة وفرض عليها سياسة خارجية براغماتية أذهبت ببعض بل بجل عقلانيتها خصوصا في العلاقة مع سوريا وحزب الله، مما أوقع السياسة الخارجية القطرية في أخطاء رهيبة، وهي مستعدة الآن لدفع مئات المليارت من الدولارات لتصحيحها. وأخطر هذه الأخطاء هي تلك العلاقة الكبيرة والودية جدا بين قطر وسوريا حتى أنها تطورت الى علاقة شخصية بين الأمير حمد وبشار الأسد. وهذا ما أوقع الأمة العربية كلها في فتنة وكارثة مفاهيمية كبيرة يعود الفضل للثورة السورية في وأد تلك الفنتة وتصحيح تلك المفاهيم. والفتنة هنا هي انزلاق الأمة نحو مشروع التشيع السياسي بفضل الترويج الاعلامي غير العقلاني من قبل عاصمة الاعلام العربي (الدوحة) للنظام السوري ومن وراءه لحزب الله. وبنفس الوقت أوقع السياسة الخارحية القطرية في ورطة كبيرة بعيد انطلاق الثورة السورية لأنها لم تستطيع أن تنقلب مباشرة كما انقلب النظام السوري عليها، فكان عملا شاقا لتغيير صورة بشار الأسد من كونه صديقا بطلا مقاوما بالامس الى مجرم قاتل للأطفال والنساء اليوم، لأن ذلك سيكشف االعقلانية الغائبة في السياسة الخارجية القطرية أو يبين ضعف الأفق السياسي لديها.

والعقلانية في السياسة الخارجية تنطلق أولا وأخيرا من المصالح الوطنية للدولة والتي تبنى قبل كل شيء على أساس عقدي وايدلوجي واضح وثابت، لا يتزعزع ولا يتحول مهما مضت السنين، ولا يتغير الا بتغير عقيدة الدولة نفسها. فالبراغماتية لا تكون في الأصول بل في الفروع. لذلك لا تجد دولة تتبنى الليبرالية عقيدة ومنهجا تدعم دولا شيوعية أو اسلامية والعكس صحيح. ولاتجد دولا سنية تدعم مشروعا شيعيا مسيسا في ذاته وفي أهدافه يتخذ المقاومة غطاء له. فهو مسيس في ذاته لأنه مرتبط بولاية الفقيه، ومسيس في أهدافه لأن غايته هو زيادة النفوذ الايراني في الدول العربية، وليس تحرير البلاد من الاحتلال. وزيادة النفوذ الايراني كان لتطويق الأمة العربية وضرب بنيتها الاجتماعية، وليس لارهاب اسرائيل. فأعداء الأمة ورغم تناقض ايديولوجياتهم واختلاف أهدافهم هم حلفاء عندما تكون الحرب علينا، وتلك هي العروة الوثقى التي يستمسكون بها لا انفصام لها.

ولو أجريت عملية مراجعة للعلاقات السورية القطرية لمعرفة ما هي تللك المبادئ التي ارتكزت عليها قطر في ترسيخ علاقتها مع سوريا وحزب الله الى هذا المستوى لما وجدنا شيئا يذكر، سوى رغبة قطر في أن تكون جزءا معتدلا في محور الممانعة أو المقاومة ربما لتكفر عن ما مضى في علاقتها مع اسرائيل. فكانت بوق ذلك المحور وعماده الاعلامي الى درجة أصبح من الصعب التفريق بين قناة الجزيرة وقناة المنار في السياسة الاعلامية الموجهة والمتعلقة بالمقاومة المزعومة والمتعلقة أيضا بالصراع الداخلي اللبناني. ومع أن قطر تعلم حقيقية ذلك المحور وأين مركزه وما هو هدفه، لكنها لم تستطع كشفه أو تحديه فركبت موجته ودعمته وروجت له الى درجة وصل الأمر بحسن نصرالله أن يصف الأمير حمد بأمير المقاومة، واستدعت الجهود القطرية الحثيثة في الاصلاح بين اللبنانيين استحسان وامتنان نبيه بري حيث قال يوما “ان أول الغيث قطرة فما باكم بقطر”. والحادثة في الدوحة طبعا.

لكنن بعد قيام الثورة السورية ووقوف قطر مع الشعب السوري انقلبت المفاهيم فجأة عند النظام السوري وعند حزب الله، فمن كان أمير المقاومة بالأمس أضحى أمير المؤامرة اليوم، حتى وصل الأمر الى النيل الشخصي من المسؤولين القطرين دون مراعاة للخبز والملح كما يقول السوريون. أما دولة قطر فبدأت بنقض غزلها من بعد قوة متحسرة على ذلك الخطأ الاستراتيجي الرهيب، لتبدأ غزلا جديدا وسياسة خارجية جديدة داعمة للثورة السورية. فعلى الصعيد العربي والدولي لم توفر قطر أي جهد في دعم الثورة السورية وتجريم النظام القائم في سوريا لما يرتكبه من مجازر ضد الشعب السوري الى درجة وضعت نفسها في مقارعة بعض القوى الدولية الكبرى المؤيدة لنظام بشار الأسد. لكن على صعيد دعم الثورة السورية في الداخل، لم تتخذ دولة قطر سياسة موفقة وذلك بسبب الاعتماد على مستشارين وخبراء ومفكرين ينتمون الى اتجهات فكرية وسياسية غريبة عن عامة الشعب السوري ويريدون أن يسبغوا الثورة السورية والثوار بفكرهم، لكن الثورة السورية من ذلك براء. فانتهجت دولة قطر سياسية براغماتية لكن من نوع آخر تجلت في مايلي:

أولا: تحاول قطر وتحت تأثير شخصيات نافذة تعيش على ثراها دعم تيارات وشخصيات يسارية ويمينية سورية ليس لها من أمر الثورة شيء، وكأنها نسيت بأن الشعب السوري الثأئر هو بأكثريته العظمى لا يميل يمينا ولا يسارا، وليس شعبا علمانيا أصلا. بل هو شعب يعتز بدينه ووطنه، قام بثورته من أجل حريته وكرامته. وبلغ تأثير تلك الشخصيات على السياسة الاعلامية تجاه الثورة السورية، تماما مثلما فعلوا عند الترويج لحزب الله وتوريط دولة قطر بذلك. ثم كيف لدولة قطر بأن تدعم تيارات يسارية وقد دق الموقف الروسي والصيني تجاه الثورة السورية المسمار الأخير في نعش التيارات اليسارية، ليس في سوريا فحسب بل في الوطن العربي عموما. لذلك فان الاستثمار فيهم ليس من الحكمة في شيء ولن تجني قطر منه شيئا.

ثانيا: تتبنى قطر الانشقاقات السياسية والدبلوماسية والنخبوية المجتمعية وتنفق عليها كثيرا، لكنها تهمل الانشقاقات العسكرية التي هي أكثر تأثيرا في النظام. فالضباط المنشقون لا يلقون الاهتمام اللازم من رعاية وتدريب وتجهيز من أجل اعادة انتشارهم على الأراضي السورية، وهم المعول عليهم في اسقاط النظام، وسيكون لهم دور فاعل في بناء سوريا المستقبل. فالمعركة هي معركة عسكرية بمسارها ونهايتها. اضافة الى أن الاهتمام بالضباط المنشقين يفوت الفرصة على الدول الأجنبية ذات المخططات المريبة ويعيق ما بدأت به من التواصل معهم مستفيدة من وضعهم البائس. إلا أن دعم الضباط المنشقين يجب أن يكون من خلال هيئة سياسية وطنية سورية، لأنه من غير الوارد أن يحدث تواصل مباشر ما بين الضباط في جيشنا ودولا عربية وأجنبية.

إن مايريده الشعب السوري من كل الدول العربية هو دعمه المباشر، فثورته هي ثورة الأمة، وليس دعم نخبه اليسارية أو اليمينية والتي لا تمثله. وايضا الاستثمار في الثورة السورية لأنه استثمار في سوريا بعد الثورة. والاستثمار هنا ليس بالمعنى الاقتصادي، بل بمعنى تأسيس قواعد لعلاقات استراتيجية متجذرة بأصولنا التاريخية، يكون فيها العرب جميعا هم العمق الاستراتيجي لسورية وتكون هي السند لهم في تحالف عضوي كبير وقوي في وجه عدو متربص بالشرق وآخر في الغرب.هذا هو الطريق نحو محور ممانعة ومقاومة أصيل وحقيقي يعيد القدس الى أهلها والأهواز الى عروبتها ويسترد فيه خليجنا أمنه وهويته.

أكاديمي في مركز الدراسات السورية في جامعة سانت أندروز، المملكة المتحدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى