صفحات سوريةمعتز حيسو

السياسة بين العصبية والعقائد الأيديولوجية/ معتز حيسو

 

 

في أزمتنا الراهنة، يتساوى حملة الأيديولوجيات العقائدية المغلقة، في متلازمة العمى العصبوي العميق. فالشعارات تتعدد، كذلك الانتماءات والهويات. لكنها جميعاً تتقاطع في الادّعاء بامتلاك الحقيقة. فيتحوّل المدني والديني في مناخ ثقافي أحادي إلى وجهين لعملة واحدة. وفي ظل ضعف الدولة أو قمعها لمواطنيها، يزداد شعور الأفراد بالغربة عن وطنهم، فيتم استبدال الانتماءات الوطنية بولاءات دينية وطائفية وإثنية وجهوية، ويسود الإحساس بالخوف والرعب، وتنتعش تلك الولاءات في بحثها عن مرجعيات خارج أوطانها.

وقد ساهم في تعميق عوامل التخلف السياسي، اشتغال السلطات السياسية على إحكام سيطرة العقل الريفي على آليات اشتغال العقل السياسي المديني. وكان يتم في السياق ذاته قمع أي حراك سياسي معارض. وقد تحوّل ترييف العمل السياسي إلى ظاهرة إشكالية بحكم تلازمه مع آليات تفكير عقائدي، ساهم في إعادة إنتاج المنظومات المعرفية والفكرية والسياسية. فالعقل السياسي بتركيبته وبنيته الراهنة، لم يغادر الماضي ولم يقطع معه معرفياً. فالتخلف المعرفي وهيمنة الماضي على الحاضر، ساهم ولم يزل يساهم في تحويل المنظومات المعرفية المفتوحة على التطور إلى أيديولوجيات وعقائد مغلقة. وتزامن ذلك مع تنامي ظاهرة «العائلية السياسية» التي ساهمت مع العوامل السابقة في تحويل الأحزاب السياسية أطراً مغلقة نابذة أي مشاركة شبابية مبدعة وناقدة.

من المعلوم أن بنية العقل العصبوي وآليات اشتغاله، تتناقض مع بنية العقل الوطني الذي يستمدّ حضوره من مفهوم المواطنة وقيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. ومع ذلك، فإن العصبية كأحد أشكال التفكير والممارسة، ما زالت تؤثّر بأشكال ومستويات مختلفة على آليات التفكير والممارسة السياسية. وهذا ينطبق على المجموعات الجهادية التي ترتكز بنيتها العقلية والفكرية والعقائدية إلى العصبية. ومثالنا في ذلك الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش». فأميرها أبو بكر البغدادي يجاهر بنَسَبه إلى قريش، وبأنه من أحفاد الحسين، وقد أعلن من خلال أبو محمد العدناني، أن المخرج من الأزمة التي تعاني منها المجموعات الجهادية يكمن في التوافق على اختيار خليفة للمسلمين. وهذا بحد ذاته يُعبّر عن تمسّكه بدولة الخلافة التي قامت على العقيدة والعشيرة. ولا تختلف باقي المجموعات الجهادية عن «داعش». إذ أن جذرها المعرفي يعود إلى البنية العقائدية والعصبوية ذاتها التي تُقدّس العنف الديني الموجّه ضد النصارى والروافض والعلمانيين، وحتى المسلمين المتنوّرين والمعتدلين لا يسلمون من التكفير والعنف، وذلك انطلاقاً من احتكارها تمثيل الإسلام الذي يستدعي من وجهة نظرهم إقامة دولة الخلافة الإسلامية. ولن تقوم دولة كهذه إلا بعد تهديم حرية الاعتقاد والاختيار والتفكير، وهذا يشكّل مأزقاً فكرياً وسياسياً، أما تجاوزه فإنه يكمن في بناء دولة المواطنة.

أما في ما يتعلق بـ «الائتلاف الوطني» المعارض، فمن يتحكّم في سياساته وقراراته، هم صقور الحركة الإخوانية وممثلو العشائر. ويندرج ابتعاد رموز «الإخوان المسلمين» عن تولي رئاسة المجلس الوطني ولاحقاً الائتلاف، في إطار تكتيك سياسي يعتمد القيادة من الخلف. وهذا يتيح لهم إمكانية التنصّل من المسؤولية المباشرة عن قرارات لا يمكن أن تُؤخذ من دونهم. لذلك، فإن وجود شخص مثل معاذ الخطيب على رأس الائتلاف، كان يمكن أن يعرقل تنفيذ سياساتهم ويحدّ من نفوذهم، فكانت استقالته نتيجة اشتغال تلك الأطراف على إفشاله. أما مصطفى الصباغ، فقد حاول قيادة الائتلاف في حركة سياسية تستغرق التناقض الإقليمي. لكن تنامي الدور السعودي ضمن الائتلاف قلّص الدور القطري، ومعه كتلة الصبّاغ، ليتقدم الجربا صفوف الائتلاف. فهو من «وجهاء عشيرة شمّر» ومدعوم من العربية السعودية، التي اشتغلت على تدعيم موقفه من خلال تطعيم الائتلاف بكتلة ذات ميول يسارية تساند مواقفه. ويتضح مما سبق أن بنية الائتلاف السياسية تقوم على المحاصصة العمودية. وهذا يعني أن العصبية تحكم سياساته. أمّا دعوته إلى إسقاط النظام لإقامة دولة مدنية ديموقراطية تعددية، فإنها تتناقض مع طبيعة وبنية مكوناته السياسية والعسكرية.

أخيراً، نؤكد على أن تشابك خيوط الاختلاف في تأويل النص المقدّس مع خيوط الصراع السياسي يساهم في تحويل الوعي السياسي إلى معتقدات مغلقة. وهذا يُعيد إنتاج الصراعات السياسية الراهنة من منظور طائفي مغلق وعميق. ويدلل في اللحظة ذاتها على أن العقل السياسي السائد يستند في آليات اشتغاله إلى العصبية في سياق توظيفه السياسي للاصطفافات العمودية (إثنية، مذهبية، جهوية، عقائدية، وعشائرية)، وهذا يجعله في ظل هيمنة التخلف أكثر استبداداً وأحادية. وفي ذلك يكمن دمار الإنسان وضياع الوطن وانقسام الجغرافية وصراع الولاءات في بحثها عن شرعية خارجية.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى