صفحات الرأي

السياسة.. كمهنة سلطوية «مقدسة»

 



ماجد الشيخ

في ملفها المعنون «السياسة وعالم المال»، تطرقت اللوموند ديبلوماتيك (عدد حزيران/يونيو 2010) للعلاقات الحرام بين المال والسياسة والفساد والزبائنية.. وفي ضوء الوقائع المرّة مما تشهده الانتخابات وتداخلاتها بعالم المال والسلطة، تساءلت «هل ما زال الحكم السياسي ممكناً من دون خدمة المالكين وأصحاب الملايين؟».

وفي كتاب له بعنوان «السلطة لا يمكن تقاسمها» صدر العام 2009، يذهب إدوارد بالادور رئيس الوزراء الفرنسي السابق للقول «إن السياسة بحاجة إلى المال، حيث تحوّلت السياسة إلى مهنة، تتطلب تنظيماً يزداد كلفة، باللجوء إلى محترفين يعرضون خدماتهم مقابل ربح مباشر، سرعان ما أصبحت مساعدتهم تؤمن أكبر ربح ممكن». على أن أبرز ما يمكن أن نراه إزاء خطر تشابك السلطة والمال، يتجسد اليوم في عالمنا المعاصر في مسألة الانتخابات، حيث يبرز ليس خطر مثل هذا التشابك، بل تحوّل السياسة المدعومة بالمال إلى مرتع للفساد والإفساد، وتخليق علاقات وتداعيات غير عادلة، حتى أنها وفق بالادور، «تتعرض أحياناً لكرامة المواطن، في اعتباره مجرد سلعة سلبية يجب الحصول عليها بأي ثمن»، على ما أضحت تمارسه بعض نخب المال والسلطة والدين، المدعومة بدورها من أوليغارشيات طبقية ومالية وعسكرية وأمنية ومخابراتية، وأساطين وسدنة الرأسمال المعولم، والمهيمنين على عالم المال والسلطة بعلاقتهما المتجادلة والمتشابكة؛ حيث يمكن للسلطة أن تتحوّل إلى رهينة غلبة المال عليها أو العكس، أو تصبح السلطة والمال شيئاً واحداً مندمجاً ومندغماً.

هنا تحديداً يكمن مجال اشتغال الرأسمال الوهمي، أو بعضه، ذاك الذي أثبتت الأزمة المالية العالمية مدى سعته، كما أشارت وبالملموس إلى ذاك «المنطق المجهول لرأس المال» بحسب مؤلف كتاب بهذا العنوان، وهو الصحافي الفرنسي آلان بوهير، حيث حقق إنجازا بتقديمه شرحا واضحا جدا، عن تحول فائض القيمة إلى أرباح، وعن تعديل معدل الربح وظهور الربح المتوسط. على أن تقييم الرأسمالية المنبثق من هذا التحليل، هو تقييم لنظام تتحكم فيه الأشياء (البضائع، المال ورأس المال) بالبشر، وتنتصب في وجههم، كما يقول بوهير، «كآلهة بربرية تطالب بتضحيات بشرية».

وبما أنه في نظام الرأسمالية الاحتكارية، كما في أنظمة الهيمنة الطبقية والأنظمة الأبوية التي تنتمي إلى ما قبل الدولة والمجتمعات المدنية، تتشكل السلطة عبر مؤسسات أو شركات كبرى تخضع لأوامر سلطوية من كل تلك الأنساق «النظامية» التي تمتلك المال، فهي كذلك المصدر الرئيس للسلطة السياسية، السلطة الناتجة من ضعف كل الآليات المتاحة شعبياً ورقابياً وانتخابياً، وهي الآليات المغيّبة، مهما قيل عن حضورها، فالحضور الفاعل فقط؛ يعود إلى من يمتلك المال والسلطة. وتلك سمات الأنظمة السياسية الطبيعية للرأسمالية، وكل الأنظمة السياسية الطبيعية للتشكلات الطبقية ما قبل الرأسمالية والأنظمة الريعية، والعلة هنا كما الأدواء واحدة: الديموقراطية وحدها بآلياتها ليست هي وحدها التي تنتج أي نظام سياسي، بل إن انقلابات السياسة وسط عالم المال والفساد والزبائنية، هي التي باتت تنتج النظام، ولم يعد هذا الأخير مولّداً للسياسة، بقدر ما هو شاهد على موتها.

من هنا كان لدخول الشعوب معترك السياسة، واحد من مسارات تسجل لانبثاق لحظة تاريخية فارقة، انفلتت من إسارات وأسيجة الأنظمة الحاكمة على اختلافها؛ هامشية أو محورية أو مركزية، تتشارك جميعها في العديد من طبائع الاستبداد، والتعاطي مع شعوبها انطلاقاً من وقائع الإكراه والغلبة، ومن معطيات سيادة الخوف والصمت سياسة معمّمة، وتقريبها من فضاءات الأمن والحلول الأمنية لمعضلات الكرامة والحرية والديموقراطية والمواطنة والدولة المدنية الحديثة، في الوقت الذي يجري إبعادها واستبعادها من فضاءات السياسة والعمل السياسي، بل تبغيضها بتلك الفضاءات، عبر إخضاعها لأحاديات الزعيم والحزب والدور «الخلاصي» و«الرسولي التكليفي» للنظام أو للأنظمة الرديفة، وهي تتغنّى بشرط الاستقرار – من دون الاستقلال – على حساب حرية شعوبها وتطلعاتها الطبيعية المشروعة نحو ابتناء لحظة ديموقراطية، منها وعلى قاعدة أساس من إنجازها لتلك القاعدة، يجري مضاهاة والتضاد مع كل أشكال الاستبداد السياسي والديني، المجتمعي والأهلوي على حد سواء.

وإذ لم تستكف بعض الأنظمة بمحاولة فرض حلولها الأمنية لمعضلات السياسة والحرية والديموقراطية ومأزق المواطنة الذي تعيشه، بل مضت وتمضي نحو فرض نزوع ومسلكيات انتقامية عبر ترويجها لروح عصبوية وتعصبية متمذهبة، فلكي تؤكد قطعها الطريق على كل حل؛ سوى حلولها التي لا تفعل سوى أن تنفخ أو تنفث النار في حرائق معضلاتها التي أشعلت الحقل كله. وهنا نجد أنفسنا أمام أنظمة لا أفق لها ولا ظهير أو سند، سوى تلك التي تشابهها في الطبيعة والطبع والأدوار الداخلية، ومحاولة استمرار لعب أدوار خارجية تغيّرت معطياتها ونظرة قوى الخارج الإقليمي والدولي لها، وهي تبدل معطياتها في ضوء ما يجري على صعيد الأزمة الوطنية، في ضوء وتحت ظلال اللحظة الديموقراطية الراهنة في بلادنا.

لكن الأخطر في ما يجري، هي تلك الخطابات المتمذهبة لدى أنظمة تشيطن شعباً و«تجرذنه»، كي تلعن بطلان مواطنته، وتكرّس عداوتها «المميزة» لأهداف ومطالب أغلبية شعبها، ليبدو الواقع في العديد من قلب أنظمتنا ومجتمعاتنا؛ واقع أزمة سياسية تاريخية مركبة، فشلنا وخلال عقود من سنوات الاستقلالات الشكلية، في مقاربة نموذج الدولة الوطنية التي ورثت من الدول الكولونيالية الغربية نماذج من سلطات مركبة كذلك، لتنام طويلاً على إرث الاستبداد والعداء لثقافة المواطنة، تعزيزاً لثقافات وهويات فئوية وطائفية وعرقية، ناهيك عن أيديولوجيات التفتيت التي باتت «تميمة» أنظمة قدّمت لها كل فروض الولاء والطاعة حد التقديس؛ في مواجهة جموع شعبية اكتشفت وطنيتها الجامعة، في سياق مطالباتها وأهدافها في ميادين وساحات التغيير، استمساكاً منها بوحداتها الوطنية، في مواجهة غيلان ما تطلقه الأنظمة، وهي تحاول إبعاد هواجس اختفائها عن مسرح الأزمة التاريخية الكبرى التي صنعتها بيديها، وما برح بعضها يعمّقها، أملا في تجاوزها لمصلحته، لا في مصلحة الدولة أو مجموع أبناء شعبه، وهنا تكمن هواجس سيادة روح عدمي، تماري السلطة فيه ذاتها كونها «المقدس» الذي لا يغشاه الباطل من أي مكان.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى