صفحات العالم

السياسة كفعل تراجيدي/ عصام الخفاجي

 

 

ينتهي المؤرخ أو الكاتب في الشأن السياسي ممّا عمل عليه وهو يشعر بأنه قال ما يريد قوله. يحلّل مرحلة أو عملية أو توجّهاً وتبقى لديه، إذا كان جاداً ونزيهاً، أسئلة يسعى إلى إيجاد أجوبة عنها. لكن عمله ينطوي، مهما بلغت موضوعيته، على حكم يخطّئ أو يؤيد قائداً أو حركة أو سياسة. فالإبداع، أيّاً كانت طريقة التعبير عنه، هو نقد. والنقد ينطوي على حكم ضمني أو صريح.

أسئلة التاريخ تبقى مفتوحة. نزاهة المؤرخ تقاس بعدم تشويهه الوقائع. لكن لا أحد يطالب مؤرخاً أو يتوقع من غير الروبوت ألاّ يتبنى منظومة قيم، إلاّ نحن العرب الذين اكتشفنا مفردة «أكاديمي» مفترضين أنها تعني المحايد البارد فابتذلناها بعدما لاكها الغرب قروناً.

تتبنّى كتب التاريخ الرسمية في الصين تقييماً يقول إن ماوتسي تونغ كان مصيباً بنسبة ثمانين في المئة ومخطئاً بنسبة عشرين. لا نقاش على سُخف المقياس الإحصائي المستخدم في حساب التاريخ، لكن مَن في وسعه الحكم إن كانت سياسات الحزب الشيوعي هي التي وحّدت الصين المفتّتة وتطوّرها، وهي «الثمانين في المئة الإيجابية»، أم أنها كانت ستتحقق بأي حال من دون سقوط ما لا يقل عن أربعين مليوناً ضحايا للتوحيد والتقدّم، وهي «العشرين في المئة السلبية»؟ فما بالنا بالكتّاب الذين ينظرون بعين الحنان أو العداء إلى فترتي الحكم الملكي في مصر والعراق؟ لكنها تبقى أسئلة تاريخ لن تغيّر الصين ولا العراق أو مصر.

أسئلة الحاضر حارقة لأن المسافة بين التقييم والتحليل وبين صنع القرار السياسي شديدة التشابك. أتواصل مع أحبّة في قيادة الائتلاف الوطني المعارض السوري والحراك المدني العراقي. بعضهم يوافق على تحليلات عرضتها وأكثر منهم يعارضونها.

الثورة السورية، بوصفها حراكاً جماهيرياً يرمي إلى إسقاط نظام استبدادي ليقيم نظاماً مدنياً ديموقراطياً محلّه، انتهت واستحالت حرباً بين عصابات وأمراء حرب، بمن فيهم عصابات نظام البعث (التي تخوض صراعات في ما بينها) وحلفاؤه من ميليشيات لبنانية وعراقية يسعى كل منها إلى اقتطاع أكبر ما يمكن من أرض وبشر وموارد يحكم سيطرته عليها.

الحراك المدني العراقي ضد النظام الطائفي وفساده الذي انطلق قبل عام، صار منذ ثلاثة أشهر حراكةَ شعبويٍّ مستبدٍّ ينطوي معلناً اعتكافه لحظة يرى الأمور سائرة في غير مصلحته، ويندفع مهيّجاً قطعانه لحظة أخرى. وسيبقى الرجل ثائراً ضد الفساد والطائفية حتى يتحقق أمله بقيادة حركات الإسلام السياسي الشيعي، أي قيادة العراق.

يقول أصدقائي: كن محلّنا. تعال تولّ قيادة المعارضة المدنية السورية. تعال قُد الحراك المدني العراقي. ما خططك وسياساتك وقد قدّمت تحليلك؟ (لمن يتذكّر مسرحية نزل السرور لزياد رحباني: حاج تحلّل وحياتك/ تسلم لي تحليلاتك). جوابي بسيط: لا أعرف.

أنا ابن جيل عاش محناً يعيشها ديموقراطيو مصر وسورية والعراق اليوم. أنا أبن جيل كان شبابياً وابن تيار شتم وخوّن من ساوموا. وأنا اليوم من دعا أصدقاءه الشبان اليساريين المصريين إلى ألاّ يغالوا بمطالبهم وهو يعرف أنه سيكون في أعينهم يمينيًّا في أحسن الأحوال أو متخاذلاً في أسوئها. أكان ممكناً التفريق بين مطلب سيادة القانون وفرض مفهوم تحويل الدولة بكل أجهزتها إلى خادم للشعب معرّض للمساءلة وبين اللهاث وراء انتخابات كان معروفاً أنها ستؤدي إلى صعود الإخوان المسلمين الذين سيدوسون سيادة القانون؟

وأيّا كانت قسوة الأمر، دعوت على صفحات «الحياة» قبل أقل من سنتين إلى تلاق بين ائتلاف الثورة السورية و«معارضة الداخل» للمساومة مع نظام الأسد.

السياسة فعل تراجيدي… لأنك تعرف أن ثمة قضية هي قضيتك. لكنك تعرف أن مآل صراعك من أجلها سيقود إلى غير ما تريد وقد يؤدي إلى عكسه. هي فعل تراجيدي كما التراجيديا الإغريقية حيث النتائج محدّدة سلفاً.

كنّا شباناً حين عرض نظام البعث العراقي على الحزب الشيوعي العراقي الجماهيري آنذاك مشاركته في «جبهة وطنية تقدمّية». عرضها بعد أن قتل ثلاثة (وهو المتغلغل مخابراتياً في الحزب) من قادته فضلاً عن مناضلين من كوادره. شتمنا الحزب الذي وافق على دخول تلك الجبهة. حين أفكّر بالأمر الآن: السياسة فعل تراجيدي. عرفت بعد سنين أن لجنة الحزب المركزية انقسمت نصفين، ورجّح التحالف مع البعث صوت واحد (ولعل هذا يدفع من رأوا ويرون أن الحزب كان أداة بيد السوفيات إلى إعادة التفكير). وعرفت لاحقاً أن جثث القادة التي «عُثر عليها» كانت جثث من عارضوا التحالف. فماذا تفعل أيها المحلل المعارض للجبهة القومية الوطنية التقدمية؟ إن رضيت بها ستموت جماهيرياً، وإن قبلت ستموت جسدياً. لم يكن هذا حال آخرين. لم يكن الحزب الشيوعي السوري مهدداً بالتصفية لكنه آثر المكاسب، لكن لهذا حديثاً آخر. وماذا ستفعلون يا مناضلي عشرات الحركات المدنية والديموقراطية الإيرانية عامي 1978 و1979 وأنتم الذين ركّعتم نظام الشاه عبر إضراب عمال عبّادان بمرافئ تصدير النفط وبمصافيه، وكنتم تعرفون سلفاً أن الإسلام هو المقبل لا محالة؟

السياسة فعل تراجيدي. لا أشك في نوايا أصدقائي الديموقراطيين السوريين وهم يصارعون من أجل تحسين وزنهم في ائتلافات التفاوض الجنيفية، لكنني أعرف من تجربة متواضعة، من معايشة لا مشاركة في صراعات الحركات المعارضة لنظام البعث التي عملت على إسقاطه، أن جماعات الإسلام السياسي الشيعي لم تأبه بصراعات العلمانيين في ما بينهم على من يقود المعارضة: المؤتمر الوطني العراقي بقيادة الراحل أحمد الجلبي أو حركة الوفاق الوطني بقيادة أياد علاوي. كانت تعرف أنها من سيقود عراق ما بعد البعث وكان صراعها داخلياً: من يقود الإسلام الشيعي، حزب الدعوة أم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية؟

السياسة فعل تراجيدي. الديموقراطي السوري والعراقي يمر بالمحنة ذاتها. مئات الفاعلين الديموقراطيين السوريين خرجوا إلى المنافي كما خرجنا، نحن العراقيين قبلهم بأربعة عقود. ومثلهم من عاد إلى دمشق. وآلاف من المناضلين يمنّون النفس بأن قتالهم نظام البعث إلى جانب الإسلاميين المتشدّدين كما العراقيين النازلين إلى الشوارع خلف الصدريين سيعرّف الأخيرين بأن ثمة نقاط التقاء مشتركة بينهم وهم يعرفون أنه وهم.

السياسة فعل تراجيدي.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى